قراءة في مجموعة أقاصيص «العابرون» للدّكتورة ناتالي الخوري غريب

بيروت ـ ليندا نصّار

 صدر عن دار الإبداع 2016 كتاب جديد بعنوان »العابرون« للدّكتورة ناتالي الخوري غريب الأستاذة المتفرّغة في الجامعة اللّبنانيّة. وهو عبارة عن مجموعة قصصيّة، تحمل كلّ منها بعدا يرتبط بمعاني العبور الّذي لا يحدوه سجن الزّمن.

 بدءا من العنوان، نستطيع القبض على الموضوع الّذي يشكّل نقطة التقاء هذه القصص والأحداث في هذا الكتاب. »العابرون« ليس عنوانا عاديّا لما فيه من أبعاد ورموز، اتّخذت معانيها من العهود القديمة والكتب الدّينيّة. فهنا العبور كما النّبيّ موسى للبحر الأحمر، وعبور السّيّد المسيح نهر الأردن، والعبور في سفر يشوع لدخول أورشليم السّماويّة. إذا يتّخذ العنوان معنى شاملا، وهو عبور الرّوح من الجسد الأرضيّ لتستقرّ في سمائها. وعندما يتمّ هذا الاكتمال، ستعكس الأرض صورة السّماء بعد أن تتطهّر من الشّوائب… ويبدو هذا الأمر جليّا في كتابات الدّكتورة الّتي صرفت جلّ اهتمامها في الأبحاث والدّراسات الصّوفيّة والوجوديّة.

 في تجربتها الإبداعيّة، وفّقت ناتالي الخوري غريب، في اختيار شخصيّاتها، وبث الحياة في المجموعة. وهذه الشّخصيّات غير المستقرّة في حالاتها، جعلت من المجموعة القصصية بابا مفتوحا على الوجود.

د. ناتالي الخوري غريب: الدنيا وهم
د. ناتالي الخوري غريب: الدنيا وهم

 ترمي الكاتبة من خلال هذه الأقاصيص إلى إلقاء الضّوء على بعض شخصيّات هذا المجتمع، وهذه الأخيرة تتبادل الأدوار لتعبّر عن وجهة نظرها، من دون تدخّلها مباشرة في سير مجرى الأحداث، وقد تمّ ذلك من خلال إتقان لعبة السّرد وتضمينه الحواريّة العالية. كما يتّضح لنا في مجموعة »العابرون« التكامل بين اللّغة والمضمون إذ تكتب الدكتورة بلغة شعريّة ذات تقنيّات فنّيّة تدلّ على جماليّتها. يتضمن الكتاب خمس قصص وهي: الغريبان، جبل الأماني، كتاب النّاسك، قوارب الموت، عودة الابنة الضّالّة.

 تستهلّ الكاتبة مجموعتها القصصيّة بقصّة »الغريبان« الّتي تحمل الكثير من الفلسفة والحكمة فتقول:«لا تبحثي عن السّرّ في الصّندوق ولا خلف الجبال وفي الوديان أو حتّى في السّماء السّابعة، هو كامن في الغيب الملعون، فلكلّ سرّ في كشفه ميقات، يضيء على ما كان ويكون. لكنّها ما اقتنعت، فتحت الصّندوق، فوجدت أوراقا بيضا وعود كبريت«. يتجلّى في هذا المقطع فضول اكتشاف الغيب والمجازفة والمخاطرة، بل إنّه التّأرجح بين الأبيض والأسود على الرّغم من أنّ المصير محتّم. ويحمل الكبريت في هذه القصّة معنى الانتظار قرب الصّفحات البيضاء ليتّخذ دورا جديدا، فهل سيزيد من بياض الصّفحات وطهارتها أم سيحرقها إلى الأبد؟ قصّة »الغريبان« تحمل معاني التّرحال وغربة الإنسان عمّن هو الأقرب إلى قلبه، إنّها قصّة عبور الحدود وتكسير الحواجز الّتي ابتدعها الإنسان لنفسه…

 تضيف الدّكتور ناتالي إلى هذه الأقاصيص الكثير من الحكمة والفلسفة الّتي جمعتها لسنوات، وهي الّتي تخطّ حروفها على إيقاعات جبرانيّة، وتحوي معجم الطّبيعة وروحانيّتها، إنّه الإحساس بالفطرة الّتي تقود نحو النّقاء. وللموسيقى دور كبير في القصّة، إذ تعيدنا إلى قصيدة جبران المغنّاة »أعطني النّاي وغنّ« إنّها تحرّك أسرار الوجود لاكتشافها. يحدث كلّ هذا في اللّيل الّذي يحمل معاني ذات وجهين: اللّيل: الشّعور بالأمان واللّيل: الشّعور بالخوف.

 تتحدّث قصّة »الغريبان« عن الحدود والحواجز فتبثّ تساؤلاتها من خلال شخصيّات روايتها فتقول:«لمَ الحدود والحواجز؟ أترانا نحن نخلقها أو هي تخلقنا؟ أوليست السّماء الّتي تجمعنا واحدة؟ والأرض، أليست انعكاس السّماء؟« ويمثّل السّياج في هذه القصّة، الحدود والحواجز الّتي صنعها الإنسان لنفسه في هذا المجتمع، والّتي أصبحت أساسا له.

 يبدو جليّا التّأثّر بالأديان في كتابات ناتالي الخوري غريب، خصوصا الدّيانة المسيحيّة والدّيانة اليهوديّة ومثال ذلك:«وفي الجيب منّ وسلوى ليكتمل سفر الخروج« / »وكان اليوم السّابع، موعد الرّحيل..«. في اليوم السّابع ألغي السّياج وصارت السّماء الواحدة تعكس الأرض الواحدة غير المنقسمة على ذاتها«… إنّه الاكتمال الّذي لا يتحقّق إلّا عندما تتّحد الأرض بالسّماء، فتصبح صورة عنها، وفي اليوم السابع استراح الله بعد اكتمال عملية الخلق. من هنا تتضح لنا علاقة الإنسان باللّه.

 وتكتب ناتالي في مكان آخر من القصّة أيضا فتقول:« نحن العابرون عارفون أنّ الدّنيا وهم، وأنّا ظلال وأنّ في الاستقرار موتاً معجلاً، وفي التّرحال كلّ الحياة، وأنّا لا نمتلك إلّا لحظات نحن أسيادها وفي الغرق كلّ الحرّيّة الّتي تختزنها الرّوح«. وكأنّها تدعونا من خلال هذه القصّة إلى التّرحال والتّخلّي عن الأرضيّات، وإلى تصويب أنظارنا نحو الأبعد نحو الحرّيّة الّتي تبغيها روح كلّ إنسان.

 وفي مكان آخر تقول الكاتبة: »الزّمن سيّد الانتظار«..«.يختبئ الزّمن في هندسة الدّوائر«. وهي هنا تدعونا إلى إتقان الخواتيم، وترك الأحكام للزّمن الّذي سيظهر الحقائق، ويعطي صاحب الحقّ حقّه.

 من خلال هذا المنجز الإبداعيّ تتبدّى لنا الرّؤى العميقة والجموح نحو الخلود، فصاحبة الفكر الوجوديّ والّتي تؤمن بأنّ الحياة لعبة العبث، جعلت من روايتها صديقة للعابرين، وجسّدت فيها المعاني والقيم الإنسانيّة والمثل العليا.

 مع ناتالي نستطيع أن نصل في نهاية القصّص إلى أنّ المحبّة ابنة السّماء الّتي ستنعكس على الأرض، والعبور هو عبور الجسد المحدود نحو الرّوحانيّات الّتي تحمل الحرّيّة المطلقة، إنّه عبور السّياج الأرضيّ.

 وتختم بالأوراق البيضاء، الّتي بدأت بها قصّتها، فنستنج أنّها ستبقى جديدة ولن يشعلها عود الكبريت.

غلاف العابرون
غلاف العابرون