الإستشراف الآوروبي للمستقبل

أ. د.مازن الرمضاني*

تفيد الشواهد التاريخية أن هذا الإستشراف بدأ أولآ في فرنسا ثمّ إنتقل الى بقية دول غرب وشرق أوروبا في أوقات متباينة. في ادناه سنتناول الإستشراف الفرنسي للمستقبل، وبعد ذلك سنتناول تطوره في مجموعة دول غرب أوروبا، ومن ثم في مجموعة دول شرق أوروبا.

maxresdefault (1)
أ. د.مازن الرمضاني

 المدرسة الفرنسية لإستشراف المستقبل

لا يخلو التاريخ الفرنسي من مفكرين عمدوا، في الزمان السابق على القرن العشرين، إلى إستشراف المستقبل. وتكفي الإشارة، مثلآ، إلى المفكر الفرنسي، توكفيل وكتابه الديمقراطية في أمريكا والصادر في عام 1835. فهذا الكتاب تضمن رؤية مستقبلية للدور العالمي لكلّ من الولايات المتحدة الآمريكية وروسيا القيصرية أكدت »…أن كلآ منهما قد خط القدر لها أن تسيطر على مصائر نفس العالم«. وقد عبرواقع عالم الحرب الباردة، بعد عام 1947، بين هاتين الدولتين عن صواب هذه الرؤية.

إن توافر عدد من المفكرين الفرنسيين القدامى على رؤى مستقبلية لا يلغي أن التطبيق الفرنسي للتفكير العلمي في المستقبل يعد، هو الآخر وكسواه الآمريكي، حديث النشأة التاريخية. بيد أنّ هذا التماثل لا يلغي أنّ منطلقات كلا الإستشرافين الآمريكي والفرنسي للمستقبل كانت مختلفة. فبينما جعل الآول، في بداية إنطلاقته من ضمان الآمن القومي الآمريكي غايته الإساس كانت إهتمامات الإستشراف الفرنسي إنسانية- مجتمعية- تنموية وإرتبطت بالتخطيط وكذلك بتأثير الفلسفة الوجودية.

فأما عن التخطيط، فقد أريد به إعادة بناء وإعمار فرنسا لمرحلة ما بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وقد أنيطت مسؤولية إنجازه بمفوضية تخطيط الدولة التي قامت عام 1962 بتشكيل مجموعة التفكير لعام 1985 برئاسة بيير ماسي Pierre Masse .وقد تحددت غاية هذه اللجنة في دراسة الحقائق الآساسية التي تساعد على معرفة ما يكون مفيدا لإعادة بناء فرنسا في عام 1985. ويؤكد، هوغ دو جوفنيل، أن الدولة الفرنسية »…كان لها دور فاعل جدا…وتطور فيها بقوة التفكير طويل الآمد…«.

وأما عن تاثير االفلسفة الوجودية لسارتر فقد أدى إلى أن تتميز أهتمامات الإستشراف الفرنسي بطابع إنساني- مجتمعى. فهذه الفلسفة أكدت أن الإنسان حر، وليس ثمة أحد، أو شىء، يستطيع فرض إرادته عليه، وأنه هو الذي يخترع مستقبله ويتحمل المسؤولية الكاملة عنه. وهي فضلآ عن ذلك قالت برؤية عن الماضي والمستقبل كانت، في اربعينيات القرن الماضي، جديدة حقا. فالماضي عندها » منته ميت مغلق ابداً وغير هام… )أما المستقبل فهو( حر وبكر وغير مكتوب وغير محسوم وغير مقرر وغير موجود«.

ولإصالتها يؤكد إدوارد كورنيش أنّ دعوة الفلسفة الوجودية إلى إختراع المستقبل عدت »…تحولا هاما في وجهة النظرة الغربية عن المستقبل )سيما وأن( معظم الفكر الغربي )كان يرى أن المستقبل( ينشأ في الماضي )ويكون( إلى حد كبير محكوما به«، وهو فضلآ عن ذلك أكد:  »أن الإستجابة الواسعة اللاحقة لفكرة إختراع المستقبل أفضت إلى أن تضحى مفردة أساسية في قاموس اللغة الخاصة التي يستخدمها المستقبليون«.

إن تأثر الإستشراف الفرنسي للمستقبل بفكرة إختراع المستقبل لم يتحول عمليا إلى جهد منهجي منظم إلا منذ نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي. ويكاد الرأي يتفق على أهمية الجهد الذي بذله كّل من المستقبليين الفرنسيين غاستون برجيه )Gaston Berger(، وبرتران دي جوفينيل )Bertrand de Jouvenell(، وميشال غوديه )Michael Godet( في تأسيس ركائز المدرسة الفرنسية لإستشراف المستقبل والتي تطورت جراء دور سواهم.

 وفي أدناه سيتم تناول رؤية كّل من هولاء الرواد بالتتابع.

في عام 1957 عمد، غاستون برجيه، إلى تاسيس المركز الدولي للمستقبل المنظور فضلآ عن إصداره في عام 1958 دورية تحمل إسم هذا المركزLa Prospective. ونرى أن أقتران هذا المركزودوريته بذات التسمية إنما إريد بها أن تكون تعبيراعن مضمون رؤيته للمستقبل وتسويقا للمفهوم الذي يعبر عنها.

فأما عن الرؤية، فهي تؤكد أن»… الزمن إذا أخٌذ ككّل، ليس نوعا من المادة السائلة المستمرة التي تتقدم في إنسياق متناسق وعلى إمتدادها تنتظم الآحداث. فالماضي والمستقبل متغيران بالنسبة للإنسان، وهما ليسا لحظتين في السلسلة نفسها، وليس لهما معنى مادي حقيقي أو معنى إنساني إلا حين نبين صلتهما بأعمالنا. فالماضي هو ما تم فعله والمستقبل هو ما سيُفعل، والإلتفات نحو المستقبل بدل النظر إلى الماضي ليس ببساطة هو تغيير المشهد بل الإنتقال من المشاهدة إلى الإعداد للفعل«.

وأما عن المفهوم، أي المستقبل المنظور، فهو يختزل مضمون هذه الرؤية في ركيزتين أساسيتين: فأما عن الآولى، فهي تؤكد على إنفتاح المستقبل على العديد من المشاهد المحتملة ومن ثمّ ترفض فكرة أن المستقبل محدد سلفا. وأما عن الثانية، فهي تفيد أن الخيارات التي يتبناها الإنسان والآفعال التي يقوم بها في الحاضر هي التي تصنع المستقبل، وليس مثلآ الإتجاهات الخيطية لكيفية التطور التاريخي للواقع.

ويفيد حاضر جل دراسات المستقبلات أن تاثرها بركائز مفهوم المستقبل المنظور كان عميقا. ففي فرنسا يجد إستجابة واسعة ليس فقط على صعيد دراسات المستقبلات الفرنسية، وإنما أيضا على صعيد التخطيط الحكومي. كما أنه يجد إنتشاراً في دول عالم الشمال وكذلك خصوصا في دول عالم الجنوب، ولاسيما تلك التي إستمرت نخبها تدعو إلى العمل من أجل تحقيق التغيير في واقعها المتأخر أو المتخلف، كدول أمريكية لاتينية، ودول أفريقية سواء ناطقة باللغة الانكليزية أو باللغة الفرنسية هذا فضلا عن تبني مستقبليين عرب لمفهوم المستقبل المنظور.

وترى، ماسيني،أن الإنتشار العالمي لهذا المفهوم إنما يٌرد إلى أهميته النابعة من تاكيده على دور »… الإرادة والإختيار والتغيير في صناعة المستقبل«.

ونتفق مع رؤية ماسيني هذه. فالإرادة، أي إرادة الإنسان الواعي والحر، هي التي تدفعه إلى الآخذ برؤية محددة للعلاقة بين أبعاد الزمان لا تجعل من تجربة الماضي ومعطيات الحاضر عبئا على صناعة المستقبل، وإنما تدفع بهذا الإنسان إلى إختيار أحد المشاهد المتاحة في الحاضر بين مجموعة منها، ولاسيما ذاك الذي يؤمن الإرتقاء بالحاضر إلى المستوى الذي يمهد للتغيير ومن ثم للمستقبل المنشود والآفضل.

وبالإضافة إلى غوستاف برجيه، يعد برتران دي جوفينيل من بين ابرز رواد الإستشراف الفرنسي شهرة وتأثيرا جراء دوره في نشر التفكير العلمي في المستقبل داخل فرنسا، وتعميم رؤية الإستشراف الفرنسي للمستقبل خارجها.

إن الدور الذي أداه جوفينيل إقترن بدور المؤسسة التي قام بتأسيسها في عام 1967 وأطلق عليها إبتداء »تسمية مستقبلات )Futuribles(، والتي صارت منذ عام 1973 تسمى رابطة دراسات مستقبل العالم )Association Internationale Futuribles(. وقد كان هو أول رئيس لها. وقد جعلت هذه الرابطة، التي تعد المنافس لجمعية مستقبل العالم الآمريكية، من تأمين التواصل بين المستقبليين الفرنسيين وسواهم أحد أبرز وظائفها هذا فضلآ عن الإستمرار في إصدار مجلة مستقبلات.

لقد تأسست هذه الرابطة على مفهوم مستقبلات )Futuribles( الذي ابتكره جوفينيل، وقال أنه » الآحداث والآوضاع التي قد ينتهي اليها الوضع الراهن منطقيا… وأن المستقبل له صفة الجمع حيث إن إحتمالاته متعددة )وأنه يمكن من خلال التدخل الآنساني( تغييره قبل حدوثه«.

ويؤكد، هوغ دو جوفنيل، الذي أصبح رئيسا لهذه الرابطة في عام 2013، أن برتران دو جوفنيل حرص على جعل هذه الرابطة أحد:  »…المراكز البحثية للفكر والرأي والخبرة…الدولية الآساسية… لمصلحة القرار والفعل..». إن الشهرة التي إكتسبها جوفينيل لا تنبع من دور رابطة دراسات مستقبل العالم فحسب، وإنما أيضا من مؤلفه: فن الرجم بالغيب، الصادر في باريس عام 1963 والذي تكاد الآراء تجمع على أنه يعد من المؤلفات الرائدة التي تناولت بعمق دراسات المستقبلات ومقارباتها المنهجية. ففي مؤلفه هذا يقول إن إستشراف المستقبل: »… يتطلب معرفة الإتجاهات السائدة ومدى سرعتها، وأثرالعلاقة بين الظواهر… والظواهر الفرعية )الجزئية( في بلورة إتجاه قد يعاكس ذلك الذي تفيد به ظاهرة )أو ظواهر( أساسية،)وهو فضلآعن ذلك دعا إلى(، عدم التركيز على حقائق الماضي والحاضر فحسب وإنما ايضا على النوايا الإنسانية، مهما كانت طبيعتها والآفعال الناجمة عنها«.

ويرى، إدوارد كورنيش، أن جوفينيل لم يفهم دراسات المستقبلات كعلم وإنما كفن ويستشهد على ذلك بعنوان كتابه.ونرى أن جوفينيل جمع في كتابه بين الموضوعية والإستهدافية، أي بين العلم والفن في أن واحد.

وأما عن ميشال غودي )Michel Godet(، فهو الآخر يعد من بين أشهر رواد المدرسة الفرنسية في الإستشراف المستقبلي، علما أن شهرته لا تنبع من دوره في تعزيز مفاهيم ومقاربات وأدوات هذه المدرسة في المؤسسات التي عمل فيها داخل فرنسا وكذلك خارجها فحسب، وإنما تنبع أيضا من مؤلفه الموسوم: الإاستشراف الإستراتيجي للمؤسسات والآقاليم.

ففي هذا المؤلف يطرح، ميشال غوديه، مجموعة افكار رائدة يتماهى بعضها مع سواه من المستقبليين الفرنسيين،ويتميز بعضها الآخر عن سواه منهم .

فمثلآ يذهب متماثلآ مع سواه إلى رفض مقاربة التنبوء لإستشراف المستقبل. لذا يقول: » إن كل شكل من أشكال التنبوء هو بهتان. فالمستقبل ليس مكتوبا، ولكن علينا إنجازه. والمستقبل متعدد وغير محدد وهومفتوح على تنوع كبير من المستقبلات الممكنة..«.

ومن هنا راح، مثل سواه من المستقبليين الفرنسيين، إلى تبني مقاربة الإستشراف. ولآنه ادرك أن الإستشراف يفضي إلى تحرير »…الإنسان من القدرية ويحث على الفعل..«. رأى أنه »…يمثل إستباقا يستعد للفعل، ويستحدت الفعل وينير العمل الحاضر على ضوء المستقبلات الممكنة والمأمولة. )وإننا عندما( نتهيأ للتغيرات المتوقعة )فأن ذلك( لا يمنع من أن نعمل على إحداث التغييرات المأمولة. كما أن الإستعداد للتغيرات المتوقعة لا يمنع من الفعل لإحداث التغير المرغوب ذلك أن الاستباق لا يمكن أن يتحول إلى فعل إلا عند تبنيه من قبل الفاعليين المعنيين«.

وإنطلاقا من أن تبني الإستباق من قبل أحد الفاعلين هو الذي يفضي إلى أن يتحول إلى فعل، أكد، ميشال غودي أن بين مفهومي الإستشراف والإستراتيجية تقوم علاقة وطيدة. ولا يلغي هذه العلاقة أن كلاً من هذين المفهومين ينطلق من سؤال خاص به ويعني بالإجابة عنه. » فبينما يتساءل الإستشراف عن:  ماذا يمكن أن يحدث؟، وبالتالي يرتبط بفترة الإستباق، أي إستشراف التغيرات الممكنة والمأمولة تتساءل الإستراتيجية عن: ماذا يمكن أن أفعل؟ وبالتالي ترتبط بفترة إعداد العمل أي بلورة وتقييم الخيارات الإٍستراتيجية الممكنة من اجل الإستعداد للتغيرات المرتقبة وإحداث التغيرات المرغوب منها«.

لذا يرى غوديه ضرورة التفرقة بين الإستشراف بمعنى »…الإستباق إي إستشراف التبدلات الممكنة والمرغوب منها )والإستراتيجية أي(…إعداد وتقييم الخيارات الإستراتيجية الممكنة للإستعداد للتبدلات المنتظرة وإثارة التبدلات المرغوب منها«.

بيد أن التباين بين هذين المفهومين يتقلص ويتراجع على نحو ملموس عندما يضحى المشهد الناجم عن حصيلة عملية الإستشراف بمثابة الركيزة التي تستهدي بها الإستراتيجية وهي تسعى إلى نقل المشهد من إطاره النظري إلى إطاره العملي ويكون حقيقة موضوعية.

وقياسا على علاقة الترابط بين المفهومين على الرغم من إختلاف سؤال كّل منهما إبتكر ميشال غوديه مفهوم الإستشراف الإستراتيجي Strategic Foresight، الذي يجد منذ عقد الثمانينيات من القرن الماضي إنتشارا واسعا ولاسيما بين المستقبليين الذين ينصرفون إلى إستشراف مستقبلات المؤسسات والآقاليم. ويرد هذا الإنتشار على وفق غوديه إلى أنه»… يُمكن قادة المؤسسات والقائمين على الآقاليم من إمتلاك المفاهيم والمناهج القادرة على إنارة حاضرهم على ضوء المستقبلات الممكنة«.

ولتأثير رواد المدرسة الفرنسية في الإستشراف، ومن بينهم بيرجي وجوفينيل وغوديه مثلا، إستمر الإستشراف الفرنسي للمستقبل متاثرا، في العموم، بسمات إصالة النشأة، والخصوصية بمعنى النزوع نحو التميز عن الإستشراف الإمريكي للمستقبل.

ويتناول المستقبلي الإسباني )Jordi Serra Delpino( هذه الخصائص من جانبين مهمين:

 فأما عن الجانب الآول، فمفاده إقتران الإستشراف الفرتسي للمستقبل ومنذ بدايته بفكرة التكامل المنهجي، ومن ثم إدراكه أن الإستشراف هو عملية تتطلب توظيف العديد من المقاربات المنهجية سبيلآ لتحقيق الغاية المنشودة. وبهذا يتميز عن سواه، ولاسيما الذي لا يزال ينطلق من إستقلالية هذه المناهج بعضها عن الآخر، ومن ثم ينصرف إلى إستشراف مشاهد المستقبل على وفق مقاربات محددة وبمعزل عن سواها.

وأما عن الجانب الثاني، فهو يعبر عن إرتباط الإستشراف الفرنسي بمقاربتين أساسيتين: الآولى هي مقاربة التحليل الهيكلي )Structual Analysis( التي تنصرف إلى تحليل العلاقات المباشرة وغير المباشرة التي تربط بين مجموعة متغيرات ذات مضامين متنوعة سبيلآ لآستكشاف تاثير دورها في بناء المستقبل.

وأما عن المقاربة الثانية، فهي تلك التي تم تصميمها لدعم المقاربة الآولى أعلاه، هي مقاربة استراتيجية الفواعل والغايات وموازين القوى )والتي تسمى ماكتور MACTOR(. وبموجبها يصار إلى تحليل اهداف وإستراتيجيات كافة اللاعبين ذوي العلاقة بموضوع الإستشراف، وتقويم مدى قدرة كل منهم على تحقيق اهدافه إنطلاقا من حصيلة تفاعل نوعية تأثيره وتأثير سواه، خصوصا عندما يتعلق الآمر بالمواقف المقررة تجاه بعضهم البعض من حيث القدرة على الالغاء أو على رهن وجود الآخر بالنسبة لغاية محددة.

 ————————–

* أستاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات