قراءة في ديوان »جنازات الدمى« للشاعر ربيع الأتات

بيروت من ليندا نصّار

»الهايكو فن أدبي انطلق من اليابان وقد عمل على تثبيته المعلّم الياباني »باشو« الكبير ومن مؤسّسي هذا الفن الشاعر و»ناتسومي سوسيكي« »بوسون« و»ماسا رأوكا شيكي«. وهو فنّ من الفنون الأدبيّة الّتي تعتمد على علاقة الإنسان بالطّبيعة، والّتي تعدّ أساس هذا العمل. فالشّاعر يلجأ إلى جماليّاتها ويختصرها في أبيات ومقاطع عميقة.

تحمل مفردات الهايكو معانيًا موسميّة، وهي تهتمّ  ببلاغة البديع وتبتعد عن الصّور البيانيّة مثل التشابيه والاستعارات، والّتي من شأنها أن تزخرف العمل.

أمّا الهايكو العربيّ فيعتبر من أنواع الكتابة الشّعريّة الحديثة. ولطالما حمل هذا النّوع من النّصوص أبعادًا إنسانيّة من خلال الإحالات الشّعريّة الّتي تعبّر عن معان معيّنة، فتتشكّل القصيدة بشروط مغايرة عن تلك المتعارف عليها في الشّعر العربيّ خصوصًا القديم منه.

شاعر »الهايكو« ربيع الأتات
شاعر »الهايكو« ربيع الأتات

يتميّز هذا النّوع من الكتابة بابتعاده عن التّعقيدات الأسلوبيّة، فيتشكّل من أسطر موجزة عميقة، تؤدّي المعنى وتعبّر عن المشاهد الحياتيّة، فيحاكي شعراء الهايكو الوعي الإنسانيّ من خلال هذه التّعابير.

يشكّل ديوان »جنازات الدّمى«، للشّاعر ربيع الأتات، مفترقًا للقصيدة العربيّة الحديثة، من حيث انفتاح كاتبها على قصائد »الهايكو اليابانيّة«، ومحاولته تثبيت وجود هذا النّوع  في الثّقافة العربيّة، فقد عمل الشّاعر على التّقنيّات المحدّدة من دون الإخفاق في كتاباته ومن دون الوقوع في فخّ الضّياع.

الدّيوان الصّادر عن دار النّهضة العربيّة في بيروت، والّذي قدّم له الصّحافيّ اسكندر حبش، يدعو المتلقّي إلى مشهد ابتدعه كاتبه، فيكاد يجد نفسه في ترقّب ما سيقوله الشّاعر في نهاية كلّ جملة شعريّة. وقد امتازت هذه العبارات بالخطف كسرعة البرق، ويكاد الدّيوان لا يخلو من النّهايات غير المتوقّعة الّتي تجذب المشاهد، وتجعله يشارك الشّاعر قلقه المستمرّ في ما سيخطّه له.

امتازت الكتابة الشّعريّة في الدّيوان بالسّهولة بعيدًا عن أيّ تعقيد، هذا بالإضافة إلى التّشكيل  المكثّف والموجز تبعًا للهايكو الّذي يعتمده الشّاعر. كما نلاحظ الوضوح التّام والصّور المحسوسة وتنوّع المواضيع عنده، فمن الوجود إلى الإنسان فالمجتمع عبر بثّ عناصر الطبيعة والكون بشكل عام…  والأمثلة كثيرة على ذلك:

الأعشاب الضّارّة / يجزّها مرّة في الأسبوع/ لحيته الّتي تنمو.

وردة فوق الحجر/ الحجر فوق الأرض/ أبي تحت الوردة.

نرى قاع الذّات/ في سقف الغرفة/ الحائط مرآة مقلوبة.

في السّماء/ الأقمار كلّها بلون الفراغ.

يعدّ على أصابعه/ أصابع يده المبتورة.

قدماي المثقلة/ الجسر الخشبيّ/ قد هرم أيضًا.

خريف الأرصفة/ كلّ الأوراق اليابسة/في قبّعة متشرّد.

الخفّاش المعلّق المقلوب/يرى في غروب الشّمس/ صباحاته.

     يملك الشّاعر العين المنظار الّتي تعبّر عن الحقائق من خلال عدّة إمكانات، فيجسّد مشهديّات العالم وإشكاليّات الوجود من خلال علاقته باللّغة. كما نجد في هذا المنجز الإبداعيّ عمقًا اكتسبته المفردة من خلال التّجربة الإنسانيّة الشّاملة، الّتي تكوّنت من خلال تفاعل الشّاعر مع محيطه ومحاولة تضمينه قناعاته، من هنا تبدّت لنا الرّؤية الخاصّة الّتي صنعت أفكارًا انطلقت من مساءلة الذّات.

      ربيع الأتات، الّذي يقول إنّه طبيب جرّاح بدوام جزئيّ وشاعر بدوام كامل، يمتلك زاوية في نفسه تقبض على المشهد الحياتيّ بتمرّد روح شاعرة، لتنشئ مواضيع حقيقّة تلامس الواقع والوعي الإنسانيّ.

     عن طريق القراءة المتمعّنة للدّيوان، نلاحظ الشّعور بالمحيط والبيئة والتّعبير عنهما، حاذفًا كلّ ما هو زيادة أو كلّ ما قد يُحدث تغييرًا في قصيدة الهايكو الّتي اعتمدها. في هذا الإطار، يبدو الاشتغال على النّصوص وإضفاء الدّلالات العميقة الّتي تتّضح من خلال السّياق.

    استطاع ربيع الأتات، »السّيورانيّ النّزعة«، أن يطلق في ديوانه رؤية ذات أبعاد فرديّة واجتماعيّة، كما بدا عنده النّزوع نحو العدميّة والأمثلة كثيرة على ذلك في الدّيوان.

يكتب الشّاعر:

أمرُّ بالنهرِ الذي جفّ

فأتعثّرُ

بأحجارِ طفولتي

النوافذ كلّها

عاشتْ و ماتتْ

مساحة عناكب

أقفلُ النافذة

أغلقُ عينيّ

كلّ الرياح لا تزال في رأسي

كدّتُ أقتلُ نملة

غير أنّ الأرض لا تحتمل

جثة أخرى

جثّةُ غرابٍ واحدةٍ

تُبيِّض كل الثلوج

في لعب الأطفال

الجنود بلا زوجات

وبلا أطفال

الحبّ المهجور

ينسى الطريق إليك

إنّه كان طريقاً إليك

يفصلني عنك

جدارٌ

بنيناه معاً

يؤخّر اعتذاري

نبيذٌ وجبنُ الذاكرة

في يدي

يدٌ أخرى تتبدّل

نلاحظ في هذه الأبيات هيمنة المفردات التّابعة للطّبيعة، وهي تحمل معنى بعيدًا ومعنى

قريبا. ويتبدّى لنا ذكاء الشّاعر في إتقانه لعبة المعنى وبثّ الأفكار العميقة في هذه الأسطر القليلة. إنّه يكتب من خلال محاكاة حواسه للطّبيعة فيجعلها تتشابك بها.

يبقى من الحقّ أن نقول، إنّ اتّباع تقنيّات الهايكو والالتزام بقواعدها، أمور صقلت هذا النّتاج الشّعريّ الّذي نحن بصدده ، على أمل أن ينتشر هذا النّوع الشّعريّ الّذي يستحقّ القراءة المتمعّنة أكثر فأكثر.

ـ غلاف ديوان »جنازات الدمى«
ـ غلاف ديوان »جنازات الدمى«

ـ شاعر »الهايكو« ربيع الأتات