بغداد وإنقرة..علاقات قلقة في محيط مضطرب

د. ماجد السامرائي

لا يمكن النظر إلى الانفراج الأخير في العلاقات التركية العراقية من زاوية ديبلوماسية تقليدية مباشرة لأي بلدين جارين تحصل بينهما خلافات حدودية وقد تصل إلى مستوى الحرب مثلما حصل بين العراق وإيران في حرب الثماني سنوات، ذلك إن معطيات مهمة تحدث اليوم وغدا على ايقاع الحرب العالمية على داعش، يتوقع لها أن تفرز حقائق جديدة مهمة لصالح قوى النفوذ الكبرى ) روسيا وامريكا( والصغرى في الإقليم )تركيا وايران(. فالحرب المشتعلة في كل من العراق وسوريا هي نتيجة صراع جيوسياسي غذته وقائع مهمة حصلت، أهمها وأخطرها سقوط العراق تحت الاحتلال العسكري الأمريكي لثماني سنوات 2003 ذ 2011 ثم خضوعه لمافيات الفساد السياسي والحكم الطائفي الذي مزق النسيج الاجتماعي لمكونات عاشت قروناً بصفاء وتفاعل عميق. وكذلك استجلاب قوى الإرهاب والتطرف المحمية من قوى محلية سياسية واقتصادية واجتماعية منذ »القاعدة« وحتى »داعش« وما يمكن أن يولد من عنوان جديد بعده.ولهذا فلا بد أن ينظر للعلاقات العراقية التركية وفق معايير قوى التحكم المحلية والخارجية. وأن تتم الإطلالة على خارطة تلك العلاقة وفق حركة تلك المؤثرات. ولا بد أن لا يتم التوصيف للمواقف من زوايا آديولوجية مغلقة، وإنما بما تتركه من آثار مباشرة وغير مباشرة لمصالح الدولتين المؤثرتين على العراق )إيران وتركيا(. على مدى السنوات الماضية استطاعت إيران أن تبني معمار نفوذها في العراق بطريقة تبدو غير سهلة الفهم على الآخرين في أوربا وأمريكا ذلك إن طهران استخدمت بقدرات متعددة وكبيرة النعرات الطائفية والمذهبية لإذكاء عناصر الاختلاف والصراع بين أبناء الشعب العراقي الواحد وخصوصاً بين الطائفتين الرئيسيتين المهمتين المتآخيتين ) الشيعة والسنة ( وتمكنت السياسات الغريبة على العراقيين توفير مناخات تراجع الحس الوطني والولاء للعراق الواحد والانكماش نحو العشيرة والطائفة كملاذ وحيد في ظل هذه الفوضى »الخلاقة« مستغلة هيمنة الأحزاب الطائفية على الحكم لترسيخ هيمنتها على العراق والانطلاق نحو المنطقة، ساعية إلى ترصين تمددها على خارطة واسعة ممتدة من بوابة الخليج وحتى البحر المتوسط. أما تركيا فرغم انها ذات تاريخ امبراطوري عثماني طوي ومهم في العراق، لكنها استسلمت لمشيئة التحالف الأوربي ومعاهدة )سايكس بيكو ( ثم هزيمتها على يد التحالف البريطاني الأوربي في نهاية الحرب الأولى 1918 فتراجعت نحو حواضرها الوطنية بعد تنفيذ مناهج الأطر الفكرية والسياسية » العلمانية » التي حددها ) أتاتورك( في الدستور التركي. ولم تؤشر الوقائع السياسية على أطماع تركية في العراق مثلما حصل لإيران، رغم شعورها بالغصة لضياع الموصل منها. إلا أنها تتحرك بهاجس أمني أتعبها خلال السنوات الثلاثين الماضية، وهو النشاطات القتالية المخيفة لحزب العمال التركي ) BKK ( والذي شكل فيما بعد ورقة ضغط على الأمن الداخلي التركي. وفي الوقت الذي كان جيشا العراق وإيران يشتبكان بحرب ضروس، كان نظام صدام يعقد الاتفاقيات الأمنية مع تركيا مكنتها من التغلغل بحدود عشرين إلى ثلاثين كيلومتراً داخل الأراضي العراقية لمطاردة حزب العمال التركي. ولم تلغ تلك الاتفاقيات بزوال نظام صدام بل تم تعزيزها في السنوات الأخيرة وبعد احتلال داعش لثلث أرض العراق بقيام معسكر تدريبي للمقاتلين العراقيين في منطقة )بعشيقة( العراقية، والذي أصبح في الأشهر الأخيرة عنواناً لتصعيد الخلافات التركية العراقية، ووصولها درجة الملاسنات بين رئيس وزراء العراق )حيدر العبادي( والرئيس التركي )أردوغان(، وقد غذت طهران تصعيد الأزمة الثنائية بين بغداد وإنقرة لغايات إضعاف الوضع التركي، وإبعادها عن التأثير الفاعل في الملفين السوري والعراقي. أما تركيا فلا ترى إن أسباب الخلاف مع بغداد تتعلق بهذا المعسكرالصغير، وإنما في اعتراضاتها الحادة على سياسة الحكومة العراقية الموجهة نحو )العرب السنة والتركمان( في العراق، وكذلك على سماح حكومة بغداد لقوات )BKK( بالتمركز في منطقة سنجار المحاذية للحدود التركية والقلق من بناء بؤر استيطانية على الحدود العراقية السورية التركية وتهديدها لمحيط الأمن التركي. وتصعيد المليشيات العراقية لنشاطاتها العسكرية للسيطرة على مدينة )تلعفر( والعمل على إجراء تغيير ديموغرافي على حساب التركمان في هذه المدينة المهمة، وترى تركيا أيضاً بأن هذا الترتيب هو تنفيذ لمشروع إيراني لبناء الخط الاستراتيجي العريض الممتد من إيران مروراً ببيجي وتلعفر ثم الرقة نحو السواحل اللبنانية وبما يمكن إيران بإحكام )هلالها( الاستراتيجي القابض على المنطقة لفرض هيمنتها. وأمام هذا المناخ التعبوي الشعبوي الحاد ضد تركيا داخل العراق تعزز الانقسام داخل الأوساط العراقية بين داعم للسياسة التركية من قبل أهل السنة من العرب الباحثين عن ظهير لهم بعد تخلي العرب عنهم، والتركمان ذوي الولاء لأمهم تركيا، وبين حاقد على تركيا )السنية( لتختفي الحقيقة التاريخية وسط هذه الأجواء من أن تركيا لا تفكر سوى بترصين محيط أمنها القومي. جميع المعطيات الاقتصادية والاجتماعية في كل من العراق وتركيا تقول بتمتع تلك العلاقات بمرتكزات هائلة ليس من الحكمة تهديمها، فالميزان التجاري ما بين بغداد وانقرة )11 مليار دولار( وما بين إقليم كردستان وإنقرة )9 مليار دولار( وهناك مئات الشركات التركية تعمل من شمال العراق حتى جنوبه. ولعبت واشنطن دوراً كبيراً في إثارة المتاعب أمام تركيا في عدم السماح لها بموقع مؤثر في الحرب على داعش داخل الأراضي السورية، حيث دعمت واشنطن قوات« الحماية الكردية الديمقراطية » المرفوضة من قبل تركيا، فيما تواصل القوات التركية دعم المعارضة السورية المسلحة خصوصاً )الجيش الحر( وحققت نجاحات عسكرية متواصة في معركة )الباب( لإبعاد ما تسميه تركيا بقوى »الارهاب التركي والداعشي« في الوقت إنكسرت شوكة قوى المعارضة السورية المسلحة المدعومة من دول الخليج العربي وتركيا، كما رفضت واشنطن إقامة » المنطقة الآمنة« على الحدود السورية التركية. ولم تستبعد تركيا تغاضي واشنطن عن النشاط التآمري للمعارض التركي )فتح الله غولن( وقيامه بالمحاولة الانقلابية الكبيرة الفاشلة في الربع الأخير من العام الماضي، حيث كشفت الوقائع مدى الاختراق والتغلغل الهائل لجماعاته داخل الجيش التركي والمؤسسات السياسية والتعليمية والثقافية والاعلامية.

اردوغان... ملاسنات مع العبادي
اردوغان… ملاسنات مع العبادي

التطور المهم الذي ترك آثاره على الملفين السوري والعراقي هو الاستدارة الديبلوماسية التركية السريعة نحو موسكو بعد خيبتها من سياسة أوباما الذي دعم طهران ونفوذها على حساب تركيا.فقد تمت تسوية الخلافات مع موسكو، بل انتقلت العلاقة إلى تحالف استراتيجي ولوجستي على سير الحرب في سوريا رغم تقاطع أنقرة مع نظام بشار الأسد ولكنها تراجعت كثيراً عن شعاراتها في إسقاط النظام لتفتح أبواب العلاقات المتدرجة الطبيعية معه. لقد مدت إنقرة يدها لفلاديمير بوتين ودخلا معاً ملعب الحل العسكري والسياسي للأزمة السورية عبر وقف اطلاق النار في حلب والدعوة إلى اجتماع )استانة( بعد التداعيات الانسانية المريرة لهذه الأزمة في اقتلاع غالبية الشعب السوري من أرضه، روسيا لديها رؤيتها في الحل السوري لا يتوافق مع ما تشتغل عليه إيران عبر ميليشياتها في سوريا ولبنان والعراق لبناء منطقة طائفية »شيعية« متماسكة، وتحاول موسكو تصحيح الانطباع العام في المنطقة حول دمويتها وقتلها للشعب السوري، وما يقال عنها بأنها تدعم سياسة التوسع الطائفي الايراني في المنطقة. فأثبتت ميدانياً بأنها ضد المليشيات الموالية لإيران في سوريا، بل وضعت فقرة في اتفاق حلب تدعو إلى رحيل ميليشيا حزب الله اللبناني وغيرها من المليشيات من الأراضي السورية في أية خطوة سياسية للحل. كما إنها تسعى إلى إنشاء فيلق جديد داخل الجيش السوري بديل للمليشيات. روسيا تجد نفسها فاعلة في سوريا كبديل لأمريكا، وسهل ذلك على تركيا التحرك في ممرات جيوسياسية معقدة. الشراكة التركية الروسية في القضية السورية لا تعجب إيران رغم إنها هي التي استنجدت بموسكو في العام الماضي لانقاذها وانقاذ نظام بشار من السقوط. ولهذا فهي تسعى إلى تخريب أي عمل جدي للحل السوري دون ضمان هيمنتها، من خلال تحريك أذرعها في العراق وقت ما تشاء لمنع وصول العلاقات التركية العراقية إلى مستوى متقدم. اما سماحها للسلطات العراقية أخيراً للتخفيف من تلك الأزمة فهي محاولة ذكية من طهران تعتقد إنه من خلالها تستطيع تحقيق عزل تركيا عن محيط الخليج العربي وخاصة السعودية. ولهذا وجدنا بسرعة تراجع لغة الخطاب الاعلامي لحكومة بغداد وصمتت القوى الشعبية عن التصعيد باتجاه المرونة، وقيام رئيس الوزراء حيدر العبادي يخطوات انفراجية مثل قراره دمج )حرس نينوى( بقيادة أثيل النجيفي الذي دربته القوات التركية في » بعشيقة » بالحشد الشعبي، كما صرح بأن حكومته لا تقبل أن تستعمل الأراضي العراقية للعدوان على تركيا، وقد سبقه رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني بانذاره مقاتلي حزب العمال الكردي بمغادرة مدينة سنجار.والاعلان عن إتفاق بين )العبادي ويلدرم( خلال زيارته لبغداد على انسحاب القوات التركية من »بعشيقة« مقابل التعهد بطرد مقاتلي )BKK ( من سنجار والمناطق الحدودية. واعلان رئيس الوزراء التركي حرص بلاده على وحدة وسيادة العراق. لا شك ان هذا التطور السياسي سيبعد الضغط قليلا عن تركيا، لكي تعيد أنفاسها امام الضغوطات الأمنية التي يمثلها تزايد عمليات داعش وحزب العمال الكردي، فيما مازالت تبعات الانقلاب الفاشل تترك آثارها على الوضع العام في البلاد. من جهة العراق، فإنه ليس من مصلحة شعبه معاداة هذا الجار المهم في وقت تفتح الأبواب على مصراعيها امام النفوذ الشامل لإيران.

التحولات الجيوسياسية التي تشهدها منطقة سوريا والعراق بعد اندحار عصابات داعش من أرض العراق، تفرض نفسها على ضرورة حصول انفراج بين الدول المطلة على كل من العراق وسوريا، رغم إن المحيط مضطرب في المنطقة، ولا تعرف بعد سياسة الرئيس الأمريكي الجديد )ترامب( تجاهها. الأحكام المؤثرة في المرحلة المقبلة هي التي ستلعب دورها حيث سيكون لكل طرف وزنه الفاعل في حل أزمة الموصل وما بعدها نهاية داعش في سوريا، ومن ثم يتحقق السيناريو الذي يكشف خارطة مصالح النفوذ في هذه المنطقة الحيوية من العالم.