»مشروع ليلى» و»يا مال الشام»

بيروت – جاد الحاج

لينا شماميان... رحّب بها جمهور بيت الدين
لينا شماميان… رحّب بها جمهور بيت الدين

جبيل

التهجين الثقافي واقع العصر وسمة العولمة الاكثر بروزاً. حيثما نظرت ترى انكسار السياق المحلي للإبداع لحساب الطفرة السائدة عالمياً، خصوصاً طفرة موسيقى »الروك« على اختلاف انواعها وتعدد انماطها. في الصين، في اليابان، في الهند، معاقل شرقية ذات عمق تاريخي عريق وجذور بعيدة الغور في الذهن والمخيلة والفولكلور، مع ذلك غزاها إيقاع الطبل والصنوج وزعيق الميكروفونات الضخمة، مكللة بالمطربين الصارخين عالياً فاعلى، تجاوباً مع رغبة جمهورهم اللحاق بالوجه الاستهلاكي للعصر الحديث. وما تلك الموسيقى سوى طفرات انفعالية ذات منحى نسخي تنأى عن جذورها الأصيلة، مهاجرة الى اعتاب الآخرين، كما تهاجر طيور ضالة الى اقرب ملجأ دافىء.

نسبة الى كثيرين ، ثمة شطط محزن في تجربة » مشروع ليلى« المتطابقة مع تلك الموسيقى، بل ثمة »ملغصة« فنية بارعة الديكور والبهرجة ، خالية من اي اضافة تستحق الإهتمام. لكن هذا لا يلغي ضرورة التوقف عند »المشروع…« كظاهرة.

في شباط )فبراير( 2008 نشر عازف الكمان هايغ بابازيان وعازف الغيتار اندريه شديد وعازفة البيانو امية ملاعب دعوة للبحث عن فضاء للتنفيس عن ضغوط الجامعة )الاميركية في بيروت( والوضع السياسي القائم في لبنان. تجاوب سبعة طلاب مع الدعوة بينهم المغني حامد سنو. في السنة نفسها ظهرت الفرقة في مهرجان الموسيقى الذي تنظمه بلدية بيروت وحازت على تمويل لألبومها الاول على رغم الجدل الذي اثارته جرأة كلمات اغانيها. وبعد سنة تقريباً احتفل الشباب بانتاج الألبوم في باحة مصنع للحديد في برج حمود امام اكثر من الف شخص، ما حضّ مهرجانات جبيل على قبول مشاركتهم في اعمال 2010 حيث قدموا مجموعة اغان جديدة عنوانها »الحل الرومانسي«. وفي السنة التالية بعلبك … وكرت السبحة بسرعة مذهلة: باريس، لندن، امستردام، تونس، جنيف، دبي، نيويورك وغيرها…من دون عقبات تذكر، حتى وصلوا الى عمان لتقديم عملهم الاخير »ابن الليل« في المدرج الروماني. هناك تقدم النائب في البرلمان الاردني بسام البطوش بطلب لمنع حفلة »مشروع ليلى« بحجة احتوائها عل ترويج افكار غريبة عن الثقافة العربية والاسلامية، وتطرقها الى مواضيع جنسية ومثلية ودعوتها الى الثورة على الحكومات …ووجود شبهة عن علاقتها بعبادة الشيطان! ما ادى الى صدور امر بمنعها النهائي من العمل في كامل الاراضي الاردنية.

انطلق«مشروع ليلى«من حاجة شبابية الى التنفس والتعبير خارج الأطر المألوفة ، حاجة ملفوحة بروح التمرّد على انماط مجتمعية متعسفة ضد حرية التعبير، خصوصاً الجنسية، وعلى رأسها حرية المثليين. وامتلأت اغانيهم باشارات وتلميحات وتوريات تدعو الى تحرير المكبوتين والممنوعين من إشهار افضلياتهم وممارستها من دون تعريضهم للسجن والإضطهاد. رافق تلك الدعوة نقدات سياسية مكرورة لا جديد فيها، وليس في المستوى الفني لكلماتها ما يلفت النظر، بل يعتورها الكثير من الهزال والضعف والركاكة.

إذاً ما سرّ النجاح الكاسح والسريع الذي لقيته الفرقة؟

اولاً، انها ولا شك الموسيقى المنحولة عن العجيج الرائج عالمياً ، حيث تلعب تقنيات عرض مشهدي غني بالعاب الليزر وشرائح الإضاءة دوراً بصرياً ساحراً يستثير المخيلات المنكبة ليلاً ونهاراً على حواسبها وهواتفها. ثانياً انه الدعم الترويجي الخارجي لنصرة »مشروع ليلى » من فرق الروك المثلية ، وتهافت مجلاتهم وشاشاتهم حول العالم الى الاحتفاء بـ »الاخوة اللبنانيين«.. ثالثاً، لم يعد ارتباط زياد الرحباني بموروث غنائي مـتأصل في هويته ، ولا عناد مارسيل خليفة على موقفه السياسي وشغله الرائد في مجال العود، ضمن خيارات جيل الالفية الثالثة، فهم يفضلون النواح راقصين هازجين في متاهات العولمة، ويؤثرون التماهي مع اترابهم المهللين للروك على الاصغاء الى التخت الشرقي والناي …

بعد »هيصتهم« الصاخبة في مهرجانات جبيل سألت ثمانية شبان وخمس فتيات اذا فهموا ما كانت تقوله كلمات حامد سنو، لأنني مثل معظم الحاضرين لم استطع فهمها فقال شاب: »انا حافظ شوي« ولاذ الآخرون بوجوم مفاجىء كأنهم اكتشفوا امراً في غاية الغرابة. فالواقع ان حامد يمطّ ويمضغ كلماته كيما تواتي لحناً لا يمت اليها بصلة، فتبدو اللغة العربية على لسانه سواحيلي منفوخ من بوق مزكوم!

بيت الدين

لينا شماميان مفاجأة مهرجانات بيت الدين هذا الموسم. صوتها المثقف باغت الجمهور مثلما يستوقفك غريب ليهديك باقة ورد. لذا نقول بفرح : شكراً على تقديمنا الى لينا المذهلة في سهرة »يا مال الشام«. لينا )السورية من اصل ارمني( غنّت للمرة الاولى في حفلة عامة وهي في الخامسة من عمرها. وبقي شغفها بالغناء نابضاً حتى بعدما تخرجت من كلية الاقتصاد لتنصرف كلياً الى دراسة الموسيقى والغناء. سنة 2002 حازت الجائزة الثانية في المهرجان الدولي للفرنكوفونية ،ثم حصلت سنة 2005على منحة »المورد الموسيقي« لإنتاج البومها الاول »هالاسمر اللون«. وفي العام اللاحق حازت جائزة الشرق الاوسط للاغنية من اذاعة مونتي كارلو. تتقن الفرنسية والعربية والانكليزية والارمنية، تكتب وتلحن وتوزع … فلعل ظهورها المفاجىء نسبة الى الجمهور العريض في لبنان يمثل الوجه المغمور لكثير من المواهب الراقية وقد حجبها عالم الموسيقى الاستهلاكية المتشابهة الى حد النسخ والاجترار.

افتتح السهرة الموسيقي صالاخف من ظلهش شربل روحانا بمقدمة سجلت حال الدنيا واحوال »الامة«. ومما قاله ان اللاجىء السوري بات يحسد اللاجىء الفلسطيني الذي يحسد المواطن اللبناني الذي لا يُحسد على ما هو عليه من قلق وضياع. وآمل شربل ان يلين قلب الشر في العالم على صوت الموسيقى. ثم انشد حدواً جبلياً فقال: طلعنا سوا عا بيت الدين/ والعالم من حولنا حزين/ وصواتنا تغني الامل/ وإنشا الله بكرا فرحانين…على طرفي المسرح الاوركسترا الشرقية اللبنانية مع اربعة منشدين، والأوركسترا الكندية الشرقية، تقاسمتا العزف وتشاركتا في بعضه ضمن توليفة هارمونية بالغة التنسيق والدقة. فاستطاع روحانا في سبع مداخلات متنوعة ان يلهب الجمهور عزفاً على العود وإنشاداً من جديده وقديمه وصولا ً الى »هاي كيفك سافا؟« خاتماً بصرخة: غنّي عن وطنك بالعربي … واللافت ان المقطوعتين الموسيقيتين »سيدة القصر« و »غمزة عين« تميزتا بتجليات ابداعية تسجل لشربل قفزة نوعية موفقة في مسيرة التأليف والعزف.

في فستان ابيض طويل وشال اسود وقامة مديدة بانت لينا شماميان من إحدى قناطر القصر ورحب بها تصفيق الجمهور. خلال ثوانٍ نقلت لينا بيت الدين ، حجراً وبشراً، الى فضاء عابق بالحنان والنضارة عبر ترتيلة لنوم

الصغار بالارمنية ورد فيها ما انشدته بالعربية لاحقاً:« نامي ما تخافي/ من الغفوة ما تخافي/ من النوم ما تخافي من الاحلام… ثم انتقلت الى تنويع طربي تشكل من ذاكرة التراث واغانيها الخاصة ، بعضها شديد البعد عن الجو العام للسهرة: تأملي، مسرف في الاسترسالات الجازية، صعب الاستيعاب خصوصاً لجهة الكلمات مما اوقع الجوّ في مطب لبضع دقائق لا اكثر بعدها استعادة لينا تواصلها مع الجمهور مسلحة بصوت قوي وبالغ الرقة في آن واحد.

أخيراً، وبعدما شطح الوقت ابعد من التوقيت المبرمج جاءنا نصير شمة فارتفع مستوى التوقعات ومعه تجليات العزف التي باتت جزءاً ثابتاً من ذاكرة العود في تاريخنا المعاصر. كنت مسمّر العينين على فوق المسرح العريضة كي امعن النظر في اصابعه إذ تسجد لها العدسة وكيف ترتاد تلك الاصابع الطويلة الساحرة مساحة العود بضرواة صهرها الإنغماس في الوتر حتى اصبحت بذاتها اوتاراً. وبدا لي حين انفردت اصابعه بعنق العود وعزفت من هناك وحدها بلا مشاركة من يده الاخرى ان الاصابع تبث الموسيقى عبر الاوتار كما تبث الطاقة النور عبر المصابيح. كان نصير شمة رهيباً ورقيقاً كالعادة ، يغرف الجمهور من جذوره ويغزله حتى يطلقه حرّا في فضاءات عزف غزير مرهف وعلى جانب من السطوة لا يقاوم.

في تونس يقولون عن امر خارق انه » من ورا العقل« …من هناك خرجنا مغسولين بنعمة الموسيقى بعد حضورنا »يا مال الشام« في بيت الدين.

ـ لينا شماميان… رحّب بها جمهور بيت الدين