بين لقمان وخادمه مملوك… بانوراما فاسدة

 

قال الخادم لسيده لقمان: يا مولاي، أرى في الجموع مطايا، وفي العيون عظايا، وفي القلوب خبايا، فمن يصلح أمر الناس؟

 قال لقمان: إصلاح الناس لا يكون إلا بالإستغناء عنهم، ولا يبدأ إلا بنفسك، ولا ينتهي إلا بغيرك، فالإستغناء هو الإغناء يا مملوك.. .

  لكن لا يلحس الحديد إلا المبرد يا سيدي.. .zoher ganem

  لا تضيع عقلك بطولك يا مملوك، فمن يركض كثيراً يصل متأخراً، فالخالق لا يحتاج إلى خلقه، وكذا الحاكم، فإذا تزوجتَ إبنة عمك لا تطوطح بكُمك كي لا تقع فلا يعود لك مكان… إرفع الغطاء عن عينيك تبصر الغباء بين محجريك، فالحذر كل الحذر قبل نزول الخطر.. .

  لكن يا سيدي أرى عجباً في هؤلاء القوم، ينتفون شنب الأسد الميت، بعدما غابت السباع ولعبت الكلاب، وصار الخادم سارقاً ولا شريك يحاسب، والقانون سَنّ للغني والعقاب للفقراء، وصار ظلم الأقارب كسّم العقارب، وعلى ما يبدو أنه بعد الحرب كثر عدد الأبطال.. .

 ردّ لقمان على خادمه بالقول:

  إشترِ الكلام ولا تبِعه يا مملوك، فلا يضيع من يسير على درب مستقيم، فالجاهل هو الذي يعجب بنفسه، ومن المعروف لا بل من المؤكد، أن من يشتري قفصاً سيطلب عصفوراً، فأحرص على الصيت الحسن كعقد من اللؤلؤ… وبالتواضع لا يفخر أحدٌ على أحد.. .

 ( قاطعه مملوك قائلاً)

  لكن يا سيدي لقمان انت القائل أن لا قيمة للآلىء داخل صدفتها، وأن من يحكم بين صديقين سيخسر أحدهما، وخسارة الصوف أفضل من خسارة الخروف…فالناس جياع والمال مستباح، والخطيئة تتبعها أخطاء، والبعض يرتفع بالخطيئة والبعض الآخر ينهار بالفضيلة…أو ليس هذا من مآثر الجحود قبل الإقرار؟!

هزّ لقمان رأسه علامة التجاوب مع خادمه مملوك وقال:

   هذا ما قلته لك كثيراً يا مملوك، وخير دليل على قولي كلامك، فالحياة بلا صدق موت بلا شاهد، ومن مآثر الفعل الطيب أنه يعود على صاحبه، فسلطان بلا عدل كنهر بلا ماء، لكن إذا أردت أن تطاع فاطلب المستطاع، واعلم أن شجرة الكسل لا تثمر إلا الجوع، والمال الذي يذهب لمن لا حاجة له به، هو مال موهوم ـ أي فاسد ـ لا يستعمل لفائدة يُرتجى منها نبلاً، وكل مال لا يُرتجى نبلاً لا نفع فيه.. .

 أطرق مملوك يفكر في كلام سيده ـ هنيهات ـ ثم أردف:

  مقبول كلامك أيها الحكيم، لكن ألا ترى معي أن النحلة لا تلسع إلا الوجه الحزين، والحيلة صارت انفع من الوسيلة والأيام تتعاقب لكنها تتشابه، وأنه بفلوسك تصير بنت السلطان عروسك، وإذا ما عاشرت الذئاب تعلمت العواء، فإبن الحنش ثعبان،كما يقول الراوي يا سيدي ، وخادم البخيل يصبح لصاً، ألم تعلمني، أن خميرة جارك لا تخمر عجينك، وأنه عند الضيق لا أخٌ لك ولا صديق.. .

 قاطعه لقمان بنظرة أدرك معها مملوك أن من كثر كلامه قلّ فعله…

 العمل تراب يا مملوك والبطالة زعفران، فإذا صادفت السفيه إصنع له كعكاً وأعطه ـ فلا تعيّرني بما علمتك، فالدهر حيّرني ـ لكن ما يجب أن تعرفه هو أن من جمع لك مع المحبة رأياً، فإجمع له مع المحبة الطاعة، فالشمس لا تغيب أبداً، هكذا محبة الصديق.. وتأكد أنه بمقدور النملة أن تؤذي فيلاً، فالخيل ظهرها عز وبطنها كنز، فلا تحزن ولا تأسف على شيء لأن الجاهل يطلب المال، والعاقل يطلب الكمال ولا يدرك العلم من لا يطيل درسه ولا يكد نفسه… كم ذليل أعزّه عقله وعزيز أذلّه جهله…لقد حملت الصخر والحديد فلم أجد أثقل من الدَين، وأكلت الطيبات وعانقت الحساء فلم أجد ألذ من العافية، وذقت المرارات فلم أذق أمر من الحاجة إلى الناس…فإدركني يا مملوك، فبين القول والفعل يتوسط البحر، والأنهار القديمة تجري على هواها… فالثقة بالله أذكى عمل، والأصل الشريف أفضل من وجه ظريف، ولكن يبقى أن قلب الرجل رأسه، وتاجه تواضعه، فخذ بيدي لقد حانت ساعة النوم…

أرخى مملوك بثقله على سيده لقمان، وأمسك بيديه الإثنين، وعمل بهما من تحت أبطيه وقال له: علمت الآن يا سيدي أن الأدب خير من الذهب… والذي يعرف أن يتكلم يعرف متى يتكلم، فنور الحقيقة أفضل بكثير من نور الحديقة… وأدركت أيضاً أن عذاب الرجل الكسلان الجوع والحرمان… فالجهالة أمرّ الشرور، والذي يمتطي جمل جاره لن يصل إلى داره. ..

  مملوك..صرخ لقمان..

  حاضر يا سيدي سأخفف كلامي…فالأحمق يعطش وهو في الماء. ..

 مملوك…يا مملوك…

 حاضر، حاضر، ها قد وصلت إلى فراشك، ووقفت على ما تقول، وسأحفظ ذلك ما دمت حياً.. .

         اطفىء النور واذهب إلى مأواك..

        نعم يا سيدي لقد قلت لي مراراً: كي ترى نور الله أطفئ شمعتك قليلاً ، تصبح على خير.. .

   خرج مملوك من غرفة سيده بإتجاه مأواه وهو يردد: يا ضيعان المسك من سوق البصل…

الشاعر

من المستحيل أن يكون الشاعر قديساً على الورق، بل هو من أهم زنادقة الزمن… وعليه، فإن اللحظة الشعرية تقيم عرشها وملكوتها حين تستدعي الصدق، والألم والمشهد المختلف… الشاعر أكثر من فيلسوف وأقل من روائي، والحياة مسرحية والزمن فيها الشيطان الأكبر… كونه العارف والمتحدي والجريء والصادق في تظهير صورته وأفعاله…

أما على أرض الواقع فأنا هو نفسي الشاعر المتصارع مع نفسه دوماً، والمؤسس لفكرة الانتقال من المشهد- الصورة الى المشهد- الحلم، لأنقذ نفسي من هذا الكوكب العجيب الذي اسمه الأرض… وعليه، فأنا أكبر خطيئة أوجدها الشعر على الأرض…

خمس سنوات على غياب زهير

لم تكن طريق اللاذقيّة مسكونةً بالجنّ والعفاريت بعد… لذا، كان لا بدّ أن أقطع الطريق عليه وهو يسير في شارع الحمراء كعادته مساء كلّ يوم، لأقول له »مرحبا زهير« الحياة لم تزل تليق بك، فلا ترحل قبل أن تستنفد دمعك وحسرتك وخوفك من العالم وعليه…

كانت اللحظة أقرب من الرقعة فلم يخطر ببال أصدقائه أنّه سيرسم وجهه بحبر العتمة، فنسج صورته على محيّاهم ومضى، وأصرّ أن يمضي رحلته سيرًا على الأقدام… وفي عطلة نهاية العام قال للساعة الثانية عشرة وداعًا لبيروت التعب، لبيروت الانهيارات السريعة ، لن يأتيكِ أفضل ممّا كان…

حمل جسده معه، ولم يخبرنا عن اشتياقه لبحر اللاذقية وهو يصدح مع أبي العلاء المعري: / في اللاذقية ضجةٌ / ما بين أحمد والمسيح / هذا بناقوسٍ يدقّ / وذاك بمئذنةٍ يصيح / …

في ذكرى غيابه الخامسة غرف زهير غانم ترابه من أحمد والمسيح ومضى يضحك علينا لأنّنا لم نزل أحياء…

إلى اللقاء يا صديق الأمنيات…

مَن أنا ؟

أنا أربّي نفسي على الفعل لا على الصدى… أحاول أن أكون مواطناً يسمح لزوجته أن تفعل ما يجيزه لنفسه القيام به… أقف كل يوم أمام نفسي لأقول: »من أنت أيها الغبي في تغيير الفضاء«..؟ أتجه بالنقد الى نفسي أولاً، لشخصيتي، لقراءاتي، لبيئتي، لنوازعي الذاتية، ثم أعيد ترتيب الأفكار لدي على عمر اللحظات التي أعيش… أنا مرغم على العيش لكني لست مرغماً على الكتابة… لذا، كتاباتي أبعد ما تكون عن نقدي لها… فهي أكثر حرية أن يقول فيها الآخر لا أنا… أعيش وأجرّب وأحاذر السمعة البليدة، لكني أقتحم بمفكرتي وخيالي النص بكثير من الشجاعة والتمرّد في آنٍ واحد… وهذا لا يكفي بنظر البعض، لكني أجد نفسي حرّاً وخارج أسرة الاعتقاد المطلق… أنا لست مصلحاً اجتماعياً أو فيلسوفاً: أنا تابعٌ لشغف البحث عن الذات بالأدوات الموجودة…

الشاعر زهير غانم