الشّاعرة مناهل السّهوي لـ»الحصاد«: أعيش تجربة صدور دواوين مشتركة مع آخرين

بيروت من ليندا نصّار

 يبقى الشّعر رصيد محبّة وانتصار في عالم تشظّت فيه الإنسانيّة، إنّه فسحة الأمل الّتي يطلّ من خلالها الشّاعر على العوالم الجميلة.

مناهل السّهوي امرأة  تحمل أحلامًا ، تشكّل منها دائرة  شعريّة تقبض بها على التّشوّهات لتحوّلها إلى مشاهد جميلة. إنّها تترجم تساؤلاتها في قصائد متعدّدة المواضيع. وقد أحيت في نصوصها طفولة عاشتها في الطّبيعة لتنضج في ما بعد بنضوجها.

كتبت مناهل عن الأنثى الّتي واجهت الحرب بقلم أزهر شعرًا بين يديها، كما عبّرت عن الحياة بكلّ ما فيها من فراغ ملأته إحساسًا… في كتاباتها تجاوز وتحرّر من سطوة الذّات عبر نصوص إبداعيّة متمرّدة.

مناهل السّهوي: الكتابة خلاصي من كل التجارب القاسية
مناهل السّهوي: الكتابة خلاصي من كل التجارب القاسية

تعبّر مناهل السّهوي عن نفسها فتقول في إحدى قصائدها:« لم يحبكِ أحد كنتِ تسقطين سهوًا بين أيدي الرجال، تعاقرين الإدمان على التمسّك بالراحلين، لم تتشبّثي بهم بما فيه الكفاية، حتى أنك لم تمزّقي قميصًا واحدًا تمسّكتِ به، كان فمكِ يرتخي بوحدة موحشة ويترك القمصان والرجال والأحزان تنفلت بحرّيّة…«

»الحصاد« التقتها في بيروت وكان معها الحوار الآتي:

»الحصاد«: من هي مناهل السّهوي، وكيف بدأت تجربة الكتابة ؟

مناهل السّهوي:  أنا من مواليد السّويداء –  سوريا، درست الأدب الفرنسيّ في جامعة دمشق، وقد صدر لي مجموعة مشتركة مع الشاعر أحمد كرحوت عن ملتقى ثلاثاء شعر بعنوان )قاع النهر ليس رطباً(، أنطولوجيا سوريّة مترجمة للألمانية بعنوان )بورتريه للموت(، بالإضافة إلى مشاركتي في مجموعة أعدّها الروائيّ السوري خليل صويلح بدعم من جمعية )نحنا الثقافية( بعنوان )سرير تتقافر فوقه الأسماك(

بدأت الكتابة في العاشرة من العمر، حين صرت أستمتع بإدهاش نفسي، عبر طرقٍ غير الألعاب ومنازل الدّمى ولعبة التّخفّي، كانت الكتابة تتعلّق بمواضيع الإنشاء في المدرسة، لأدرك بعدها أنّي أستطيع إكمال الإدهاش نفسه عبر الكتابة خارج المدرسة، ولأكتب بمواضيع وأفكار تخصّني وحدي، بدأت الكتابة عن نفسي، الّتي كان مركزها الطّبيعة. هذه الطفولة وسط الطّبيعة جعلتني أكتشف ذاتي من خلالها، رحت أفرغ انفعالاتها وأحاسيسها ومشاعرها المختلطة لاحقًا.

في منزلنا النّائي عن القرية وسط الطّبيعة، تعلّمت التقاط الشّعر بهدوء وعزلة من تفاصيل الحياة البرّيّة، من سكينتي فوق شجرة الجوز العملاقة، من لحظات سيري حافية فوق التّراب السّاخن، من مراقبة حيوانات مزرعتنا وهي تلد، والّتي كنت أشارك والديّ في أوقات ولادتها، لأشعر بالدّم السّاخن بين يديّ، وبرائحة الولادة الطّازجة، كنت طفلة لا تخاف الحيوانات، ولا إشعال النّار في اللّيل والجلوس قربها، ولا تسلّق الأشجار والقفز  من فوقها، وبالطّريقة نفسها بدأت تجربتي مع الكتابة.

»الحصاد«: برأيك، هل الكتابة ضرورة ملّحة في تجربة الحياة؟

مناهل السّهوي:  الكتابة هي خلاصي من كلّ التّجارب القاسية وحتّى الجيّدة. الخلاص في الكتابة أمر لا يتعلق بمآزق أو بآلام وحسب، إنّما هي ضرورة ملحّة ترافق كلّ تجربة جماليّة وإنسانيّة، أحياها بعيدًا عن القيود والمخاوف الاجتماعية. البعض يجد في العائلة الصّغيرة مع منزل هادئ هي الضّرورة الملحّة، وآخرون يجدون من السّفر والتّنقّل الدّائم ضرورتهم، والبعض الآخر في الرّسم، فالأمر يتعلّق بما نودّه من الحياة، ما أحاول فعله هو أن أبقى شخصًا واحدًا فعكس ذلك سيكون حتمًا الجنون، الكتابة تجعل تجربتنا ومشاعرنا متماسكة وذات شكل قابل للفهم.

»الحصاد«: هل تتخيّلين مرور يومٍ في حياتك من دون تفاعلات القراءة والكتابة؟

مناهل السّهوي:  أعلم أنّ الأشياء حتى لو كانت على مقاسنا فهي مهدّدة بالسّقوط والزوال، وكل ما أودّ الحصول عليه سيتلاشى في النهاية، الكتابة تمكّنني من التقاط اللّحظات الحقيقية أو المتخيّلة، اللّغة هي مكاني الثابت الوحيد، وعدا ذلك كلّه مهدّد بالزّوال وهذا حقًا مخيف. المخيّلة والشّعر هي مساحات أستطيع الرّكض فيها من دون أن أصطدم بأي جدار، وهنا تكمن روعة ما أفعله بالنّسبة إليّ، تبدو فكرة عدم الانتماء وعيش حياة منفصلة عن الآخرين مثيرة للذّعر، يستيقظ من حولكِ صباحًا، يذهبون إلى العمل ويجادلون سائق الباص وهم يعلمون جيدًا أنّ هذا كلّ ما سيفعلونه أيضًا في اليوم التّالي، أمّا أنتِ فمساحتكِ مختلفة تمامًا، لذلك أتمسّك بالكتابة وبقوّة وأظنّ أنّها أيضًا تتمسّك بي، فلطالما شعرت أنّ الشّعر كائن يسكنني وأسكنه ومع الوقت بدأنا نفهم رغبات بعضنا البعض، احتياجاتنا وما نودّه فعلاً من كلّ يوم نعيشه، للآن لم أتخيّل يومًا من دون الكتابة، لكن لا أعلم عن الغد، فالكتابة تجعلك تعلمين ألّا شيء لكِ وهذه هي الحرية المطلقة.

»الحصاد«: ما هو الشّعر بالنّسبة إلى مناهل السهوي؟

مناهل السّهوي:  أظنّ أنّ هذا السؤال من أكثر الأسئلة تعقيدًا، لأنّ جماليّة الشّعر وعظمته تكمن في أنّنا نجهل حقيقته تمامًا لكنّنا نمارسه بإتقان، وهذا أحد الأمور اللّامعقولة والسّحريّة في الحياة، أن نفعل أمرًا من دون أن ندركه بكلّيّته، وإن وجدتُ إجابة فسأقولها بطريقة أقرب إلى الشّعر، فالشّعر فيَّ يشبه الشّهب، الأشياء الّتي تموت وتترك ضوءًا خلفها، هو تفصيل يجعلك تدركين الحياة كلّها في لحظة، هو كملاحقة رائحتي في الريح، أكتب لأكون جزءًا من الكون ، ولأفهم الفيزياء، الخيمياء عن طريق شعوري بالتّفاصيل والعناصر، لا أودّ أن أطمئنّ لمجرّد أنّي لازلت في منطقة الأمان، أودّ أن أطمئنّ لأنّي خرجت من دائرة الأمان وبقيت بخير، والشّعر يفعل ذلك تمامًا، هو الحرّيّة والانبعاث وتراكم الموت من دون أن أموت، هو الشّهوة الدّائمة لأمور لا تعلمينها لكنّك تشعرين بها بقوّة، هو المتناقضات )الامتلاء والفراغ( ،) القبح والجمال(  ، )المعرفة والجهل(، )الأنوثة والذّكوريّة(  بطريقة تعلمين فيها أنّ النقيض ليس الضّعف، النّقيض بوابة وحقيقة، هو فهم كيانك الإنساني بعيدًا عن التصنيفات القاسية والضيقة.

»الحصاد«: إلى أيّ مدى استطعت أن تقولي ذاتك من خلال تخييل الشّعر؟

غلاف ديوان »قاع النهر ليس رطبا«
غلاف ديوان »قاع النهر ليس رطبا«

مناهل السّهوي:  مع كلّ نصّ أكتبه أشعر أنّي أنهيت ما أريد قوله. ولكن ما أن يمرّ بعض الوقت، يبدأ هذا النّقصان بالظّهور لاستكشاف مكان جديد في روحي، أحبّ تدمير الأشياء بالكتابة، أن أقول نفسي من خلال تحطيم الثّوابت بقصائد قادرة على إقناعك بأنّها الحقيقة المطلقة والّتي أعرف عميقًا أنّي لن أصل إليها.

منذ بدأت الكتابة تخبّطت كأيّ إنسان يقتله المألوف، العاديّ، المحتمل، المكرّر، حاولت مرارًا قلب الجملة، إبدال العبارات وقصّ الأحرف ، باحثة عن إنسان لا يخاف، إن أردت تخيّل قارب فوق الماء، فأنا حتمًا سأحدّثك عن الجزء السّفليّ، الرّطب، الذي تسكنه الطّحالب، سأحدّثك عن  الرّغبة الشّبقة في الوصول إلى الجزء المهمل من الأشياء، الّذي يكاد يختفي حتى في أدمغتنا، أشعر دومًا أنّ لديّ الكثير بعد لأقوله، إنّه أمر أشبه بالحلقة المفرغة، لكنّك تشعرين دومًا أنّك تدورين فيها للمرّة الأولى، أظنّ أنّ الشّعر وجد لأنّ هناك أمورًا لن تنتهي في داخلنا، لأنّ ذواتنا تتمدّد دومًا بطريقة لا يحدّها مكان أو زمان أو شخص.

»الحصاد«: لقد صدر حديثًا ديوان مشترك »أنطولوجيا بورتريه للموت«. ما رأيك بهذه التّجربة المشتركة للكتابة، والّتي تضمّ شعراء يشاركونك الهمّ نفسه؟

مناهل السّهوي:  كتاب »بورتريه للموت« تجربتي الأولى لنقل نصوصي للغة أخرى ضمن كتاب باللّغة الألمانيّة، بمشاركة ثمانية شعراء من ملتقى )ثلاثاء شِعر(، ترجمة د.سرجون كرم و د.سيباستيان هاينه وتدقيق د. كورنيليا تسيرات.

بالإضافة إلى أنّها تجربة مهمّة على الصّعيد الشّخصيّ، فمشاركة النّتاج الإنسانيّ بين الحضارات، هو تعبير عن أنفسنا بعيدًا عن الحرب والدّمار والإرهاب، أظنّ أنّنا نستحقّ تقديم أنفسنا كمبدعين وكتّاب بعيدًا عن التّصنيفات المخيفة التي عرفها العالم عنّا.

»الحصاد«: هل ثمّة حضور للشّعراء الكبار اليوم في السّاحة الثّقافيّة؟ وما رأيك بطريقة توجيههم للشّعراء الشّباب؟

مناهل السّهوي:  لا أؤمن بشيء وجد فجأة، كلّ ما نعيشه هو امتداد لذاكرة طويلة، وكذلك الشّعر يمتلك كبار الشّعراء، لهم حضورهم الّذي لم يقلّل الوقت من شأنه، وقد تمكّنوا من تخطّي العقبات كتكرار الذّات. وبالتأكيد تواصلي مع بعضهم يجعلني _بالإضافة إلى الخبرات الّتي أتلقّاها_ أشاركهم التّجارب المختلفة، وهذا من أجمل ما قد يعيشه كاتب شابّ، مشاركة أجيال مختلفة لتجربة عميقة كالشّعر، وأن نغدو أصدقاء مع بعضنا البعض، أمر يجعلك حقًا تشعرين بشيء من الألفة والأمان، لكونك تمتلكين أشخاصًا يستطيعون فهم نزقك وتجاربك وأحلامك، فشاعر كبير قد عاش يومًا ربّما تجربتك وصراعاتك هو صديق جيّد.

»الحصاد«: الإقامة في قصيدة تجعلنا نخرج برؤى جمالية نعبّر فيها عن واقعنا الهشّ، خصوصًا في ظلّ هذه الحروب الّتي تتعرّض لها الدّول العربيّة. إلى أيّ مدى عبّرت عن المأساة الّتي تحيط بمجتمعك عن طريق الإبداع والشّعر؟

مناهل السّهوي:  الحرب من أقسى التّجارب الإنسانيّة الّتي ترغمنا على أن نحياها بكلّ تفاصيل حياتنا، في الدّراسة والحب والعمل والعائلة.. والّتي دخلت في شعري كزائر اضّطراريّ، لتغدو قصائدي تماهيًا بين المرأة ككائن يعيش تجربة قاسية ضمن بيئته ومجتمعه اللّذين يحاصرانها بقيود ومخاوف عديدة، وبين الحرب التي أكملت عملها بفرض مخاوف جديدة.

إلى حدٍّ ما، استطعت تقديم المرأة الّتي تسكن داخلي بصراعاتها ونزقها ورغبتها في الحرية ضمن ظروف الحرب القاسية، لكن دومًا هناك ما لم ينته ولم أقله بعد، ما نعيشه هو أكبر بكثير من أن ينتهي في بضع قصائد، للحرب دومًا مخيّلة أكبر من مخيّلة الشاعر.

»الحصاد«: ما هو جديدك؟

مناهل السّهوي:  الجديد هو مجموعة ستصدر قبل نهاية هذا العام، ولديّ مشاركة في انطولوجيا تُترجم لليابانية.