جبران خليل جبران في نيويورك 

سألني ابني ونحن نقف أمام المبنى التاريخي الذي فيه مكاتب الشركة التي يعمل فيها في الجادة الخامسة في نيويورك: إلى أين ستذهب يا والدي؟

– إلى حيث تأخذني الدروب يا ابني.

– لماذا لا تزور عمارة »إمباير ستايت« وتشاهد نيويورك من الأعالي؟

– زرتها قبل أن تولد بعشر سنين، ولم أكره المباني الشاهقة كما كرهتها ذلك اليوم.

– إلى أين ستذهب إذن؟

– سأزور بيت جبران في الشارع العاشر من الجادة الخامسة.

– من يكون جبران هذا؟

– أنسيت جبران، صاحب كتاب »النبي«؟

– تقصد خليل جبران الشاعر والفنان؟

– هو جبران خليل جبران. هذا هو اسمه الحقيقي الكامل، المعروف به في بلاد العرب.

– كيف لي أن اعرف ذلك وأنا لا أتكلم العربية ولا أكتبها؟ من ثمّ أريد ان أسألك يا والدي، لماذ غيّر جبران اسمه الأول إلى خليل؟

– هو لم يغير اسمه. كان في الحادية عشرة عندما وصل إلى الولايات المتحدة مع أمه وأخيه بطرس، وشقيقتيه مريانا وسلطانة. كانوا فقراء فسكنوا في حي الصينيين في بوسطن. في المدرسة القريبة استهجنت معلمته أن يكون اسمه الأول كاسمه الثاني، فصارت تدعوه خليلاً على اسم أبيه، وبهذا الاسم صار جبران معروفاً في الغرب، أما نحن في لبنان فنعرفه باسمه الأول، أي جبران.

*****

أسير في »الأفنيو الخامسة«، الشارع الأشهر في »التفاحة الكبيرة«. لا أعرف لماذا سُمّيت نيويورك بهذا الاسم الذي لم أجد له تفسيراَ مقنعاً. من بين الظنون، أنها مدينة الثروات، تفاحة كبيرة يريد كل أميركي أو مهاجر أن ينال منها »كدشة«. لكنها ليست كذلك بالنسبة إلى زائر مثلي، حظه سيكون كبيراً لو يتركها وفي جيبه حفنة من الدولارات، فهي مدينة »تكدش« الزائر بأسعارها، أكثر مما تكدشه أي مدينة أخرى في الولايات المتحدة، وربما في العالم.

تأسرني سيرة جبران وتجعلني أتساءل: لو لم يكن رب البيبت سكيراً ومديوناً، وعلى نفار مستمر مع زوجته، ولو لم تهاجر تلك الزوجة مع بنيها إلى الولايات المتحدة بحثاً عن رغيف العيش، ما كان جبران يا ترى سيكون لو بقي في بشراي؟ سكيراً كأبيه؟ مزارعاً أو خبازاً، راعياً أو بائعاً متجولاً، أو في أحسن أحواله، مدرساً للغة العربية في مدارس الضيعة، مع كل الاحترام لهؤلاء الصُّناع؟ ربما ما كانت تلك الهجرة من حسن طالع كاملة رحمه وبنيها، وقد قضوا كلهم بمرض السل، ومن بينهم جبران، وفي أرض غريبة، لكنها كانت من حسن طالع البشرية ولبنان من دون شك، ومن حسن طالع أميركا التي حضنت الصبي اللبناني الطموح، وغرست لغتها في خياله المجّنح، ليطل بها على العالم، ويصبح، حسب قول ميخائيل نعيمة، »أعظم كاتب ظهر في الشرق منذ أجيال«.

*****

كم بعيدة عيناك يا جبران. كم طويلة أنت أيتها الجادة الخامسة، وأنت يا نيويورك، يا« مدينة االحديد والدواليب« كما سماك جبران مرة، كم موحشة هي روحك. أتذكر أن جبران أمضى السنوات العشرين الأخيرة من حياته في »حي غرينتش«، في بيت يقع على الشارع العاشر غرباَ، ويتفرع من الجادة الخامسة. لا أذكر تحت أي رقم كان بيته وكان محترفه الذي كان يسميه الصومعة. أفتح هاتفي النقال وأدخل انترنت العجائب. تستوقفني مقالات أحدها يقول إن بيت جبران كان في الرقم 51 من الشارع العاشر غرباً، وآخر يقول إنه كان في الرقم 55 من الشارع العاشرغرباً، ثم أتأكد بعد مزيد من البحث قصير، أن بيت جبران ومحترفه كانا في الرقم 51.

فجأة يظلّل الغيم سماء نيويورك، وينسّل منها آخر ما بقي من خيوط الضوء، ويهطل المطر. أنسى أن أشتري مظلة، فيما قدماي تجرانني في الشارع الطويل. لا شيء يستوقفني؛ لا مطر ولا بشر، لا متاجر ولا سيارات. وحدها العمارات القديمة والكنائس القديمة، وخيالات جبران وأشواقه ونجواه، أراها ماثلة أمام عيني. أصل إلى الشارع العاشر غًرباً، فارى عند زاويته »كنيسة الصعود« بحجرها الأحمر الداكن. أتذكر ما قرات أن أول عرض لمسرحية »النبي« جرى في إحدى كنائس نيويورك، وأتساءل: أتكون »كنيسة الصعود« هذه يا ترى هي  تلك الكنيسة؟

أسأل الحارس الجالس على مقعد خشبي عند الباب: في أي سنة  شيدت هذه الكنيسة يا محترم؟  يأتيني جوابه بلهجة أهل الجنوب : سنة 1827 يا سيد. أدخل البهو الفسيح فلا أرى أحداً، وحده المسيح المصلوب كان هناك. ليس في قلبي رجاء أطلبه من »نبي« الجليل. لا إشارة أبديها للتبرك والشفاعة. لا صلاة أتلوها أمامه هنا، ولا في أي معبد، وكما أني من رحم الخفاء أتيت، في الخفاء يأخذني التأمل. لكني أشعر برهبة المكان وخشوعه. يتملكني جمال الزجاج المعشّق، وروعة الأعمدة، وما على الجدر من نقوش ورسوم .

أسير في الشارع وأدرك للتو أن بيت جبران كان في الجهة اليسرى حيث أرقام المنازل مفردة، وأن رقم 51 لا بد أن يكون هناك!  أمشي إلى جهة اليمين، أريد معرفة من كانوا جيران جبران، فأكتشف أن منهم فنانين وشعراء سبقوه إلى العالم الآخر، وأن لوحة معدنية مثبّتة على بيت رقم 14 تفيد أن مارك توين، أحد أعظم الكتاب الذين أنجبتهم أميركا،عاش في ذلك البيت، ولوحة أخرى على منزل رقم 18 تقول »هنا عاشت الشاعرة والكاتبة إيما لازاروس«، وفي البيت الذي يحمل الرقم 50، عاش الكاتب المسرحي إدوارد فرانكلين ألبي. أعبر الطريق إلى الجهة اليسرى وأمشي الهوينا. أريد البيت الذي شهد أماني جبران وأحلامه، وأشواقه وصراعه مع المرض، وأوجاعه وخيبات أمله، والذي وضع فيه أجمل أعماله الفنية ومؤلفاته، ومنها »النبي«. أسير مع أرقام البيوت، وفراشات الأمل تتحرك بين ضلوعي. فجأة أصل إلى البيت الذي يحمل الرقم 43 ويتوقف كل شيء! أرى الرقم الذي يليه فإذا هو 57! يا »إله« السماء، أين الأرقام الخمسة الباقية، ومنها الرقم 51؟ أدرك بعد هنيهة أن البيوت الخمسة، ومن بينها بيت جبران ومحترفه، قد هدمت، وقامت على أنقاضها بناية من الشقق المفروشة!

لا تصدق عيني أن البيت الذي أمضى فيه جبران الشطر الأكبر من حياته، لم يعد موجوداً. أدخل »البناية المشؤومة« واسأل الرجل الجالس على كرسي طويل في غرفة الاستقبال سؤالا أعرف جوابه، ولا أريد أن اصدق أنني أعرف جوابه: قل لي يا محترم، هل كان بيت خليل جبران في هذا المكان؟ يجيبني: نعم وكان رقمه 51 يا سيد. أعود فأسأله ومرارة الخيبة تعقد لساني: في أي سنة شُيد هذا المبنى؟ يجيبني: سنة 1956 يا سيد.

 – شكراَ يا محترم، وليكن يومك طيباً.

*****

أترك »بيت« جبران الذي لم يعد موجوداً، وسماء نيويورك تسحب آخر دموعها المتساقطة على الأرض، كأنها تريد أن تخفف من خيبتي وأحزاني، جراء هذا الإهمال الذي لحق بتراث جبران من جانب دولتنا »العليّة«، وأبدأ أتساءل: أما كان بمقدور سفارة لبنان »الموقرة«، أن تشتري المكان، وتجعله متحفاً أو مزاراً، يضم بعض كتب جبران وأغراضه الشخصية، وفيلماً عنه وعن سيرة حياته، أو تضع على مدخله في أقل تقدير، لوحة تقول: »هنا عاش الشاعر والفنان اللبناني جبران خليل جبران من سنة 1911 إلى يوم وفاته سنة 1931«! أتذكر كلام الدكتور سهيل بشروئي الذي كان يشغل منصب رئيس مركز الدراسات الجبرانية في جامعة »مريلاند«، يوم قابلته في لندن قبل سنوات من رحيله، إن في الولايات المتحدة والعالم من لا يزال يحارب جبران وتراثه، وأبدأ أتساءل: من تكون تلك »الأصابع الخفية« في أروقة السلطة في الولايات المتحدة، التي يزعجها وجود جبران؟ أيكون »مجلس كنائس نيويورك« وراء هذا الجحود لأن »يسوع« جبران كان غير »يسوع« الكنائس؟! ماذا عن بلدية نيويورك، أين كانت يوم هدم بيت جبران سنة 1956؟ لماذا لم تحافظ عليه، أسوة ببيوت آخرين من الأميركيين وغير الأميركيين، ومنهم من كان أقل شأناً من جبران بما لا يقاس؟! أين لجنة جبران الوطنية التي لا تترك مناسبة يُذكر فيها اسمه، إلا وتذكّرنا بأنها حريصة على أعماله، وفية لذكراه، ضنينة بتراثه؟!

خطأ ما قد حصل بالتأكيد، لغز تقتضي الأمانة التاريخية جلاء غموضه، كما تتطلب تحقيقاً لا بد أن تجريه وزارة الثقافة اللبنانية، أو يقوم به أحدنا في يوم من الأيام، لعل هناك من يُدان ويُحاسب، ولو بعد مرور السنين!