رؤوف قبيسي

هل فرض الشاعر الحجاب على زوجته بدافع الغيرة؟

 هل نحل شعر شوقي فيه وكان متقلب النفس متداعياَ؟

يستحق كتاب »امين نخلة – مقالات له وعنه ومقابلات معه«، منشورات »دار نلسن«، للدكتور ميشال خليل جحا أن يُعتبر من كتب المراجع، ولو أنه ليس مراجعة أكاديمية عن أعمال أمين نخلة الشعرية والنثرية. الأمانة الفكرية أهم ما في الكتاب، إذ لم يكتف جحا بأن نقل ما قيل في صاحب »المفكرة الريفية« من مديح ، بل أورد ما قيل فيه من نقد أيضاً، متخطياً في ذلك عادات شرقية في التبجيل والتفخيم، غالباً ما تشوه الصورة أو تقدمها بشكل مغاير.

الكتاب لا بد منه لمن يريد أن يقرأ لأمين نخلة مقالات لم تنشر من قبل، أو يريد معرفة أشياء جديدة وغريبة عنه، ومنها أنه تربى على العادات الجبلية، وفرض الحجاب على زوجته إيفون طرزي في السنوات الأولى من زواجهما، ولم يكن يسمح لها بالخروج منفردة من البيت، ولم يتغزل بها بكلمة واحدة في حياته، في الوقت الذي لم »يتورع« عن التغزل بغيرها من النساء! فيه أيضاَ تصحيح لمعلومات منها أن أمين نخلة ليس من  الباروك كما هو شائع، بل من مواليد بلدة »مجدل المعوش« من أعمال الشوف. لكن أهم اللفتات ربما تشكيك جحا في الأبيات المنقولة عن أحمد شوقي في أمين نخلة ومنها: »هذا وليّ لعهدي/ وقيّم الشعر بعدي/ والعصر عصر أمين / خير ومطلع سعد.

يستبعد الدكتور جحا أن يكون شوقي قد نظم هذه الأبيات التي تتصدر غير كتاب من كتب أمين نخلة، »وإلا لكان الأمين نشرها بخط شوقي« وفق قول جحا، الذي يؤكد أن ناظمها هو أمين نخلة نفسه، لأنها »تحمل نفساً من أنفاسه«. يكتب جحا أنه عندما فاتح أمين نخلة في أمر هذه الأبيات قائلاً له إنها ليست في »الشوقيات«، كان رد الأخير: »ليس كل شعر أحمد شوقي في »الشوقيات«! يعزز جحا شكوكه بالقول إن الأمين لم ينشر أبيات شوقي فيه إلا بعد رحيل »أمير الشعراء« سنة 1932، وأن الأبيات نظمت سنة 1925 وكان الأمين في الرابعة والعشرين، فكيف يكون ولي عهد »أمير الشعراء«وهو في هذه السن«؟!

 يشكك جحا أيضاً في قول لأمين نخلة، في مقابلة نشرتها نازك باسيلا في مجلة »الأسبوع العربي« مفاده أنه، أي الأمين، تعلم في مدرسة »الأخوة المريميين« في دير القمر، وأن من أساتذته كان رئيس الجمهورية كميل شمعون. يستعيد جحا ذلك مستنداً إلى أن الرئيس شمعون ولد سنة 1900، وأن أمين نخلة ولد سنة 1901، وأن من غير المعقول في رأي جحا، أن يكون المعلم أكبر من تلميذه بسنة واحدة. قد تستقيم شكوك جحا هنا، لكن يبقى التساؤل ما إذا كان من المعقول أيضاَ أن يقول الأمين شيئاً غير صحيح يتصل بالرئيس شمعون، وهو لما يزل في قيد الحياة، يوم نشرت المقابلة سنة 1972.

في الكتاب أشياء كثيرة تتطلب الأمانة جلاء غموضها، منها مسألة الحجاب. نقرأ على سبيل المثل إيفون طرزي، التي تلقت دروسها في مدرسة فرنسية تابعة لراهبات الناصرة، تقول إن أمين نخلة قال لها بعد مرور أيام على زواجهما، وبعد أن شاهدها تضع قبعة على رأسها: أما الحجاب وأما الطلاق. نقرأ ذلك في الصفحة 154 من الكتاب، ثم نجول بين الصور في الصفحات الأخيرة فنجد زوجة الأمين سافرة، لا حجاب على  رأسها ولا قبعة. ثم ندرك بعد ذلك أن »أمير الصناعتين« تخلى عن الحجاب بعد مرور سنوات على الزواج. هل نفهم من ذلك أن أمين نخلة كان غيوراً، وفرض الحجاب على زوجته، عنما كانت في ربيع جمالها، ثم ما عاد يأبه للأمرعندما تقدم بها العمر؟!  أم تكون المسألة يا ترى أن نفسية الشاعر لم تكن »مستقرة »على حال، وكانت تتنازعها أهواء مختلفة؟ نقرأ بعض شعر أمين نخلة فنجد حالات مختلفة تعزز التساؤل الأخير. نراه يغالي في الحسية حين يتحدث عن المراة، ناظراً إليها كجسد، ثم نراه في مكان آخر يتحدث عنها بلغة المتصوفين.

أحبك في القنوط وفي التمني / كأني منك صرتُ وصرت مني /أحبك فوق ما وسعت ضلوعي / وفوق مدى يدي وبلوغ ظني.

يثير الكتاب الكثير من التساؤل حول نظرة كل منا لأدب أمين نخلة. ليس من شك في أن الأمين ناثر مقتدر، في نثره طراوة وقوة قلما نجدها في أدب كتاب زمانه.  حين نقرأ »المفكرة الريفية«، درة الأمين النثرية،  نجده يخاطب الحبيبة أو العشيقة بمشاعر حسية ساذجة إن صح التعبير كقوله: »ألف رغيف عند خباز الضيعة يدخل النار، وألف رغيف يطلع منها. ولقد مررت البارحة بالخباز، فلا والله ما رأيت رغيفاً قد احمر كخدك، ولا رغيفاً قد احترق كقلبي«. لغة إنشائية منمنقة ووديعة ما في ذلك شك، لكن هل هذا ما يجعل الأديب »أمير صناعة« في النثر كما هو في الشعر »أمير«؟

 ليس من باب الأمانة الفكرية المتناهية أن نحكم على شاعر تقليدي مثل أمين نخلة بمعايير عصرية خالصة،  لكن ليس من العدل أيضاً أن نقول مع شوقي إن العصر »عصر الأمين »، هذا إن صحت نسبة هذه الأبيات إلى »أمير الشعراء«. فبينما يصف حافظ ابراهيم شعر أمين نخلة بشك لؤلؤ، نرى أدونيس يقول عنه »إنه شعر خال من الحركة والبحث والتطلع، لا يريد شيئاً ولا يطمح إلى شيء. رابض في أصداف الكلمات، منتهى طموحه الفصاحة والبيان«. يذهب أدونيس إلى أبعد من ذلك فينتقد »الديوان الجديد« لأمين نخلة، ويقول إنه لم يخلق لغة شعرية خاصة به »أدواته في هذه الصناعة هي أدوات غيره ممن تقدموه. عمله كله أنه ركّبها ثانية في إيقاع آخر ونسق آخر«.

يحار طلاب الآداب، والقراء العاديون، وربما بعض النقاد أيضا،َ في الحكم على شعر أمين نخلة ونثره من خلال فصول الكتاب. من هذه الفصول ما هو كلام عام، ومبالغات لا تفيد شيئاً ولا يفهم منها شيء، استعراض لفظي لصاحب المقال أو ذاك لا علاقة له بأدب أمين نخلة لا من قريب ولا من بعيد، مثل قول غالب غانم يخاطب أمين نخلة: »يا مالىء العصر واللغة وأجاجين الجمال« ما يذكّرنا بسعيد عقل في مقابلة مصورة له مع الشاعر هنري زغيب يقول فيها: »إن أفلاطون وبول فاليري هما أعظم من كتب النثر في الغرب، لكن أمين نخلة أعظم من أفلاطون وأعظم من بول فاليري«! كذلك  قول أنطوان قازان »إن أمين نخلة أعظم من كتب النثر منذ فجر النثر العربي«.

 يمكننا أن نجاري القائلين إن أمين نخلة كان »أميراً« في الصناعتين، صناعة النثر وصناعة الشعر، لكن أن يصل الكلام إلى هذه الدرجة من المبالغة، فجناية على الشعر والنثر والأدب والقراء، وعلى أمين نخلة بنوع خاص. قد نغفر لقازان وغيره هذا الشطط، لو أنه استخدم عبارات يستخدمها الناقد القدير المتواضع مثل »في رأيي«، أو »في اعتقادي«، أما أن يطلق احكاما عامة، وفي ظنه أنه معلم، والناس تلاميذ، فسهم لا يركب على النشّاب، كما يقول المثل القديم. أما قول سعيد عقل إن نثر أمين نخلة أهم من نثر أفلاطون، فيُستدل منه أن سعيد عقل لا بد أنه قرأ أفلاطون في لغته اليونانية القديمة، لكننا نقطع بأن سعيد عقل لم يكن يعرف هذه اللغة اليونانية القديمة، أو كان ملماً بها إلى درجة تمكّنه من الحكم على نثر ذلك الفيلسوف!

في الكتاب  أخطاء مطبعية كثيرة كان على المؤلف والناشر أن يتداركاها كما في الصفحة 29 أن ديواناً لأمين نخلة عنوانه »دفتر الغزال« بينما هو »دفتر الغزل«، وفي الصفحة 30 يقول جحا إنه نشر  ثلاثة ريبورتاجات في مجلة »الجمهور« والصحيح أنها »الجمهور الجديد« بعد تغير اسمها. تطال الأخطاء حتى كلام الصور، منها أن أحد وجوه الصورة هو الرئيس الياس سركيس بينما هو الرئيس عبد الله اليافي. هناك ايضا كلمات وأشياء اخرى لا مجال لذكرها الآن، »أخطرها«ربما، العبارة »الأصولية« التي تفسد »موضوعية« أي موضوع، وهي قول الدكتورجحا إن اللغة العربية هي لغة أهل الجنة!

في الكتاب المؤلف من 500 صفحة، صفحات معدودة من تأليف ميشال جحا، الباقي »تجميع«. أما الفصول التي وضعها آخرون من أهل القلم، فكثير منها يحفل بكم غير قليل من المبالغات، ولا تقدم صورة موحدة متجانسة عن أمين نخلة الناثر والشاعر، لا بل أنها تقدم صورة متناقضة أجزاؤها. مهما يكن، في الكتاب من المعلومات والخواطر الصادقة، ومن النفحات والصور الأدبية الأصيلة ما يجعلنا نثني على الدكتور ميشال خليل جحا، ونرفع له القبعة ونقول له: سلمت يداك أيها الرجل، شكراً وألف شكرعلى ما فعلت.