هُدى شعراويّ، أيقونة النضال النسويّ

نسرين رجب-لبنان

واحدةٌ من نساء عصرها اللواتي كان لهُن الأثر الفعّال في رفع الصوت الأنثويّ عاليًا حتى صدَح في الآفاق، في زمن كان الحظرُ على النساء شديدًا، وكُنّ يعشن في ظُلمات الأعراف والتقاليد وقلّما يُفسح لهن التحليق خارج السرب، برزت ومعها الكثير من نساء تلك الحقبة المُضطرِبة من تاريخ مِصر، أمثال: نبويّة موسى، عديلة نبراوي، دريّة شفيق، وغيرهنّ الكثير؛ فالشجاعة في البدء. وإنّ المُطّلع على سيرة حياتها التي أرّخت لها في مذكّراتها (التي أملتها على سكرتيرها عبد الحميد فهمي مرسي، الذي عمل على تنظيمها وإعدادها للطباعة والنشر، ونشرتها دار الهلال بتقديم الكاتبة الصحفيّة أمينة السعيد، في أيلول/ سبتمبر عام 1981.) يتساءل بإعجاب كيف استطاعت هذه السيدة وغيرها الكثيرات أن يكنّ بهذه القوّة وأن يبدين هذه الشجاعة والصلابة؟!

        بلُغةٍ مُحكمة وأسلوبٍ سرديّ مُمتع برز في القسم الأوّل من المذكرات، يُطالع القارئ بشغفٍ مسار طفولتها وشبابها ويشهد على عادات وثقافة ذلك الزمن القديم في القصور المُترفة، ويُلاحظ تكرار مصطلحات مثل (عبد، جارية، مملوك، أعتق، الحريم) وكيف كان تسوّق  النسوة من الطبقات الراقيَة في المحال التجاريّة هجنة، وتعليم الفتيات بدعة لا حاجة لها، وفي هذا دلالة أنّ التحوّل لم يكن سهلًا، وخاصة عندما تقفز من الشخصيّ الذاتي إلى ما هو أبعد من الذات في القسم الثاني فيفرض العام سلطته ونجد فيها امرأة ثائرة متحررّة تطالب مع بنات جنسها بالمساواة في التعليم، وتُبدي أراءها في السياسة والاقتصاد، بل وتُقابل ساسة العالم في ذلك العصر أمثال (موسوليني و مصطفى كمال أتاتورك).

        امرأةٌ من ذلك العصر

        نور الهدى محمد سلطان شعراوي، وُلدت في مدينة المنيا في صعيد مصر في 23 حزيران/ يونيو 1879، والدها كان محمد سلطان باشا شغل منصب رئيس النواب في البرلمان المصري في عهد الخديوى توفيق، وأحاط بتاريخه الكثير من الأحداث. تروي ابنته هدى، والتي آنست أبوته حتى عمر الخامسة ليتوفى من جراء المرض في النمسا، أنّ والدها تعرّض للكثير من سوء الفهم من قبل المُغرضين. وكان اختيارها الانتساب لعائلة زوجها على سبيل الأخذ بالعادة الأوروبية التي تنسب المرأة لزوجها.

        عانت في صغرها من التمييز على قاعدة النوع الاجتماعي بينها وأخيها محمد، فكانت زوجة والدها بمثابة الأمّ الثانية لها، تهوّن عليها ما كانت تقاسيه من هذا التمييز: “ليس تفضيلًا ولكن لأن الولد هو الذي يحمل اسم الأسرة ومسؤوليتها..”

        نشأت على حفظ القرآن ودراسة العلوم وتعلُّم اللغات العربية والتركية، وتعلّمت الفرنسيّة على يدّ معلمّة إيطاليّة كانت تُجيد العزف على البيانو، وهو أمر استهواها فتعلّمته، كان يُشرف على تأديبها ومتابعتها وأخيها المُربي “سعيد آغا”. ظلّت لمدة طويلة تطمح لتعلّم قواعد النحو العربيّ إلّا أنّ مُربيها قابل طموحها بالسُخريَة “لن تصبح محامية يومًا ما” مما أثار حزنًا كبيرًا في نفسها وهذا لم يُثنها عن تحقيق مطلبها لاحقًا.

لطالما أُعجبت بنموذج المرأة المتحرّرة والمثقّفة من أصر التقاليد المتزمّتة، فتُشير غلى إحداهنّ: “كانت تحضر مجالس الرجال وتتباحث معهم في أمور أدبيّة واجتماعيّة بينما كنت أرى في المرأة الجاهلة ترتعد فرائصها خوفًا ويتصبّب جبينها عرقًا إذا قضى الحال أن تحادث رجلًا ولو من وراء ستار!”

في سن الثالثة عشرة من عمرها اختارت والدتها لها الزواج من ابن عمّتها علي شعراوي الذي يكبرها بأربعين عامًا والذي كان بعد وفاة والدها وصيًّا عليها وأخيها، وفي وصف حالها بعدما حُرمت من طفولتها بغتةً: “بكيت على أشجاري وبكيت على طفولتي ورأيت في الحديقة الجدباء صورة من الحياة التي سأعيشها منفصلة عن كلّ ما كان يؤنسني ويسليني”. بعد سنوات من الاكتئاب وسوء التوافق، انفصلت عن زوجها لمدة سبعة سنوات  عندما عرفت من والدتها عودته لزوجته الأولى خلافًا لشروط عقد الزواج، وهو أمرٌ سرّها وجعلها تتفرّغ لصقل  ذاتها وتحقيق مطامحها.

وبعد سنوات من التدخّل والواسطات العائليّة عادت إليه، وأنجبت طفليْها “بثنة ومحمد”، شجّعها زوجها في العام 1895 على طلب العضوية من لجنة السيدات لمساعدة الأتراك في حربهم مع اليونان “كانت هذه أول مرة أقوم فيها بالمساهمة في عمل اجتماعي إنسانيّ عام نبهني إلى واجب الفرد نحو المجتمع…” في العام 1908 نجحت في إقناع الجامعة المصرية للمرّة الأولى بتخصيص قاعات للمحاضرات النسويّة، وأسست قبلها جمعية لرعاية الأطفال 1907. شجّعت نساء الطبقات الراقية على دعم المشروعات ماليًا ومعنويًا. منذ العام 1919 برز دورها في مجال السياسة، حيث كان زوجها ناشطًا سياسيًّا مما ساهم في انخراطها في الثورة، وبعد اعتقال سعد زغلول ونفيِه مع مجموعة من الثوّار إلى جزيرة مالطا، حلّ زوجها وكيلا للوفد، وكان حريصًا على إطلاعها على ما يحدث. وفي ذلك العام شاركت بقيادة مظاهرات للنساء للمطالبة بالإفراج عن سعد زغلول، وأسست لجنة الوفد المركزيّة للسيدات وأشرفت عليها.

        رائدة التحرُر النسويّ

        على أثر الدعوة التي تلقّتها لجنة الوفد المركزيّة للسيّدات المصريّات في العام 1923 لحضور مؤتمر في روما بدعوة من الاتحاد النسائيّ الدوليّ، بدأ تشكيل الاتحاد النسائيّ المصريّ في آذار/ مارس 1923،  وانتدبت الجمعيّة ثلاثة سيدات هنّ (السيدة هدى شعراوي، السيدة نبوية موسى، والآنسة سيزا نبراوي) للمشاركة في حضور المؤتمر، تقول في مذكراتها: “وكانت هذه أوّل مرّة يرتفع فيها صوت المرأة المصريّة في الخارج بإشراكها في هذا المؤتمر”، حضر المؤتمر مندوبات عن ستة وثلاثين دولة، وقد أحدثت فصاحة وثقافة السيدات المصريات إعجاب الحاضرات “كأنما كانت المرأة المصرية المحجبة مطبوعة في مخيّلتهنّ بطابع الجهل والهمجيّة، ولكن سرعان ما تغيّرت تلك الفكرة في أذهانهنّ عندما رأيننا نؤدي رسالتنا على الوجه الأكمل”، وأصبح الاتحاد بعد دعوته منخرطًا في سلك الاتّحاد النسائي الدولي كنوع منه يمثّل مصر وأصبح ذا صفة دوليّة وقوميّة. ولقد تأثر الوفد المصري بقوّة المرأة الغربيّة ولمس أثرها في النهضة الغربيّة، تقول في مذكراتها: “وقد أخذنا على أنفسنا عهدًا  أن نحذو حذو نساء أوروبا في النهوض بنسائنا  لنصل ببلادنا إلى المكان اللائق بين الأمم الراقية”.

        من جملة المطالب التي نادت بها: (التعليم العالي للفتيات، وضع قانون لتحديد سنّ الزواج 16 عامًا، إلغاء عادة تعدّد الزوجات، حقّ المرأة في طلب الطلاق، تعسُف ما يُسمى ببيت الطاعة، حقّ المرأة في الحضانة…) ورأت أنّ قاعدة “وللذكر مثلُ حظّ الأنثيّين” فيما خص التوريث، مُنصفة: “فالمرأة المسلمة تتمتّع في الحياة المدنيّة بكفاءة كاملة، والقانون يكفل لها الاستقلال التام في التصرّف بأملاكها”. وخلُصت إلى أنّ المرأة المصرية ليست بحاجة لتصبح مساوية للرجل، إلا في التعلّم والمطالبة بإصلاح بعض العوائد المتعلقة بالزواج والطلاق.

        ساهمت في إرسال الكثير من البعثات العلميّة (شبان وشابات) وعلى نفقتها الخاصة إلى خارج البلاد، وفي إحياء الصناعة المصرية من خلال افتتاح مصنع لأعمال الخزف وجميع أنواع الصيني، وفي تمكين النساء القرويات عبر إنشاء النوادي التعليميّة والمهنيّة.

لم تتنكّر لثقافتها الإسلاميّة، كانت بعيدة الرؤية وذات علمٍ وثقافة، ويتبدى ذلك في الخطابات التي كانت تُلقيها وتكتبها منها كتاب “السلام العالمي ونصيبِ المرأة في تحقيقه” والذي هو عبارة عن خطاب مُطوّل، حرصت في كلّ مؤتمر حضرته وشاركت به على المطالبة بحقوق المرأة السياسيّة والمدنيّة، واتّخذت من النص القرآنيّ ومبادئ الإسلام شاهدًا على أن وضع المرأه سببه اجتماعيّ وليس دينيّ، وأنّ الإسلام كرّم المرأة ومنحها “حقوقًا لم تحصل عليها من قبل”، فيما لم تفكر المرأة في استعمال هذه الحقوق بسبب الجهل الذي شبّت فيه. كانت ردودها على من ينتقد مطالبها ومسارها النضالي النسويّ دبلوماسيّة، وحرُصت على إبداء مقاصدها وتوضيح ما قد يُأوِّله البعض خطأ: “من الخطأ التوهم بأنّ الهدف من الحصول… على الحرية والمساواة مع الرجل هو السفور ومزاحمة الرجل في مبادئ السياسة والعمل، بل هو الحصول على حق المرأة في التشريع والتنفيذ حتى يمكنها المساهمة في علاج الأحوال الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وبخاصة ما كان متصلًا بشؤون المرأة والطفل…” ومع ذلك لم تسلم من التأويلات الخاطئة.

        كانت تُناقش بالحجة والدليل، مما يدُل على إحطاتها بمسائل عصرها وشؤون بلادها السياسيّة، فهي كانت مقربة من زعيم الثورة المصريّة زغلول وتحظى باحترامه وتقديره ولكنّها لم تكن مداهنة فكانت توجه له الدعم والتأييد في منفاه، وتناقشه وتجادله في المسائل الوطنيّة، وتخالفه الرأي في المواقف التي لا تجد فيها صالح البلاد.

 أسّست لجنة مقاطعة كل ما هو إنكليزي كنوع من الاحتجاج على سياسة الحكومة الإنكليزيّة في مسألة مصر والسودان.

        ناصرت العديد من القضايا في المؤتمرات التي شاركت فيها ومنها مؤتمر جراتز في النمسا الدولي لمناقشة قضايا الاتجار بالنساء والأطفال. وفي عام 1938 نظّمت مؤتمرًا نسائيًّا للدفاع عن فلسطين، وفي العام 1944 دعت الاتحادات النسائيّة العربيّة إلى عقد مؤتمر عربي نسائيّ آخر في القاهرة من أجل بحث قضية فلسطين وموقف المرأة العربية من هذه القضية. بينت في كلمة الافتتاح أن هذا المؤتمر “يُعقد لدراسة قضيتي فلسطين والمرأة، وكلتاهما قضية حقوق مهضومة يجب أن ترد إلى أصحابها”. ونادت بوجوب التضامن العربي تجاه هذه القضية. وبعد صدور قرار التقسيم  لصالح اليهود من قبل الأمم المتّحدة، توفيت على أثر نوبة قلبية في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 وهي تكتب بيانًا شديد اللهجة  تطالب فيه الدول الغربيّة أن تقف في صف القضية الفلسطينيّة.

        لا يسلمُ الشرف الرفيعُ من الأذى

        طالت سيرتها سقطات عدة لعلّ أشهرها وأكثرها مسًّا بتاريخها النضاليّ هي قصّتها مع المغنيّة فاطمة سريّ، التي تورط معها ابنها محمد في علاقةٍ أسفرت عن حملها بابنتهما ليلى، وما بين المحاكمات ورفض الأب تحمل مسؤوليّة الاعتراف بأبوّته، ولربما تضخُم الأنا الثائرة لـهدى شعراوي والتي منعتها من أن تُعاين الموقف بحكمة أكثر، حتى  أُثبت نسب الطفلة في المحاكم وفُرض الاعتراف بها على العائلة، أُخذت الطفلة لتعيش في كنف العائلة، وفَرضت على ابنها الزواج من فتاة ذات حسبٍ ونسب.

راسلتها فاطمة تذكّرها بمبادئها كنسويّة تطالب بحقوق النساء وكان لها لقاءات في الصحافة، وذلك لم يُثر تعاطف السيدة هدى معها، وهو لأمرٌ يكشف عن أزمة موقف حقيقيّ لم تتطرق له في مذكراتها. فقد توقّفت في مذكراتها عن سرد الشخصيّ عند موت أخيها والذي عنه تقول “وبموت أخي رحلت معه كل آمالي في الحياة لأنه كان بهجة حياتي ومبعث الأنس والبشر فيها..” وقبلها موت والدتها. لرُبما توالي الصدمات في حياتها جعلها بشكل غريب حريصة على عائلتها وعلى سمعتها التي كانت ترى في المغنيَة ما يثير الريبة وتغفل عن رؤية الإنسان فيها، ولو أنصفت لرأت أنّ المشكل في ابنها والذي لربما كان تفانيها في  تاريخها النضاليّ عائقًا أمام حُسن تأديبه، فيُقال أنّه بعد وفاة والدته طلّق ذات الحسب والنسب وتزوّج براقصة وفي هذا بالطبع ما كان سيودي بحياتها لو كانت حيّة!

        أمّا بشأن ما يحشد له أدعياء التدّيُن والمُتمسّكين بالقشور ونسبهم لها مقولات وأفعال تضعها في خانة المرأة اللاهثة نحو الشهرة والمدنّسة للدين. فهي قصة خلعها الحجاب وأنّها داسته بقدمها، واتّهامها بتشجيع النساء على السفور.

في حوار صحفيّ لها في مجلة الهلال المصرية 1927 العدد 6 مع الصحفي كريم ثابت العام 1927، أوضحت أنّ النقاب والذي كان نوعًا من اللباس لكافة النساء المصريات وخاصة النسوة من الطبقات الرفيعة، كان من العوامل التي أدّت إلى بقاء المرأة في درجة من العلم لا متأخر عنها ولا متقدّم، وذلك أنّه في سن معيّنة  يُحال دون ذهاب الفتيات إلى معاهد التعليم، وقد تمكنت  الكثير منهنّ من ارتشاف مناهل العلم وإتمام دروسهن في الجامعات الأوروبيّة. وتُضيف في السياق، أنّ السفور جاء بعد العام 1919، “خرجت النساء في مظاهرة للمطالبة بحقوق مصر ونحن محجبات وليس فينا سافرة واحدة”، وتذكر أنّ زوجها حاول منعها من الذهاب، ولكنها فرضت رأيها: ” وسرنا ونحن سكوت بين بنادق الإنجليز وتصفيق الوطنيين إلى أن بلغنا دار سعد باشا”. وعن نزعها البرقع عن وجهها بعد العودة من المشاركة في مؤتمر روما العام 1923، حتى اقتدت أثرها عدة نساء بعد ذلك: “لا يعقل أن الإسلام الذي منح المرأة حقوق الامتلاك ورعاية أموالها بنفسها ما لم تبلغه المرأة الكاثوليكيّة، والذي تقول المذاهب الأربعة أنّه يجوز للمرأة إبداء الوجه والكفين؛ أقول لا يُعقل أن الإسلام وهذا شأنه يقول بهذا الحجاب الذي يؤخّر رقيّ المرأة المصريّة”. وكانت من المؤيّدات لفكر “قاسم الأمين” في كتابه “تحرير المرأة”.

        لـهُدى شعراويّ العديد من المناقب والآراء في السياسة والمجتمع، وتاريخها النضاليّ ومواقفها لا يتّسعُ هذا المقال للحديث عنها كلّها، فقد أسهمت والكثيرات من رائدات ذلك العصر في ترسيخ مبادئ التحرُر النسويّ، كان امرأة مسكونة بالهمّ الوطنيّ، ونشِطة في كلّ المجالات، وعلى الرّغم من انبهارها بالفكر الغربيّ وإعجابها بقوّة المرأة الأوروبيّة إلّا أنّ ذلك لم يدفعها لتبنيّ قضايا خارج سياق المجتمع المصريّ والعربيّ، بل ناقشت قضايا من صُلب الواقع، وعلى مساس بوضعيّة المرأة والمجتمع فيه، وكان من عظيم أثرها أنّها ما زالت حتّى اليوم مثار جدلٍ واهتمام لدى المعجبين والمُعارضين لفكرها.

العدد 130 / تموز 2022