هل بناء الدول وتنمية الأقتصاد يأتي بالتخطيط للغد.. أم بصرف مافي اليد ؟

لندن أمين الغفاري

الأعلام الان وخاصة في عالمنا العربي ذ في غالبه بالطبع وليس جميعه ذ لايشكل دعامة للوعي العام. ولم تعد قضيته هي التنوير أو المعرفة أو حتى نقل الخبر متضمنا قيمة حقيقية. وليس مجرد تشهير واعلان للأثارة الرخيصة. ولكن أصبحت مهمته الأساسية هي الأثارة والبلبلة وزرع الفوضى. وطرح قضايا فاسدة في الأساس وهو أمر ليس لحساب الأوطان. ضد الظلم والطغيان أو حتى الاخطار المخلص في الطرح. ولكن لحساب المصالح القريبة او البعيدة وكلها في صف قوى اقليمية ودولية ومذهبية. الهدف الأبعد هوتقويض العالم العربي. وهو هدف تحدده قوى غير عربية بالتأكيد. وكان سبيلها استخدام الأحباط الشعبي من ممارسات بعض النظم. ودفع هذا الأحباط والتنفيس من خلاله الى رسم خريطة جديدة للعام العربي )الشرق الأوسط الجديد وقد كتب عنه شيمون بيريز. والفوضى الخلاقة التي بشرت بها كونداليزارايس( وهكذا كان الربيع العربي خليطا من ثورة مكتومة وبخار فتح الباب و تهيأ لأنفجار.  ومن بعد ذلك محاولة لرسم خارطة جديدة

هل يعني ذلك أن الربيع العربي كان خريفا جاء يتدثربأجواء الربيع واطلالاته المنعشة ؟ وهل كان قدرا على الشعوب أن تدفع ثمن ثوراتها وانتفاضاتها ضد الطغاة مادامت قد اندلعت دون برنامج يحدد الأهداف ولكن بشعارات مبهمة. ودون قائد يعصم من الجنوح. ويتصدى للأهواء. ولكن بزحام على المواقع وادعاءات الزعامة لمجرد ان زيدا قد ساهم في الحشد أو ان عمرا لقي تدريبا على اسقاط النظم في اوكرانيا او في غيرها. هل جاءت الثمرة في مصر ذ حين حصدنا المحصول – شديدة المرارة في حلوقنا على غير مارجونا وداعبتنا الآمال. يوم أن خرجت الجماهير الهادرة تهتف للحرية وتسعى للخلاص من عهود وسلطات شاخت في مواقعها كما عبر بصدق الراحل الكبير محمد حسنين هيكل ؟. أم أن مايحدث من انفلات وصراعات. ومزايادات حتى في داخل القوى الوطنية كان النتيجة الطبيعية وانزلاقا حتميا. هل كان في مقدورنا ان نتلافاه أم أن ذلك تصور اقرب الى الخيال أو الحلم الرومانسي منه الى طبيعة الواقع المرالذي عايشناه. ثورة بلا قائد. وبلا برنامج ماذا نتوقع لها ان تكون.  سوى ان تصبح مسرحا للتناطح على القيادة والرغبة في ركوب اي موجة تحقق طموحا حتى وان كان بلا مواهب وقدرات وبرامج حقيقية تسعى للأصلاح ان لم تكن تقدم طفرة للأمام. وحين ادلهمت الأمور. واصبحت تنذر باشتباك يمكن ان يفضي الى حرب أهلية. تقدم من يحمي الأمة ويشكل صمام الأمان. وكان قدر السيسي أن يكون حاكما دون مسعى أو رغبة. وانما كان الرئيس الضرورة وكان التفويض الشعبي اثر تفويض يقدم له باختيار حر وحماس شديد.

أتى الرجل ليبني ويشيد ويقيم دعائم دولة تعرضت لأنهيار قبل ان يبني لها اقتصادا تهاوى بفعل سياسات بداياتها اعوام السبعينات وما تلاها من بيع للمصانع وتقويض للقطاع العام والفساد الذي عشش في وزارة الزراعة كما لو انها كانت تجمع للصوص في عهد مبارك. ثم عمليات النهب المنظم لموارد الدولة حين تزاوجت السلطة ورأس المال. وتسليم ادارة الدولة للأنجال والمحاسيب. واالتخطيط لعملية التوريث. ثم تداعيات ثورة 25 يناير والتسلسل المحكم لمحاولة سرقتها وتطويعها لسياسات دولية. كانت تريد العودة لتقسيم المنطقة من جديد وفق اسس جديدة تتخطى سايكس بيكو برؤى احدث واوفق. ازمات مصر ليست حصاد سنتين. وعلاجها لايأتي ايضا خلال سنتين. ولكن العلاج يأتي بالتخطيط للغد وليس بصرف مافي اليد. لم يكن السيسي هو المسؤول عن دمار عشرات السنين. ولم يكن هو المسؤول عمليات التجريف والنهب المتتالي لثروات البلاد. ويأتي حديث سواق )التوك توك( لكي ينشغل به اعلام ارعن يبلغ سوء الظن به حدا لامعقول في تصويره على انه تلخيص لمشاكل مصر. أصبح سائق )التوك توك(هو الجامع المانع لكل القضايا وعلينا الأنصات له. نعم نسمع ولكن لاننبهر لأن في حديثه الكثير من المغالطات التي تعلمها من اعلام غير مسؤول سبق وان رددها ومنها ان مصر كانت تقرض بريطانيا. وهو امر ليس صحيحا على الأطلاق فبريطانيا كانت مدينة لمصر نتجة خدمات قدمتها مصر اثناء الحرب العالمية الثانية كمواد غذائية او تأجير شواحن نقل وغير ذلك ولكن الأمر لم يصل الى الأقراض المادي. أو ان اليابان كانت تأتي لنعلمها التخطيط لبناء نهضة. وغير ذلك مما لايتسع له مجال الشرح لتهافت ما طرحه من معلومات. ولكن من حقه ان يشكو الغلاء والنقص في الخدمات. ومعه حق ان يشكو. والكل يعرف والرئيس يقول انها مرحلة بناء. والقروض التي نحصل عليها للتنمية وبناء المستقبل. وليس لتوزيعها ثم نواجه الطوفان بعد ذلك. لكن الأعلام المغرض والكثير من الأعلاميين الذين يجعلون من انفسهم زعماء هذا الزمان. قيتنقلون بين الأثارة والشحن وارتداء عباءة الوعاظ من اهل الحكمة والرشاد سواء عن قصد او بغير قصد لأنه يؤدي لنفس النتيجة يؤدون دورا شديد التردي ان لم يكن الأنحطاط. انها أزمة تشكل سمة المرحلة وسوف تمر بكل شرورها لكي نعود ونتوازن بعدها. ويبقى الأعلام أو أكثره على الأقل هو آفة تلك المرحلة.  وهو مصيبتها الأولى بل وهو خنجرها المسموم.

صورة الفلاح المصري في عهد الليبرالية والاحزاب قبل ثورة يوليو عام 1952 وتعهد الاحزاب في كل وزارة بمكافحة الحفاء
صورة الفلاح المصري في عهد الليبرالية والاحزاب قبل ثورة يوليو عام 1952 وتعهد الاحزاب في كل وزارة بمكافحة الحفاء

رحيل الفنان العراقي يوسف العاني

المسرح العربي يفقد أحد علاماته البارزة ورواده الكبار

ودع العالم العربي رائدا كبيرا من رواد المسرح والسينما العراقية والعربية الفنان يوسف العاني. هو واحد من عمالقة فن التمثيل والتأليف والأخراج.  ورواد الحركة الفنية في العراق. الذين تركوا بصماتهم على الكثيرمن الأعمال الفنية ومنهم الفنانان الكبيران حقي الشبلي وابراهيم جلال.  وقد أرسوا جميعا قواعد ومناهج ومؤسسات لفن التمثيل والأخراج بنفس القدر الذي تركوا فيه تراثا غنيا من الأعمال الفنية المتميزة في تاريخ فن التمثيل. شارك هؤلاء العمالقة بمواهبهم ومهاراتهم الفنية في اعمال متعددة الصوروالأشكال سواء على شاشات السينما و التلفزيون اوعلى خشبة المسرح وهو المدرسة الأولى لفن التمثيل والأبداع. كانوا في ادوارهم تعبيرا عن الواقع العراقي بهمومه وطموحاته. وغاصوا في قضاياه ومشاكله في اطارات ممزوجة بالنقد والتوجيه نحو الأمثل والأبقى وأحيانا بالنقد الساخرالذي تدفعه المرارة من التشوهات التي تصادفنا في حياتنا. ان كان حقي الشبلي قد أرسى وأقام واقتحم هذا المجال من الفنون عن دراسة وعلم. وان كان ابراهيم جلال قد أضاف بعدا آخر بخبرات متعددة سواء في التخصص او الممارسة. فان لقاءه مع يوسف العاني وتعاونه معه قد قدم طفرة كبيرة في تدفق موهبة يوسف العاني وتطورها الذي ساهمت من خلاله في تحقيق نهضة كبيرة في مجال الحركة الفنية عامة. ولد يوسف العاني عام 1927. وظهر ولعه بفن التمثيل مبكرا في الساحة المدرسية. وبعد التحاقه بالجامعة حرص على تنمية هذه الموهبة وهو مازال طالبا حيث شكل مع بعض زملائه من الطلبة فرقة مسرحية تؤدي نشاطا فنيا طلابيا لافتا. وبعد تخرجه استقال من موقعه كمعيد في الجامعة وتفرغ للعمل الفني تمثيلا وتأليفا. احتل مكانة كبيرة على الساحة الفنية في العراق منذ اربعينات القرن الماضي. عاصر العهدين الملكي والجمهوري. وكان في العهدين يتمتع بالحس الأجتماعي العالي الذي يتجاوب مع مطالب الجماهير. ولذلك قدم منذ بداياته مجموعة من الأعمال ذات الصبغة الأجتماعية مثل )اكبادنا. وتؤمر بيك. وفلوس الدواء( وغيرها.. قام بتأسيس فرقة )المسرح الفني الحديث( عام 1952 مع الفنان الراحل ابراهيم جلال. وقد حققت نجاحا كبيرا. وأسهمت في تقديم وجوه جديدة على الساحة الفنية. تطورت اعماله حين فتح الباب امام التراث الأجنبي ليغترف من نصوصه مايتلاءم مع حركة مجتمعه. وتطلعات شعبه. وأذكر انه في منتصف السبعينات قدم على مسرح الأزبكية في القاهرة مسرحية )البيك والسائق( وهي مأخوذة عن مسرحية للشاعر والكاتب المسرحي الألماني بريخت )السيد مونتيلا وتابعه ماتي( وهي مسرحية شعبية عن اقطاعي يكتشف انسانيته وعطفه على الفقراء ؛حين يكون في حالة سكر. ولكنه في صحوته يعود الى تكوينه الشره وطبيعته في الأستبداد والأستغلال. وقام يوسف العاني بدور )مونتيلا أو البيك( فأضفى على الدور سحرا خاصا قابله الجمهور بالتصفيق. مماجعل الممثل الذي قام بدور السائق يخرج على النص مخاطبا الجمهور )هل تصفقون للأقطاعي.. !( وهي من اخراج ابراهيم جلال. وقد نالت المسرحية نجاحا كبيرا مع الجمهور المصري كما احتفى بها النقاد. ان مساهمات يوسف العاني تزاحمت في تنوعها وثرائها بين المسرح والسينما والتلفزيون. فقد دفع بفن السينما كما دفع بفن المسرح. وكان انتاج فيلم )سعيد افندي( الذي قدم عام 1956 ثمرة لجهده وحماسه في دفع الآخرين لانتاجه. وقد كتب حوار الفيلم وقام بتمثيل دور سعيد افندي. ويعد هذا الفيلم علامة بارزه في تاريخ السينما العراقية. وقد تأثر مخرجه كاميران حسني بالموجة الجديدة في ذلك الحين والتي عرفت بالواقعية. وكانت درتها واشعاعها السينما الأيطالية التي قدمت طرحا جديدا على السينما العالمية. اشترك في عدة اعمال سينمائية هامة منها )المسألة الكبرى( للمخرج محمد شكري جميل و)بابل حبيبتي( اخراج فيصل الياسري. وكان آخر اعماله السينمائية فيلم )اليوم السادس( اخراج يوسف شاهين. تم تكريم يوسف العاني في الكثير من مهرجانات المسرح العربي. وبرحيله انطفأت شمعة أخرى كانت اضواؤها شديدة الوهج. وكان سحرها عميق الأثر في حياتنا الفنية.

رحيل الدكتور وميض نظمي

 الفنان الكبير الراحل يوسف العاني أكبر رموز الأبداع الدرامي في العراق
الفنان الكبير الراحل يوسف العاني أكبر رموز الأبداع الدرامي في العراق

مناضل بارز في حركة التحرير والتنوير في العراق

رحل وميض نظمي.. رحل شعلة منيرة في الفكر وفي الحركة. في الرأي وفي الموقف. شلالا هادرا في صدقه وفي تدفقه رحل رجل يتجسد في داخله حلم ترنو اليه كل خلجاته وتسكن فيه كل تطلعاته وهو تحرير ارادة العراق وأرضه.  بعد ان اقتحم أرضها دخيل محتل دنس أرض العراق وسمائه ذات ليل حالك السواد لف العراق وخيم على ربوعه. ومما يجعل الصورة أكثر قتامة وسواد أن العالم بمؤسساته وهياكله الرسمية وقف متفرجا على اهدار ابسط قيم الانسان وشاهدا على أبشع مجزرة يسفك فيها الدم وتشرد فيها الأسر. تتبعثر في الشوارع والأزقة جثث أطفال في سن البراءة. وتتفكك روابط العائلات في الماهجر والمنافي ان لم يكن في الملاجئ وتحت الخيام. وميض نظمي ذو الفكر المتوهج لاتنفصل رؤاه في الحركة الوطنية عن رؤاه في الحركة القومية. فهما توأمان متحدان أمن العراق جزء من الأمن القومي العربي. والأمن القومي العربي هو ضمان الأمن الوطني للعراق وشرط خلاصه بل وازدهاره. رحل رجل وهب حياته من اجل فكرة تقوم على تحرير العقل العربي واستنارته وتؤمن بوحدة الأرض والتاريخ والمصير. ومن عرفه شابا في ريعان الصبا تتفجر مشاعره غيرة وحبا على الأرض واستقلالها يتفهم سر غضبته من ارتباط العراق بأحلاف تجره للتبعية. وتشكله ضمن منظومة استعمارية كحلف بغداد. ويترتب على موقفه المبدئي من رفض ارتباط العراق بالعجلة الغربية. وانتظامه في مسيرات تندد بالحلف وبالقواعد العسكرية لاسيما بعد العدوان الثلاثي على مصر واثر تأميم قناة السويس. ومعاداته الصريحة لسياسة نوري السعيد ان يطرد من العراق. ويذهب الى العاصمة اللبنانية طالبا في الثانوية العامة. تعد التجربة الثانية التي كشفت عن صلابة معدنه وشدة مراسه كانت معاداته للحركة الأنفصالية في سوريا التي قادها المقدم عبدالكريم النحلاوي في 28 سيبتمبر عام 1961. وتمزقت على أثرها الجمهورية العربية المتحدة أول تجربة وحدوية تتم بارادة شعبية خالصة. ولهذا كانت المشاعر القومية أشد التهابا لضمان استمرار الوحدة وليس لضرب تلك التجربة وكان وميض نظمي احد الشرارات المضيئة التي اعربت عن انزعاجها سواء بالكتابة أو مساهمته في الرفض الجماهيري الذي اندلع في مواجهة انهائها وميض نظمي كان كتابا مفتوحا تسبر غوره في سلاسة ويسر. وترصد نشاطه في لمحات خاطفة. ولذلك فانه رغم تحفظاته السياسية على بعض ممارسات النظام السابق للأحتلال في العراق الا انه وقف بصلابة في وجه الأحتلال. وكانت معارضته جهارا نهارا. وكان موقفه واضحا وجليا في حوار اجري على شاشة قناة عربية في ادانة الأحتلال منددا بادعاءات التحرير التي ادعاها مروجو ودعاة الأحتلال ودهاقنته ومن جاء في ركابهم. مما حدى بمحاوره ان يقوم محاولا الأعتداء عليه بالفعل لابالقول. ولم يتراجع وميض نظمي ولم يذعن للأرهاب الذي واجهه. قليلون هم اصحاب ذلك المعدن النفيس من البشر. هم لايتلونون. ولايتشكلون مع كل ازمة او مرحلة. ولكنهم ابدا على العهد قائمون. يتنفسون الصدق في راحة الضمير. ويصمدون بالقناعة والأيمان. ويقاومون بالمجاهرة والكلمة الصريحة الجريئة. فتشوا في عقولهم وجيوبهم سوف تجدون العفة والطهارة ثروتهم الكبرى في الحياة.

الدكتور وميض نظمي
الدكتور وميض نظمي

شعلة متوهجة من الكبرياء الوطني والقومي