أسئلة حول حماسة واشنطن وقلق من الصراع السني الشيعي الكردي التركي حول المدينة

ماذا وراء الخطط الأميركية في الموصل؟
ماذا وراء الخطط الأميركية في الموصل؟

محمد قواص

تتواكب معركة تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش جدلاً واسعاً داخل العراق حول مآلات المعركة ومصير المدينة بعد »داعش«. والمعركة تثير نقاشا مذهبيا بين قياديي الشيعة والسنة، ما بين إقليم كردستان وبغداد، كما بين الحكومة التركية والحكومة العراقية، بما في ذلك السجال الشخصي بين رئيس الحكومة العراقي حيدر العبادي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

لكن السؤال يطرح حول الحماسة التي توليها الإدارة الأميركية لتلك المعركة واعتبارها عزيزة على قلب البيت الأبيض، رغم ثوابت الرئيس باراك أوباما بعدم توريط بلاده بحروب جديدة. وربما أن تلك الأسئلة تلك تلقي ظلالا على الأهداف المعلنة للمعركة، خصوصاً أن الجدل المحلي والإقليمي الذي يدور حولها يهدد وحدة العراق ويلوّح بامكانيات تغيير في خرائط البلد الداخلية، كما في خرائط حدوده مع دول أخرى.

يعتبر جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، أن سوريا دولة ليست مهمة للولايات المتحدة. نستنتج من هذا التوصيف أن مصالح واشنطن لا تستدعي انخراطاً عسكرياً على منوال ذلك الذي جرى في يوغسلافيا السابقة أو الكويت أو العراق أو أفغانستان. وربما لذلك تمّ »ايكال« الأمر إلى روسيا، وسيستمر ذلك طالما كان مستطاعا وناجعا.

ويعتبر الرئيس الأميركي باراك أوباما أن لا أخطار مباشرة على الولايات المتحدة جراء تفجّر البركان السوري واحتمال استمرار القذف بحممه. وعليه فإن ما يهمّ الأدارة الأميركية في إطلالتها على حرائق المدن في سوريا، هو، وبشكل حصريّ، »أمن إسرائيل«. وطالما أن تل أبيب لا تقلق من الكوارث في حلب وحمص وحماة وأرياف دمشق.. إلخ، فإنه لا عجالة في واشنطن تستدعي تحرّكاً استثنائيا.

حين استُخدم السلاح الكيماوي في هجوم على غوطة دمشق عام 2014، اعتبرت واشنطن أن النظام اخترق خطوطاً حمراء. والغضب من اختراق الخطوط ليس بالضرورة في الكارثة التي حلّت بأهل الغوطة، فهذا تفصيل، بل في التهديد الذي تمثّله هذه الأسلحة على أمن إسرائيل. حينها، وحينها فقط، تحرّكت القطع البحرية الأميركية، وخرج الرئيس أوباما متوعداً، ما قاد إلى إشراف موسكو ووزير خارجيتها سيرغي لافروف إلى توضيب صفقة، قام وفقها نظام دمشق، طائعاً، بتسليم ترسانته الكيماوية وإخراجها من البلد.

وإذا كان من حقّ واشنطن والعواصم الأوروبية أن لا ترى في الوباء السوري خطراً على الأمن الاستراتيجي للمنظومة الغربية، فمن حقّ أي مراقب أن يسأل عما تحمّله مدينة الموصل في العراق من أخطار مباشرة عاجلة داهمة تستدعي استنفاراً أميركياً أطلسيا وجهداً دوليا إقليميا دبلوماسياً للإعداد لتحرير المدينة من تنظيم داعش. فإذا كان من معاناة يسببُها بطش التنظيم الارهابي، فهي تلك التي يعيشها السكان تحت سطوة التنظيم، ومن الصعب الاقتناع بأن وراء الحميّة الأميركية توقاً لانقاذ مدنيي العراق من إرهابيي البغدادي.

ما مصير الموصل بعد داعش؟
ما مصير الموصل بعد داعش؟

بكلمة أخرى، ما الذي يدفع العقلية الاستراتيجية في الأروقة الأميركية أن ترى في »داعش« العراق خطراً لا تراه عاجلاً في »داعش« سوريا؟ ثم ما الذي جعل العقيدة العسكرية الأميركية تجيد فجأة التخلص من أي ارتباك عضويّ سببته »عقيدة« الرئيس أوباما، والمتأسسة، عملياً، على ثابتة سحب بلاده من أي انخراط عسكري مباشر؟

ليس في الأسئلة خبثٌ مشكّكٌ أو انزلاق في الاستسلام لنظرية المؤامرة. وحين حملتُ تلك الأسئلة إلى جهات أميركية وأوروبية تعمل داخل المؤسسات الرسمية الأميركية والأوروبية، جاءت الأجوبة مسطّحة تبسيطية تتحدث عن »الواجب« و«الأخلاق« في محاربة الإرهاب وتقديم العون لتخليص الشعب العراقي من هول التنظيم الإرهابي. وأعترفُ أني لم أحظ بجواب يندرجُ ضمن فهمٍ لخلفيات الخرائط وتقاطع المصالح واستشرافٍ لما وراء المعركة العتيدة.

تتعامل واشنطن مع ملف »داعش« في العراق بصفته حالة منفصلة عن تلك في سوريا. وهي وإن تعِدُ العدّة في جوار الرقّة السورية بالتحالف مع الأكراد تارة وبعض العشائر العربية تارة ثانية وربما التسليم بدور لتركيا تارة ثالثة، إلا أن الأمر ممكن أن يتعايش مع استمرار الاحتراب في مناطق سوريا الأخرى. ولكن، وبغضّ النظر عن تقنيات المعركة ومسرحها ولاعبيها، فإن العقل الأميركي يتعامل مع تنظيم البغدادي بصفته عصابة لا سياق سياسي اجتماعي لتشكّلها، معتبرة أن إزالة الورم الظاهر يجتث المرض الخبيث الكامن.

تقرع طبول الحرب في بغداد أيذاناً بالنصر القريب ضد الإرهابيين، وعليه يجري جدل صاخب حول هوية من سيحقق هذا »النصر« ومصير الموصل بعد »التحرير«.  وفيما تحشد الولايات المتحدة »مستشاريها« بالآلاف لرفد الأخيار لطرد الأشرار، تعلو أصوات كردية، سنّية، شيعية، تركمانية، عربية.. إلخ، تحذّر وترفض وتهدد، على ما ينذرُ أن لمعركة الموصل أغراضاً تتجاوز تفصيل طرد المحتلين وتطهير العراق من رجسهم.

لا يريد السنّة مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي في المعركة. يرون في ذلك استفزازاً لأهل المدينة السنّة، ولسنّة العراق الذين أغضبتهم انتهاكات »الحشد«  وممارساته )وفق تصريحات، منها عن وزراء في حكومة العبادي(، على ما يُعدّ العدّة لخروج »داعش« جديد آخر يرث »داعش«  المُراد اقتلاعه.

أردغان للعبادي: إعرف حدودك!
أردغان للعبادي: إعرف حدودك!

للمنطقة موقف في هذا الشأن. ضبابية المصير الذي يحيط بالموصل بعد تحريرها، يدفع بتركيا للاطلالة مباشرة، وبقوة، على ميدان المعركة، بحيث تجعّل من »حصان طروادة« التركي في بعشيقة ركناً أساسيا لما تخطط له إدارة أردوغان للصراع وللمدينة.

والضبابية تلك، تدفع دول مجلس التعاون الخليجي لرفد الموقف التركي، من خلال موقفها السابق على ذلك الذي تنبهت له أنقرة حديثا.  يرفض المجلس مشاركة ميليشيات الحشد الشعبي، ذلك أنه  »عندما دخلت هذه الميليشيات الفلوجة، ارتكبت جرائم هائلة«، وفق تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير )في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بنظيره التركي مولود جاويش أوغلو في الرياض بُعيد الاجتماع الوزاري التركي الخليجي الأخير(.

حول »طاولة« الموصل توزّع اللاعبون  المحليون والإقليميون والدوليون. رموا أوراقهم، وأضحت المواقف جلية في تناقضها، على ما يحيل أمر تحرير المدينة تمرينا معقّداً قد يبدو عصيّا مستحيلا.

في كواليس الاعداد لمعركة الموصل أعراض لانطلاق صراعات تفتيتية عراقية-عراقية واقليمية-اقليمية. فوق خارطة العمليات سجال بين بغداد وأربيل حول خطوط الجبهات وسير القوات. يفصح عن ذلك ما نقلته وكالات الأنباء عن قائد عسكري في قوات البيشمركة من أن التفاهمات مع بغداد »تمنع اقتراب أي مقاتل شيعي« )هكذا قال بالحرف(، سواء كان من مقاتلي »الحشد« أو حتى من مقاتلي الجيش العراقي، من الاقتراب من »جبهاتنا« على طريق الموصل.

وفي السجال أيضاً ما يأخذ بعداً مذهبياً ترفض من خلاله قوات »الحشد« )العشائري( السنّية اقتراب »الحشد« الشيعي من الموصل. وعليه يروج سجال تركي عراقي حكومي يدور حول الحاجة إلى عدم العبث بالتركيبة الديمغرافية وفق رواية أنقرة، واعتبار حالة معسكر بعشيقة احتلالا اجنبيا، وفق. رواية بغداد.

داخل اختلال موازين القوى العربية التركية الايرانية وتواجهها في ميادين »الربيع العربي« تأتي معركة الموصل، غير المفهومة توقيتا وتكتيكاً ومآلاً، لتحمل ماء إلى طاحونة تعمل لاعادة كتابة صفحات المنطقة وترتيب فصولها.

في تلك الجلبة من يرى أن في الأمر إطلاقا لخرائط ما »باتت ضرورية« في العراق. على أن هذه الضرورة تنهل عبقها من حاجات كبرى تفسّر حماسة واشنطن )بتصفيق شديد من موسكو( للقيام بجراحة قد تزيل ورماً وتقتل المريض.

وفي تلك الجلبة من يتأمل إشراف الولايات المتحدة على تحييد نفسها عن جدل أطراف الداخل كما عواصم الخارج. وفي الأسئلة حول موقف واشنطن استنتاج يرى في أن الأدارة الأميركية ستقدم نفسها، وهي المتحالفة مع جميع المساجلين المجادلين، حكماً يوزّع الغنائم ويشرف، لا شك، على رسم خرائط ما بعد »التحرير«.

وفي المحصلة يجمع المعنيون أن تنظيم داعش سيخرج من المدينة كما خرج من مدن أخرى في سوريا والعراق. لكن التهرّب من ضبط قضايا العراق وضبط قضايا المنطقة لن يغيّر من أمر البلد شيئا، ذلك أن »داعش« لم يكن إلا ورماً تنفخه علّة خبيثة، وأن بقاء العلّة يقود بشكل حتمي لانتفاخ أورام أخرى، ربما أشد فتكاً، تحمل مسميات أخرى.

وإذا كان من حقّ واشنطن والعواصم الأوروبية أن لا ترى في الوباء السوري خطراً على الأمن الاستراتيجي للمنظومة الغربية، فمن حقّ أي مراقب أن يسأل عما تحمّله مدينة الموصل في العراق من أخطار مباشرة عاجلة داهمة تستدعي استنفاراً أميركياً أطلسيا وجهداً دوليا إقليميا دبلوماسياً للإعداد لتحرير المدينة من تنظيم داعش.

تقرع طبول الحرب في بغداد أيذاناً بالنصر القريب ضد الإرهابيين، وعليه يجري جدل صاخب حول هوية من سيحقق هذا »النصر« ومصير الموصل بعد »التحرير«.  وفيما تحشد الولايات المتحدة »مستشاريها« بالآلاف لرفد الأخيار لطرد الأشرار، تعلو أصوات كردية، سنّية، شيعية، تركمانية، عربية.. إلخ، تحذّر وترفض وتهدد، على ما ينذرُ أن لمعركة الموصل أغراضاً تتجاوز تفصيل طرد المحتلين وتطهير العراق من رجسهم.

داخل اختلال موازين القوى العربية التركية الايرانية وتواجهها في ميادين »الربيع العربي« تأتي معركة الموصل، غير المفهومة توقيتا وتكتيكاً ومآلاً، لتحمل ماء إلى طاحونة تعمل لاعادة كتابة صفحات المنطقة وترتيب فصولها.

اردوغان للعبادي: إعرف حدودك

عادة ما تتحمل الدول الغربية العبء الأكبر لغضب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وخطاباته العنيفة بشأن دعمهم المزعوم للإرهاب، والتدخل في شؤون تركيا، أو رغبتهم في الذهب والعمالة الرخيصة في العالم الإسلامي. لكن سهامه اتخذت منحى آخر.

وفي خطاب وجّهه إلى زعماء دول إسلامية في قمة المجلس الإسلامي في إسطنبول، قال أردوغان: »إلى رئيس الوزراء العراقي ذ اعرف حدودك«، وأضاف: »أنت لستَ بمستواي… الجيش التركي لم يفقد مكانته حتى يتلقى التعليمات منك… عليك أن تعلم أننا سنفعل ما نريد القيام به.«

ويكمن سبب الخلاف في وجود قوات تركية شمالي العراق، إذ يوجد نحو 2000 جندي تركي في معسكر بعشيقة منذ العام الماضي لتدريب المقاتلين السنة وقوات البيشمركة تأهّبا لمعركة لاستعادة الموصل من التنظيم المعروف باسم »الدولة الإسلامية«.

وجاء وجود القوات التركية بموافقة من حكومة إقليم كردستان التي تتمتع بحكم شبه ذاتي شمال العراق، لكن يبدو أنه لا يحظى بموافقة من بغداد. ووصف رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، القوات التركية بأنها »قوات احتلال«، وهو ما يهدد باندلاع »حرب إقليمية«. وقد استدعت كل من أنقرة وبغداد سفيرها للتشاور.

ولا يهدد الخلاف مشاركة تركيا في معركة الموصل فحسب، بل يمتد إلى تهديد المعركة ذاتها، وذلك مع دخول الحكومة العراقية في نزاع مرير مع عضو رئيسي في ائتلاف محاربة تنظيم الدولة. وتقول الولايات المتحدة إن العمليات العسكرية في العراق يجب أن تُجرى بتنسيق كامل واتفاق مع الحكومة العراقية.

ويقول مارتن غوركان، وهو محلل عسكري والكاتب بصحيفة ال-مونيتور: »الولايات المتحدة لا ترغب في أن يشتت قتال جانبي الانتباه عن المعركة ضد )تنظيم( الدولة الإسلامية.«

ويضيف »سياسة الولايات المتحدة هي أنه إذا أرادت تركيا محاربة تنظيم الدولة في العراق، فعليها أن تنضوي تحت مظلتنا. إنها تحاول منع تركيا من القيام بلعبة جديدة.«

ما هي لعبة تركيا الجديدة إذا؟

إن رغبة تركيا، التي تعد قوة سنية كبيرة، تكمن في جوهرها في الاحتفاظ بنفوذها في الموصل، التي تسكنها نسبة كبيرة من التركمان الذين يتبع أغلبهم المذهب السني. وقد شاب عدم الاستقرار علاقات تركيا مع حكومة حيدر العبادي التي يقودها الشيعة. كما تشعر تركيا بالانزعاج من فكرة احتمال مشاركة فصائل شيعية مسلحة في عملية استعادة الموصل، إذ حذّر رئيس الوزراء التركي، بن علي يلدريم، من »أي تغيير بالقوة في التركيبة الديموغرافية للمنطقة«.

وتعتبر تركيا أن مسلحي حزب العمال الكردستاني في تركيا والمليشيات الكردية في سوريا ارهابيون، لكنها تحتفظ بعلاقات وثيقة مع حكومة كردستان العراقية، على الأقل من خلال صادرات النفط من كردستان العراق عبر تركيا. وتصر أنقرة على استبعاد القوات الموالية لحزب العمال الكردستاني من المشاركة في معركة الموصل.

رئيس الوزراء العراقي رد على الرئيس التركي عبر تغريدة بموقع تويتر ويقول: »أنقرة تحاول تشكيل مركز قوة سني شمالي العراق، كنوع مما يطلق عليه )سُنّة-ستان(، عبر حكومة إقليم كردستان والعشائر السنية.. وتقاتل ضد أطراف مسلحة غير حكومية من أجل الهيمنة المحلية.

ويستطرد »لكنها تلعب لعبتها في حجرة مليئة بالزجاج وفي وجود فيلين، هما الولايات المتحدة وروسيا. فعلى تركيا أن تتعاون مع الولايات المتحدة باعتبارها عضوا في حلف شمال الأطلسي. لكن تركيا تحاول، على المستوى السياسي والدبلوماسي، التنسيق مع روسيا، وهو ما يخلق انقساما خطيرا.«

ما دور الجنرال قاسم سليماني في الموصل؟
ما دور الجنرال قاسم سليماني في الموصل؟

وفي جزء كبير منه، يهدف خطاب أنقرة، كأي وقت مضى، إلى الاستهلاك المحلي. فالرئيس، الذي تتسم خطاباته بالنارية، معروف باستخدامه التصريحات القومية والرنانة لحشد أنصاره، لا سيما منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز الماضي. ولا يُرجّح أن تتحول تلك التهديدات إلى أفعال، وستضطلع تركيا على الأرجح بدور في معركة الموصل، على الأقل من خلال توفير غطاء جوي.

لكن التوتر الشديد بين الدولتين الجارتين يشتت التركيز.

ففي بغداد، لجأ رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، إلى موقع تويتر للرد على الرئيس التركي، مشيرا إلى مطالبة أردوغان عبر تطبيق »فيستايم«، خلال محاولة الانقلاب، للأتراك بالنزول إلى الشارع لمقاومة الدبابات.

وقال العبادي في رد لحساب أردوغان على تويتر: »نحن لسنا أعداءك، وسنحرر أرضنا من خلال إصرار رجالنا وليس من خلال مكالمات الفيديو.«

——

الأكراد ومعركة الموصل

لايزال تحرير الموصل، ثاني أكبر مدينة في العراق، يمثّل أولوية قصوى بالنسبة إلى معظم الأطراف الفاعلة المشاركة في الحملة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية. وتُعدّ حكومة إقليم كردستان وقوات البشمركة التابعة لها حليفاً رئيساً في هذه المعركة. ومن المُستبعد أن ترسل حكومة إقليم كردستان وحدات البشمركة إلى الموصل نفسها، لأنها مدينة ذات أغلبية سنّية لاتطالب بها القيادة الكردية ولا تنافس عليها كي تكون جزءاً من أراضيها – وهذا شرط أساسي لانخراط البشمركة المباشر في المعركة. عوضاً عن ذلك، يتم التركيز على تهيئة الأرضية السياسية في الموصل لمرحلة مابعد إطاحة الدولة الإسلامية.

وتحسّباً لحدوث فراغ السلطة في الموصل في نهاية المطاف، بدأت حكومة إقليم كردستان بالتخطيط لما سيحدث بعد ذلك في هذه المدينة التي تقع على بعد ساعةٍ واحدة في السيارة من أربيل، عاصمة الإقليم. وبالتالي، وضع الأكراد نُصبَ أعينهم أولوياتٍ ثلاث:

أولاً، لايريد الأكراد أن يبقى تنظيم الدولة الإسلامية على مسافة قريبة من إقليم كردستان بأي شكل من الأشكال. وهذا لايشي فقط بالحاجة إلى إلحاق الهزيمة بالتنظيم وحسب، بل أيضاً بضرورة ضمان ألا يظهر مجدّداً بشكل يطرح تهديداً.

ثانياً، لايريد الأكراد أن تستغل الحكومة المركزية العراقية، ولاسيما الجماعات شبه العسكرية الشيعية المنضوية تحت مظلة الحشد الشعبي، استعادة الموصل لإعادة فرض سلطة بغداد في الإقليم. وكما أوضح رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي مراراً، تشكّل قوات الحشد الشعبي جزءاً من الدولة، التي تدفع رواتب أعضائها وتنسّق عسكرياً مع قادتها.

ثالثاً، لايريد الأكراد أن تضم الحكومة المحلّية المقبلة في الموصل عراقيين سنّة لايكنّون ودّاً للأكراد، كالبعثيين السابقين. الهدف الرئيس للأكراد هو وجود حلفاء لهم في المدينة من شأنهم دعم سياسات حكومة إقليم كردستان التي تم التفاوض بشأنها مع الحكومة المركزية. وقد تمحورت هذه السياسات عموماً حول تعزيز الحكم الذاتي للأقاليم والمحافظات والحصول على حصة أكبر من الدخل القومي.

غير أن دلالات ماسيحدث في الموصل في خاتمة المطاف لن تقتصر على الموصل وحسب. فقد يكون ذلك، بالنسبة إلى الأكراد على وجه الخصوص، بمثابة الاختبار النهائي لمدى قدرة العراق على إدارة مجتمعاته المحلّية بتنوّعاتها الطائفية والعرقية بصورة فعّالة، وأداء وظائفه باعتباره دولة فيدرالية واحدة. إذاً، الأكراد يخطّطون للمستقبل من الآن.

ستتطلّب مسألة منع عودة تنظيم الدولة الإسلامية بعد هزيمته في الموصل، التعاون مع القوى القبلية والمحلّية والدول المجاورة التي تملك القدرة العسكرية اللازمة للحفاظ على السيطرة على المدينة والمناطق المحيطة بها.

السنّة ومعركة الموصل

لا يريد السياسيون السنّة للحشد أن يكون طرفاً في معركة تحرير مركز محافظة نينوى )الموصل(. في آب/أغسطس الماضي، أصدر مكتب إعلام رئيس إئتلاف »متّحدون« أسامة النجيفي بياناً صحافيّاً تحدّث عن إجتماع في مكتب أسامة النجيفي، عقدته قيادات من تحالف القوى السنيّة مع سفير الولايات المتّحدة الأميركيّة في العراق ستيوارت جونز، وبحث في جملة من القضايا، أبرزها موقف السنّة من مشاركة الحشد الشعبيّ في معركة تحرير الموصل. وإنّ المجتمعين من قادة الكتل السنيّة أكّدوا أنّهم ضدّ أيّ مشاركة للحشد الشعبيّ في معركة تحرير الموصل، عازين الأمر إلى رفض أهالي مدينة الموصل مشاركة الحشد، بسبب الخروق الّتي صاحبت تحرير مناطق أخرى )في إشارة إلى صلاح الدين والفلّوجة(، ونفّذها بعض فصائل الحشد.

ورأى المجتمعون أنّ »مشاركة الحشد الشعبيّ في معركة الموصل سترسل إشارات بالغة السوء إلى مواطني نينوى، ويمكن أن تصبّ في الحملة الدعائيّة لتنظيم داعش الإرهابيّ«.

ويأتي رفض مشاركة الحشد الشعبيّ في معركة تحرير الموصل، على خلفيّة إنتهاكات لحقوق الإنسان حدثت في معركتي صلاح الدين والفلّوجة، ولكن مع هذا الرفض والإتّهامات الموجّهة إلى الحشد، إلاّ أنّ قادته يصرّون على المشاركة في معركة الموصل، ولا يأبهون لكلّ أصوات الرفض.

وفي ردّ سريع على موقف إئتلاف »متّحدون« تجاه مشاركة الحشد الشعبيّ وإجتماعه بستيوارت جونز، وصف عضو هيئة الرأي في الحشد الشعبيّ كريم النوري، إجتماع سياسيّين سُنة بجونز بأنّه »وصمة عار على جبين السياسيّين الحاليّين«، مؤكّداً أنّ »مقاتلي الحشد الشعبيّ قوّة أساسيّة ستشارك حتماً في تحرير مدينة الموصل«.

وكانت منظّمة »هيومن رايتس ووتش« قد دعت، قادة الجيش العراقيّ إلى منع الميليشيات )في إشارة إلى قوّات الحشد الشعبيّ(، الّتي لديها سجّلات إنتهاكات خطيرة من المشاركة في العمليّات العسكريّة المخطّط لها في مدينة الموصل، وقالت: »إنّ التزام الحكومة باتّخاذ كلّ التدابير الممكنة لحماية المدنيّين وضمان احترام قوانين الحرب، يجعل منع هذه المجموعات من المشاركة في معركة الموصل أمراً ضروريّاً«.

وفي هذا الإطار، قال نائب مدير قسم الشرق الأوسط في منظّمة »هيومن رايتس ووتش« جو ستورك في التّقرير الّذي أصدرته المنظّمة ودعت فيه إلى عدم مشاركة الميليشيات الّتي ارتكبت انتهاكات ضدّ حقوق الإنسان: »إنّ الميليشيات الّتي تشكّل جزءاً من الحشد الشعبيّ ارتكبت مراراً إنتهاكات مروّعة كانت واسعة النطاق في بعض الحالات، آخرها في الفلّوجة. لم تكن هناك عواقب، رغم وعود الحكومة بالتّحقيق. وعلى قادة العراق تجنيب المدنيّين في الموصل الأذى الخطير من قبل الميليشيات الّتي سجّلت إنتهاكاتها حديثاً«.

وقد لا تقتصر مشاركة الحشد الشعبيّ في معركة تحرير الموصل على تواجده فقط، فهناك أنباء تشير إلى تواجد قائد فيلق القدس الإيرانيّ قاسم سليماني في المعركة، وهو ما يثير غضب السنّة أكثر، وينتج قلقاً متزايداً بالنّسبة إلى سكّان مدينة الموصل من إحتمال حدوث إنتهاكات في حقّهم.

وأمل المتحدّث بإسم هيئة الحشد الشعبيّ أحمد الأسدي، أن يكون قاسم سليماني متواجداً في معركة تحرير الموصل، لأنّ لديه فضلاً كبيراً في العمليّات الّتي تجري ضدّ تنظيم »داعش«، وهذا التّصريح يؤكّد أنّ هناك رغبة كبيرة لدى قوّات الحشد الشعبيّ قد تقفز على رغبة الحكومة العراقيّة وسكّان الموصل في تواجد مسؤول عسكريّ إيرانيّ في المعارك.

تبقى مخاوف الساسة السنّة والمدنيّين في المناطق الّتي يسيطر عليها تنظيم »داعش« قائمة ما دامت هناك قوّات يعتقدون أنّها جاءت لقتلهم وليس لتحريرهم، وما دامت هناك تحرّكات تجري لبعض الفصائل المسلّحة من دون علم الحكومة العراقيّة، الّتي لن تستطيع ضبط كلّ التحرّكات أو منع أيّ إنتهاكات لحقوق الإنسان.

وإذا ما كانت هناك مشاركة مفروضة للحشد الشعبيّ في معركة تحرير الموصل، فإنّ المعركة لن تكون خالية من إنتهاكات حقوق الإنسان، وقد تحدث مواجهات بين الحشد الشعبيّ )الشيعيّ( والحشد الوطنيّ )السنيّ( الّذي يترأسه محافظ نينوى السابق أثيل النجيفي، وهذه في حدّ ذاتها خطوات تعرقل مسار المعركة.