إحسان

سهير آل ابراهيم

في عام 2002، ذهب الاسكتلندي ماكنز بارو الى جمهورية ملاوي، في جنوب شرق أفريقيا، متطوعاً لتقديم المساعدة الانسانية في بعض اجزاء البلد التي كانت تعاني من المجاعة. التقى هناك بإمراة كانت تحتضر بسبب اصابتها بمرض الأيدز. وجد بارو تلك المرأة مستلقية على الأرض في كوخها الصغير، يحيط بها أطفالها الستة، وكانت في أيامها الاخيرة. أخبرته انها فقدت زوجها بسبب مرض الإيدز ايضاً، وإن كل ما تستطيع تقديمه لصغارها، في ذلك الوقت، هو الدعاء لهم أن يجدوا من يرعاهم ويعتني بهم بعد وفاتها! بدأ يتجاذب أطراف الحديث مع ابنها الأكبر أدوارد. سأله عن أمانيه التي يتوق اليها وعن أكبر أحلامه في الحياة. أجابه أدوارد ببساطة إنه يتمنى أن يجد ما يكفي من الطعام ليأكل حتى يشبع، وإنه يحلم بالذهاب للمدرسة في يوم ما!

أثّرتْ تلك الإجابة في نفس بارو بشكل كبير، ودفعته للتفكير بطريقة لتحقيق تلك الاحلام البسيطة، والتي يُفترض أنها حقوق يجب أن يتمتع بها كل طفل في هذا العالم.

لم يفكر بارو بتحقيق احلام ادوارد فقط، إذ إنه لم يكن الطفل الوحيد الذي يعاني من الحرمان من التعليم والحاجات الإنسانية الأساسية الأخرى.

عندما عاد ماكنز الى مدينته في اسكوتلندا، بدأ بالتخطيط والعمل على مشروع غايته توفير الطعام وفرص التعليم لأكبر عدد ممكن من الأطفال الذين يكابدون الحرمان وشظف العيش. كان له في حديقة منزله سقيفة صغيرة مخصصة لحفظ أدوات الزراعة والعناية بالحديقة، وقد خصص تلك السقيفة البسيطة لتكون نقطة الانطلاق لتحقيق أحلام اولئك الأطفال.

فكر بارو إن مشروع فتح مدرسة في مكان يعاني فيه الناس من الجوع، لن يكون كافياً لدفع الاطفال للذهاب اليها، أو لإقناع الأهالي بإرسال أطفالهم لها؛ فالكثير من الأطفال يقومون بشتى الأعمال من أجل الحصول على شيء من الطعام. فمنهم من يعمل رغم صغر سنه، ومنهم من يشحذ في الشوارع لذلك الغرض. لذلك توصّل الى فكرة توفير وجبة غذائية يتناولها الطفل في المدرسة؛ أي إن الذهاب للمدرسة هو السبيل للحصول على الطعام!

باشر ماكنز بارو بالإعلان عن مشروعه الخيري، وبدأ حملة كبيرة لجمع التبرعات اللازمة لتنفيذ ذلك المشروع، والذي أطلق عليه اسم )وجبات ميري الغذائية(، تيمناً بإسم والدة السيد المسيح عليه السلام.

لم يكن العمل الخيري جديداً على بارو، فقبل عشر سنوات من انبثاق مشروع وجبات ميري، كان قد قام، وبمساعدة أخيه، بحملة لجمع المساعدات الغذائية والطبية للمتضررين في حرب البوسنة. حيث كانت تلك بدايته على طريق العمل الخيري التطوعي وجمع المعونات لسكان المناطق المنكوبة؛ ذلك الطريق الذي أحب السير عليه والذي قرر أن لا يحيد عنه طالما تمتع بالمقدرة على ذلك.

في عام 2002، تمكن ماكنز من تقديم الوجبات الغذائية اليومية لمئتي طفل وطفلة، في مدرسة أسسها مشروعه الخيري. واستمر عدد الأطفال المستفيدين من ذلك المشروع بالتزايد، حتى بلغ أربع مئة ألف طفل وطفلة في عام 2010. وفي ذلك العام، نال بارو جائزة بأعتباره واحداً من أكثر الرجال بطولة في العالم! وتلك جائزة تُمنح سنوياً، من قبل قناة سي ان ان الإعلامية الأميركية، لعشرة أشخاص ممن قدموا ويقدمون للناس خدمات انسانية جليلة.

تصنع تلك الوجبات الغذائية من الحبوب والمحاصيل الزراعية المنتجة محلياً في البلدان المستفيدة من المشروع. مما يعود بالفائدة على الفلاحين وعلى اقتصاد البلد عموما. ففي الوقت الحاضر، تجاوز عدد تلك الوجبات الغذائية اليومية المليون وجبة! اذ بلغ عدد الاطفال المتمتعين بالتعليم والغذاء في هذه السنة )1187104(! إطعام هذا العدد من الأطفال يتطلب أطناناً من المحاصيل الزراعية، وبشكل يومي، مما يشجع الفلاحين على العمل والانتاج. والمشروع يوفر ايضاً فرص عمل للسكان المحليين، ما بين اعداد الطعام والتدريس والقيام ببقية المتطلبات اللازمة لذلك.

يقول السيد بارو انه عندما ابتدأ العمل على تنفيذ مشروعه، لم يكن يتوقع انه سينمو ويكبر بهذا الشكل المذهل! ومع ذلك فهو يرى انه لا يزال في بداية الطريق، وان المشروع الان يطعم ويعلم المليون الاول من ملايين كثيرة من الاطفال المحرومين من الغذاء والتعليم حول العالم. هدف المشروع هو إيصال الفائدة لأكبر عدد ممكن من الاطفال، ويرى بارو إن ذلك هدف قابل للتحقيق، في عالم مليء بالخيرات، والأهم من الخيرات هي القلوب الرحيمة التي تستطيب العطاء وتستمتع بعمل الخير.

اتسع برنامج التعليم والغذاء بشكل كبير عبر السنوات، وتفرعت منه برامج اخرى ابرزها برنامج الحقائب المدرسية. ففي البلاد التي ينعم الناس بها برفاهية الحياة، قد يحصل الطفل على حقيبة مدرسية جديدة لكل عام دراسي جديد. مما شجع على المبادرة ببرنامج الحقائب المدرسية. يعمل المشروع على تشجيع الاطفال، في الدول الغربية التي يعمل بها، على التبرع بحقائبهم القديمة، ان كانت بحالة جيدة، وعلى وضع بعض المستلزمات الضرورية فيها، ان رغبوا بذلك. تلك المستلزمات تشمل الدفاتر والاقلام. كما يوفر البرنامج بعض المستلزمات التي تضاف للحقائب؛ كالأحذية الصيفية الخفيفة، والقمصان.

مع تزايد التبرعات واتساع البرنامج، اصبحت كل حقيبة من الحقائب المدرسية التي يحصل عليها الاطفال الذين يرعاهم المشروع، تتضمن؛ دفتراً، اقلاما للكتابة واقلاما ملونة، ممحاة، مسطرة، مبراة، محفظة أقلام، منشفة صغيرة، فرشاة ومعجونا للأسنان، صابونة، ملعقة، قميص، تنورة او فستان للبنات وسروالا قصير للأولاد، بالاضافة لحذاء صيفي خفيف وكرة صغيرة.

برنامج الحقائب المدرسية متعدد الفوائد؛ فبالإضافة لإشاعة الفرح في نفوس اطفال يعيشون في أفقر مناطق العالم، فالمشروع صديق للبيئة، لانه يشجع على اعادة استخدام مواد لا تزال صالحة لذلك، بدلاً من اتلافها، وذلك يقلل من كميات النفايات الناتجة من استبدال المواد المستخدمة بمواد جديدة. ولكن الأهم من ذلك هو تشجيع اطفال الدول المرفهة على التفكير بأطفال آخرين يعانون الحرمان وشظف العيش، والعمل على مساعدتهم، لترسيخ مفاهيم التعاون والرحمة والعطاء في اذهانهم ونفوسهم. وتوجد في بريطانيا مسابقة تقام سنوياً، ترعاها احدى القنوات التلفزيونية، لاختيار الطفل الاكثر رحمة واحساناً!

و رغم نمو ذلك المشروع الخيري واتساعه، حيث يعمل في اثني عشر بلداً، تتوزع في اربع قارات، الا ان المكتب الرئيسي له لا يزال تلك السقيفة الصغيرة في حديقة ماكنز بارو!

عالمنا اليوم يفتقر الى الرحمة والانسانية، اذ لا يزال هناك الكثير ممن يعانون الفقر والجوع والمرض، رغم الثراء الفاحش الذي يتمتع به البعض. ويجب الإشارة هنا الى بعض الإحصائيات والأرقام التي يذكرها المشروع، فكلفة اطعام الطفل الواحد حالياً، لسنة دراسية كاملة هي 12.20 جنيهاً استرلينياً، اي انها لا تتجاوز العشرين دولاراً اميركياً؛ مبلغ قد يعتبر بسيطاً او تافهاً بالنسبة للكثيرين!