مرسيليا الغارقة في تاريخ الغرب وعبق الشرق

مرسيليا- معمر عطوي

حين تهم الطائرة بالهبوط في مطار مرسيليا، تشعر بترحيب العذراء مريم وإبنها المسيح يشمخان في أعلى الجبل المحاذي للمرفأ القديم كأنهما يرحبان بالوافدين جواً وبحراً وبراً، إلى مدينة تاريخية تجمع بين العراقة الأوروبية وعبق الشرق.

هناك حيث كنيسة Basilique Notre-Dame-de-la-Garde، القديمة المبنية منذ القرن السادس عشر في ظل العهد البزنطي الجديد، تبدأ الزيارة أثناء دوران الطائرة فوق السواحل الفرنسية الجنوبية قبل الهبوط، في مدينة كانت تسمى ماسيليا في عهد الإغريق قبل الميلاد بستمئة عام.16466479_303

View taken at sunset on January 03, 2013 of the "Vieux-Port" (Old Harbour) in the French southern city of Marseille, one week ahead of the 2013 "Marseille-Provence European Capital of Culture" event. In the background, at center, is seen the Notre-Dame de la Garde basilica.   AFP PHOTO/GERARD JULIEN        (Photo credit should read GERARD JULIEN/AFP/Getty Images)

هي عاصمة إقليم Bouches-du-Rhône department الواقع ضمن مقاطعة Alpes-Côte d’Azur region الفرنسية الجنوبية الشهيرة بالصناعات والزراعة والتجارة والملاحة بحكم موقعها الإستراتيجي على البحر الأبيض المتوسط ومركزها كصلة وصل بين شمال إفريقيا والقارة الأوروبية.

ما إن تطأ قدماك أرض المدينة التي يقال إن البشر سكنوها منذ نحو 30,000 سنة، وفقاً لرسومات تم اكتشافها في كهوف في مرسيليا تعود إلى الفترة ما بين 27,000 و 19,000 قبل الميلاد، حتى تشعر أن برنامج الرحلة سيكون مثقلاً بالزيارات والنشاطات.

تخرج من محطة سان شارل للقطارات وسط المدينة فتستقبلك الأحياء القديمة بمبانيها التي أكل الدهر عليها وشرب وباتت قطعاً أثرية لكن لا تزال مسكونة بالبشر رغم شعورك بأن بعضها آيل للسقوط أو هي في طور التفكك.

تقودك قدماك إلى أحياء العرب المغاربة، حيث يبلغ تعداد السكان من الأصول الشمال إفريقية نحو 80 الفاً، هم جزء من شريحة كبيرة غير فرنسية تسكن مرسيليا منذ مئات السنين، أبرزهم وفد اليها في القرن الماضي من إيطاليا وأرمينيا وكورسيكا وإسبانيا واليونان والقارة السمراء.

العرب والأمازيغ هنا لهم طابع خاص يميز أحياءهم المكتظة بالناس والمتاجر المصطفة ببضائعها المتنوعة على طريقة أسواق الهال العربية، وبالرجال الملتحين بلباس أفغاني ونساء أدلين عليهن من جلابيب تشي بأسلمة متشددة وصلت الى القارة العجوز، مستفيدة من الحريات والديموقراطيات المفقودة في البلدان الإسلامية. هنا أيضاً تصدح من بعض المحلات والبيوت أصوات الأغاني والموسيقى المغاربية لتشكل خطاً هرمونياً مع مشاهد صحون الكوسكوس والطاجن، بما يشعرك أنك في مراكش أو في عنابة أو في أحد أحياء تونس العاصمة.

الأقدام السود

قصة الجزائريين مع فرنسا مرتبطة بالعهد الكولونيالي، حيث استعمرت فرنسا الجزائر لأكثر من 130 سنة، خرج بعدها الفرنسيون بفعل الثورة الجزائرية الشهيرة التي دفعت أكثر من مليون ونصف المليون شهيد ثمناً للاستقلال الذي تحقق في العام 1962.

ولعل هجرة الأفارقة الشماليين إلى بلد الحريات كانت سابقة لعهد الاستقلال الجزائري، فهناك مئات الأشخاص الذين تعاملوا مع الفرنسيين أو خدموا في جيشه تم تهريبهم إلى فرنسا ليكونوا بمأمن من انتقام الثوار، لذلك شهدت المدينة وفوداً من المهاجرين في فترة ما بين الحربين الأولى والثانية، ووصلت هذه الهجرة إلى ذروتها مع وصول »الأقدام السوداء« عام 1962 ، المصطلح الذي يدل على المهاجرين الجزائريين. لذلك أصبحت الجالية الجزائرية من أكبر الجاليات الشرقية في مرسيليا تلتها جالية من سكان جزر القمر وصلت حديثاً مع بداية القرن الحالي وباتت تشكل نحو 45 الف شخص.

وبالقرب من هذه الأحياء يوجد شارع الكانبيير الرئيسي. وهو من أكبر الشوارع التي تعج بالمحلات التجارية الحديثة، يتفرع منه العديد من الشوارع التي تقودك الى معالم مميزة على طول مساحة مرسيليا وعرضها.

رائحة البحر

تخرج من أحياء المغاربة )ولا يقال أحياء العرب لأن سكان الجزائر، خصوصاً، مزيج من عرب وأمازيغ(، حيث النظافة شبه معدومة والتنظيم مفقود على غرار أحياء الضواحي في العديد من مدن العالم، لتتنفس هواء البحر عبر الميناء القديم، حيث تخرج من زحمة الشوارع الخانقة إلى ساحة مفتوحة على الهواء البحري العليل ممزوجاً برائحة الأسماك الطازجة التي يبيعها الصيادون على ضفاف المياه المتجمعة في مساحة لا تتعدى الكيلومترات القليلة والموصولة بمضيق صغير مع البحر المتوسط.

يعود هذا الميناء الذي تحتضنه العذراء بكنيستها العالية المشرفة على المدينة، إلى العام 600 قبل الميلاد، حين أسسه اليونانيون. في هذا الميناء الصغير الذي تصطف فيه المراكب والزوارق والسفن الصغيرة بشكل منظم ومرتّب، يمكن الزائر الاستمتاع بنزهة بحرية بواسطة أحد المراكب أو التنزه على الرصيف الطويل الذي يوصلك إلى مساحات أرحب تجعلك في وضع تماهِ تام مع مشهد البحر الصافي. وعلى طول الرصيف تستقبلك المطاعم والمقاهي وبائعون جوالون يضفون على رحلة التنزه سبباً آخر للشعور بمتعة السياحة. ولعل مضيق كالانكويس الجبلي الواقع بين مرسيليا وكاسيس هو الأكثر استقطاباً للسياح وهواة الرياضات البحرية والجبلية.

فعلى شواطىء ماسيف دي كالانكس التي تمتد بطول 20 كيلو متراً بمحاذاة سواحل جنوب شرق فرنسا يمكن التسلق إلى أعلى نقطة عند جبل مون بوجية، الذي يبلغ ارتفاعه 563 متراً.

هذه هي مرسيليا التي تبلغ مساحتها نحو 243 كيلومتراً مربعاً، بعدد سكان يصل إلى 851 ألف نسمة، هم جزء من مليون وثمانمئة الف يشكلون تعداد سكان المقاطعة، وتأتي بعد العاصمة باريس من حيث المساحة وعدد السكان. مدينة عريقة جذابة سياحياً، تشتهر الى جانب دورها الملاحي والتجاري بصناعات عديدة منها الصابون المصنوع من زيت الزيتون. لذلك يلحظ السائح إقامة متحف خاص بالصابون قرب المرفأ القديم لجهة الجنوب، هو من ضمن خريطة واسعة لعدد من المتاحف التاريخية التي تزدهر بها مرسيليا.

لا يكتمل المشهد إلا مع مشاهدة القصور والمتاحف والحدائق الغناء ومن هذه المعالم قصر Longcham Palace، الذي تم تشييده للإحتفال بإنشاء قناة تجلب المياه من نهر دورانس إلى مرسيليا في العام 1839. واستغرق بناؤه نحو 30 سنة. يضم القصر متحف الفنون الجميلة ومتحف التاريخ الطبيعي وتحيط به حديقة تضم أشجاراً ونوافير مياه وتماثيل وبعض أنواع الطيور الجميلة. هذه الحديقة اعتبرتها وزارة الثقافة الفرنسية واحدة من أبرز الحدائق في فرنسا.

أما حديقة Magalone، فهي حديقة عامة تحتضن منزلاً ريفياً يعود بناؤه الى القرن السابع. وقد صممت على النمط الكلاسيكي وتضم العديد من الأشجار والنباتات المتنوعة بالإضافة لإثنين من المدرجات مع نوافير تمثل نهر رون سون وتماثيل الفصول الأربعة.

مدينة كوزموبوليتية

وسط رحلة شيقة يتعرف زائر مرسيليا على حضارات عديدة ونماذج متنوعة من العادات والتقاليد التي أتى بها الوافدون من أوروبا الشرقية وتركيا والصين والشرق الأوسط والقارة الإفريقية. هنا مدينة كوزموبوليتية بامتياز، تتوفر فيها كل ما تشتهي النفس من مأكولات ومشروبات، وكل ما يجتذب الذائقة الفنية للمرء الباحث عن معالم ومواقع سياحية ومتاحف ومسارح ودار أوبرا وأماكن ترفيه وتسلية ونوادٍ ثقافية ومسابح ومقاهٍ ومطاعم الخ.

رموز عديدة تحكي تاريخ مرسيليا الغارق في القدم، منها مبنى فورت سانت جون، وكاتدرائية دي لا ميجورن، ومبنى شيلوه، ومتنزه بوريلي التاريخي والمتاحف والمكتبات العامة، اضافة الى موقعها الجغرافي ومناخها المتوسطي المعتدل الدافئ نسبياً مقارنة بدول أوروبا الغربية، ميزات مهمة جعلتها تستحق اسم جوهرة ساحل فرنسا الجنوبي. وليس غريباً عليها أن تصبح عاصمةً للثقافة الأوروبية لعام 2013 . هي مدينة أوروبية بنكهة شرقية عربية جعلتها قطعة من الشرق في الغرب على ضفة المتوسط.

– الجالية الجزائرية من أكبر الجاليات الشرقية في مرسيليا تلتها جالية من سكان جزر القمر

– تشتهر الى جانب دورها الملاحي والتجاري بصناعات عديدة منها الصابون المصنوع من زيت الزيتون

– كاتدرائية العذراء مريم