رحل كابوتشي يحمل احزانه.. ويترك لنا عطر ذكراه

أمين الغفاري

رحل هيلاريون كابوتشي مطران كنيسة الروم الكاثوليك في القدس، هكذا كان موقعه ودوره الديني الذي نعرفه به، ولكنه على نحو آخركان جزءا من حركة المقاومة الوطنية والعربية، وكان دورا مؤثرا في حركة التحرير والمقاومة ولم يتخل عن هذا الدور بل التزم به ذ دون تردد ذ رغم كل ما يحمله من مخاطر، ودفع الثمن من اجله راضيا وفخورا. ان ملابسه تكشف عن موقعه ودوره الديني، ولكن سلوكه ونهجه وتصرفه يكشف عن ضميره ويقظته وكذلك عن انتمائه الوطني والقومي ونضارته.هكذا كان الرجل يحمل رسالة من السماء تقطر عفة وطهرا تهديه وترشده ويعمل لها ويبشر بها عدلا وكرامة وتسامحا، ويلتزم برسالة ثانية تتسق مع الأولى ولاتتناقض معها، وتفرض عليه أيضا التزاماتها وهي قضية التحرير واسترداد الأرض وتوفير عناصر الكرامة والكبرياء لساكنيها من ابنائها وأهلها وذويها ضد المغتصبين المحتلين ومدى ضرواتهم. كان الرجل على النحوين صادقا الى حد الشهادة، مخلصا الى ما فوق الوفاء، وهكذا سارت به نبضات قلب يفيض حبا لما يحمله من رسائل ومهام، ويحمل على اكتافه احكام قدره والى اين يسوقه فذلك لا يعنيه ولايخشاه، ما دام الأيمان يضئ عقله ويظلل كل وجدانه بعدالة السماء وتحرير الأرض.

المطران كابوتشي كان مخلصا الى حد الشهادة صادقا الى ما فوق الوفاء
المطران كابوتشي كان مخلصا الى حد الشهادة صادقا الى ما فوق الوفاء

كابوتشي ابن حلب وحركة المقاومة في فلسطين

ولد المطران كابوتشي في مدينة حلب السورية في 2 مارس عام 1922، وآه من حلب، ولهفي على حلب في نضالها المتواصل، وهي قطعة ارض من سوريا الحبيبة ، انها مدينة الأبطال التي سبق وان أهدتنا بطلا آخر في قرون مضت وهو سليمان الحلبي حين قدم الى مصر عام 1800 لكي يدرس في الأزهر الشريف، ولكن هاله ما يقوم به المستعمر الفرنسي في مصر الذي جاء غازيا عام 1798، وشاهد بعينيه عمليات المقاومة التي يقوم بها الشعب المصري وثورتي القاهرة الأولى والثانية وقيادة علماء الأزهرالشيخ الشرقاوي والشيخ السادات، وبلغ الأستفزاز ذروته حين دخل الجنود الفرنسيون الى صحن الأزهر بأحصنتهم، فازدادت الثورة اشتعالا، وعزم سليمان الحلبي على المشاركة في المقاومة والأنتقام من قائد الحملة الذي خلف نابليون وهو الجنرال كليبر ومن ثم فقد ارداه قتيلا بسكين حادة، وتمت محاكمته واعدامه بطريقة تتنافى مع اي حضارة او معتقد.عادت حلب لكي تهدي فلسطين والأمة العربية بطلا جديدا هو المطران كابوتشي الذي تصدى ايضا للأحتلال الصهيوني في فلسطين، وانتهج السرية في دعم عمليات المقاومة ضد الأحتلال، فتم اعتقاله في اغسطس عام 1974 حين عثر معه على اسلحة للمقاومة يقوم بتهريبها. أي شرف يمكن ان يتحاكى به الأنسان وهو يمثل ركيزة من ركائز النضال ضد المحتلين الغاصبين. قيد الرجل مرفوع الرأس الى مخفر او الى معسكر او الى وكر، فلا تهم المسميات فكلها موصومة باغتصاب كرامة البشر بعد اغتصابها ارضهم. تم الحكم عليه بالسجن امام محكمة عسكرية بالسجن لمدة 12 عاما، ويتدخل بعدها الفاتيكان بعد اربع سنوات من التنفيذ لكي يتم الأفراج عنه، ولكن مع ابعاده من فلسطين في عام 1978، لكي يقضي بقية عمره بعيدا عن مدينة القدس وكنيستها التي شهدت صلواته وابتهالاته وخلواته عبر عقود من السنين.أمضى حياته في روما، مع تنقلاته المستمرة الى بلدان كانت تتوق الى احتضانه، وتتملى عيون شعوبها بقسمات وجهه التي لا تعرف سوى البسمة املا، والرجاء حلما.

كابوتشي في لندن

التقيناه هنا في لندن بدعوة من )النادي العربي( في امسية تلاقت فيها القلوب قبل العيون، وهي تستمع لضمير يتكلم قبل ان يكون لسانا ينطق، وكان تأثيره بالغا على كل الحضور.لقد احتفت به كل الجاليات العربية والأسلامية وايضا قطاع من الشعب البريطاني الذين يعرفون معنى الدفاع عن شرف الأنسان الذي يختلط بشرف الأرض وبنسمة الهواء العابرة في سماء الوطن. تنقل رسول الحب والسلام وتلاقي القلوب بين اكثر من مكان ليصافح بعينيه الوجوه التي تبتسم لوجوده وتهلل للقياه، تكلم وحاضر عن قضيته، وهي قضية كل العرب )فلسطين( وما تصادفه من عثرات.أفاض رجل الدين وبطل المقاومة في التعبير عن شجنه وآلامه وهو بعيد عن الأرض التي وهبها عمره وهي )القدس( وهنا يتهدج صوته وتتغمغم الكلمات على لسانه لكي ترتوي بعدها ارض )دارالكوفة( في لندن ببعض دموعه. انه الحزن النبيل الذي يكسو محياه.كان يتذكر في احاديثه تلك المدينة الآسرة القدس ببريقها الذي يملأ ثنايا وجدانه. نعم فهي ليست ككل المدائن، هي القدس مدينة لأسمها رنين خاص في الأذن ووقع يعتصره الحنين في القلب، وحسابات هائلة تدور في العقل. القدس ليست ككل مدينة ففي ربوعها أماكن تحيط بها القداسة والجلال، ويرتبط بها تاريخ ومعارك وتضحيات. هي مدينة يتوفر لها عطر المكان وعبق التاريخ وقبس من السماء يظلل الأرض والأنسان، ولذلك فهي مدينة تأخذ في الوجدان كل المشاعر الفياضة والأحاسيس النبيلة.

كابوتشي ومحاذيره

هو رجل الدين الذي يعرف الحلال والحرام، ويعلو بالهامة المرفوعة، ويزهو بكل المعاني التي تعلي الحق وتقيم العدل. هو رجل الفضيلة وراعيها وخادمها لذلك اقبل على الفداء ولم يحجم مخافة البطش اوالأعتقال مهما كانت مرارته أوغياهب السجن مهما كان ظلامه. ان المحاذير هي التغاضي عن الظلم خصوصا وان كان واضحا وضوح الشمس في كبد السماء، فماذا بعد اغتصاب ألأرض والوطن وطرد الأهل وتشريد الأطفال حيث الفيافي هي المرعى والخيام هي المأوى. المحاذير هي نفاق السلطة أو السير تحت عباءتها. ان الفضيلة دائما هي كلمة حق عند السلطان الجائر، والرذيلة هي الهروب من الواجب حين يكون محتما ولازما وضروريا، وهكذا تقدم كابوتشي حين ناداه الواجب، وأملى عليه التصرف، وكان الرجل عند حسن الظن قيمة وقامة، سيرة وتاريخا.

ورحل كابوتشي

فارقنا كابوتشي ورحل جسدا فانيا، ولكنه بقي وسيعيش روحا ترفرف على معالم القدس وعلى بيوتها، فلقد ذاب حبا بقدر ما امتلأ وجدا بنسائمها وأريجها وبمبانيها وهياكلها، وبشوارعها وأزقاتها، وسوف تظل القدس على العهد معه تذكره، وحين تقرع أجراس كنائسها فسوف تحمل رناتها الأمتنان لأسمه، لأسم من عشقها وحمل السلاح من اجل من يعمل على تحريرها. كانت القدس وسوف تظل حلما عربيا سيتحقق حين تقرع اجراس النصر تعلن تحرير فلسطين.

كابوتشي رحلت عنا ولكنك جزء من كفاحنا وعلامة في نضالنا ولذلك فسوف تظل ذكراك حية نموذجا ومثالا ودرسا لكل الأجيال في معنى الواجب والوطن والألتزام الصادق. انني لا أرثيك ولكنني ابكيك

تحت الصورة

ـــــــــــــــــ

المطران كابوتشي

كان مخلصا الى حد الشهادة صادقا الى ما فوق الوفاء