عامٌ مضى

سهير آل ابراهيم

ها قد طويت صفحة أخرى من صفحات كتاب الحياة، لتبدأ صفحة جديدة مع اطلالة عام جديد. وكما تتغير الفصول، كذلك تتغير مواسم العمر. عامٌ يمضي، لكنه يترك قبل رحيله بصماتٍ على قلوبنا وارواحنا، وربما تكون تلك البصماتُ جليَّة على ملامح بعضنا! وكذلك يترك لنا الذكرى ويتركنا معها، نلهو بها وتلهو بنا، سواء في اشراقها وبهجتها، او في أساها وعتمتها..

رحيل عام وقدوم آخر غالباً ما يكون وقفة تأمّلٍ للكثيرين منا. محطةٌ نعود منها بذاكرتنا الى ما مضى من أحداث، وننظر منها للعام الجديد، فنعد له عدة الامال والاحلام، لنملأ بها خزائن امانينا، والتي غالباً ما تكون مترعة بأحلام تنتظر أن تمد جذورها في ارض الواقع. أحلامٌ تُحصي أعمارها كما نحن نُحصيها، وتخشى ونخشى أن يتعبها الانتظار وتشيخ، فترحل لتجد لها مرفأ وملاذاً بين طيات النسيان.

بعض الأماني والطموحات، وربما الاحلام، تبدو جلية للعين في بداية كل عام جديد؛ فالأندية الرياضية مثلاً، تشهد إقبالاً كبيراً من أناس عقدوا العزم على الاهتمام بصحتهم ولياقتهم البدنية. ونلاحظ بعض التغييرات على الكثيرين ممن يحيطون بنا من أهل واصدقاء وزملاء. تغييرات تنبع من الاماني المُرصدة للعام الجديد. ولكن في الكثير من الاحيان، نجد أن تلك التغيرات قصيرة العمر، فما تلبث دوامة الحياة أن تعود لتسارعها الحثيث، فتسحق في دورانها الكثير من الاحلام والاماني.

تتوالى الأعوام، عامٌ يُخلي مكانه لعامٍ جديد، وهكذا دواليك الى أجل غير مسمى، الا إن رصيدنا ونصيبنا من تلك الأعوام محدود وله أجله. تشكل لحظة الولادة الاولى بداية العد العكسي باتجاه النهاية. لحظة دخولنا لهذا العالم تسجل بداية عَدْونا الحثيث نحو لحظة خروجنا منه. وما العمر ما بين المحطتين الا لحظات، وما اثمنها من لحظات! كل لحظة منها فريدة من نوعها؛ اذا ما مضت لا يمكن استرجاعها او تعويضها اطلاقا. والمؤسف اننا احياناً لا ندرك قيمتها الا بعد ان تتسرب غالبيتها من بين ايدينا وتتلاشى، نمضي الكثير من تلك اللحظات نطارد ما نظنه حقائق، لنكتشف عند نهاية الطريق ان تلك الحقائق لم تكن الا سراباً! نستدير وننظر الى الخلف، نتأمل المسار الذي عدونا عليه، فيرعبنا طوله، ويحبطنا يقين عدم إمكانية العودة للسير عليه نحو بداية جديدة. اي عبث هذا الذي نٌلقى فيه! نأتي لهذا الوجود بغير اختيار، ونغادره بغير اختيار، وما بين القدوم والرحيل نُلقى عنوةً في دوامة اختيارات، غالباً ما تتلاعب بها الاقدار.

كنت في طريق عودتي من العمل، عندما كانت ذُبالة العام موشكة على الانطفاء، وكان الطريق مزدحماً جداً؛ يعج بمركبات تحمل ارواحاً واجساداً أنهكها تعب يوم آخر. يوم كانوا هم فتيلهُ وجذوة الحياة فيه. وكان الازدحام حينها اكثر من المعتاد، بسبب بعض أعمال إصلاح الطرق. أخذني الانتظار الطويل الى التفكير بحجم ما ننفق من أعمارنا في امور غير مجدية. امور لا تشكل سوى مسارات في طرق دائرية؛ لا بداية لها ولا نهاية!

هل نستطيع قياس حجم الحياة الفعلي في أيامنا؟! وكيف يمكننا أن نبث الحياة في تلك الأيام ولحظاتها الخاطفة؟

نختار سبلنا في هذه الحياة، او نظن اننا نختارها، فأحياناً لا ادري من منا يختار الآخر! نسعى في تلك السبل التي تحمل المستقبل وتلوّح به الينا؛ ذلك المستقبل الذي غالباً ما يبدو مشرقاً حينما ننظر اليه من بعيد حاضرنا. وعندما تتقاطع طرقنا معه، قد نكتشف زيف ذلك الإشراق والضياء. ثم يرحل تاركنا وراءه، ويأخذ معه جزءاً من ذاكرتنا؛ ذلك الجزء الذي احتضن عتمته. فإذا نظرنا خلفنا، وجدنا فيه ما يدعونا للحلم بعودته من جديد…

أدركُ الآن، بعد أن أنفقتُ قدراً كبيراً من أعوامي، إنّ العمر يجب أن يُحسبَ بالأيام واللحظات، فالحياة قصيرة مهما طالت. وحسابها بالأعوام يجعلها تبدو أقصر، كما يجعلها تتسرب من بين أيدينا بسرعة أكبر! لماذا نُعِدُّ الأماني لعامٍ قادمٍ، ونحن لا نعلم كم من الأعوام بقيت لدينا! كل يوم جديد لنا في هذه الحياة، يستحق ان نحتفي به، فلا نجعله يمضي لشأنه، بدون أن نعيشه ونزين لحظاته بالسعي في ما يمنحنا الرضا وصفاء النفس وراحة البال.

أحياناً افكر ان قوانين الفيزياء لا تنطبق على أيامنا واحساسنا بها! فالوعاء المملوء أثقل من الوعاء الفارغ. لكن أثقل الأيام، برأيي، هي تلك التي تخلو من المعنى والحياة. فَتَمُرُّ بطيئة، ونشعر أن ارواحنا تئنُّ تحت ثقلها. رحم الله أبا تمام إذ قال:

أعوامُ وصـلٍ كـادَ يُـنسي طولَها ذكرُ النوى، فكأنها أيامُ

ثـمَّ انـبـرت أيـام هـجـرٍ أردفــت بجوىً أسىً، فكأنها أعوامُ

ثمَّ انقضتْ تلك السنونُ واهلُها فكأنّها وكأنّهم أحلامُ…

لنملأ ايامنا ولحظاتنا معنىً وحياة، ولكي نحقق ذلك نحتاج ان نكون صادقين مع انفسنا؛ ما هي الحياة بالنسبة لنا؟ ما الذي يمنحنا مشاعر السعادة الحقيقية والرضا؟ قد لا يستطيع بعضنا الاجابة على هذه الأسئلة. فبريق العالم الخارجي اليوم يزيل احيانا الحد الفاصل بين الحقيقة والوهم. عالمنا اليوم؛ المترع بالماديات حتى الثمالة، اصبح يُزيّن الوهم للبعض، ويشوّش مفهوم السعادة لديهم. نجد البعض في تعب وشقاء دائم، رغم النجاح الظاهري الذي يبدو عليهم، فهم في سعي محموم لاقتناص سعادة يعتقدون انها تكمن في المزيد من المكاسب المادية!

لم أعد استغرب عندما أشعر بتصحر نفوس البعض ممن كرسوا أيامهم وأعمارهم لنيل مباهج مؤقتة. فمهما كبر حجم المكاسب المادية، تظل بهجتها قصيرة العمر، لان الانسان بطبعه ملول سريع الاعتياد.

طوبى لمن أدرك المعنى الحقيقي للحياة، وعرف سبيل الوصول اليه.

طوبى لمن حصد سعادته من خلال زرعها في نفوس حزينة. وهنيئاً لكل من أيقن ان أيامه أثمن من أن يمضيها مسكوناً بمشاعر الكره والضغينة. بورك كل من كان نبراساً للخير والمحبة والسلام. بوركتم وبوركت أيامكم وأعوامكم…