واحد واحد…اول الرصاصات وأول الارهاصات

معن بشور

في 1/1/1965 انطلقت الرصاصات الأولى لتعلن على يد ثوار (العاصفة -فتح) ميلاد الثورة الفلسطينية المعاصرة والمستمرة رغم كل ما واجهته وتواجهه من ظروف معروفة، وصعوبات بالغة وضغوطات مرعبة،وحصارات متنوعة،  ومنعرجات خطرة، ومنزلقات مهددة للثوابت الوطنية الفلسطينية والقومية العربية.

في 1/1/1975شهدت بلدة الطيبة الحدودية في جنوب لبنان ملحمة بطولية بين قوات صهيونية حاولت التوغل في البلدة الحدودية المجاهدة، وبين أبناء تلك البلدة الذين ألحقوا بالقوة المهاجمة خسائر  كبيرة، فيما استشهد من المدافعين المناضل البعثي السيد علي شرف الدين وولداه الشهيدان البطلان السيدان عبد الله وفلاح ومعهم المناضل الشيوعي محمود قعيق في معركة اعتبرها اللبنانيون  انها تشكل مع ملاحم سبقتها ،في شبعا ومزرعة حلتا في كفر شوبا وبنت جبيل وكفركلا، ارهاصات المقاومة  اللبنانية  التي حررت الأرض وردعت العدوان واعتبروا شهداءها مع رفاقهم الشهداء امين سعد (الاخضر العربي)والراعي حسين علي قاسم صالح  وواصف شرارة والقائد الهمام المميز عبد الامير حلاوة)ابو علي( رواد المقاومة في لبنان..

واذا كانت رصاصات الثورة الفلسطينية ما زالت تدوي سكاكين، ودهسا، وصيحات حرية  في السجون والمعتقلات ،ومرابطة في الأقصى ،وانفاقا في غزة ،لتصل إلى أحرار العالم كلهم، وتعيد  الحق الفلسطيني  الى الخارطة الدولية،فان ارهاصات المقاومة تتحول اليوم مع رجال المقاومة الى رقم صعب في معادلة الوطن والأمة والإقليم  وحتى العالم،بل ترسم مع الشعب والجيش في لبنان تلك الثلاثية الذهبية، التي كلما التف اللبنانيون  حولها كلما ازدادت قوة وازداد معها لبنان منعة.

ولعل اجمل ما في هذا التزامن (واحد واحد)بين الرصاصات الاولى للمقاومة الفلسطينية  الأولى  وبين الارهاصات الأولى للمقاومة  اللبنانية هو تلك ألوحدة النضالية آلتي جمعت الشعبين وما زالت ،رغم كل شيء،على مدى عقود  طويلة فخرجت المقاومة اللبنانية من رحم الثورة الفلسطينية تماما كما خرجت الانتفاضات الفلسطينية المتتالية من رحم انتصارات المقاومة اللبنانية ،كما قال لي القائد الشهيد احد مؤسسي فتح ومهندس انتفاضة الحجارة ابو جهاد  )خليل الوزير(قبل استشهاده  في 16 /4/1988:لقد استلهمنا دروس المقاومة بالزيت المغلي والحجارةمن اهلنا في جنوب لبنان في مواجهتهم للاحتلال ،تماما كما تعلم ابرز المقاومين اللبنانيين الكثير من فنون القتال من إخوانهم المقاومين الفلسطينيين.

الرحمة لشهداء المقاومة العربية على امتداد الوطن الكبير، الشفاء للجرحى الابطال، والحرية للأسرى في سجون الاحتلال ، والكشف  عن مصير المفقودين ومقابر الارقام.

)21:45، 1/1/2017( رحل مطران القدس في المنفى المناضل العربي الكبير الفدائي الفلسطيني السوري اللبناني ايلاريون كبوجي الذي ولد في حلب وسجن في فلسطين وتوفي في الفاتيكان  منفيا لمدة أربعين عاما تقريبا وبقي مسكونا بحلم العودة الى فلسطين فركب البحر  لكسر الحصار على غزة مرتين أولهما في سفينة الأخوة اللبنانية من مرفأ طرابلس)في شباط/فبراير 2009( والثانية في سفينة مرمرة في أسطول الحرية من اسطمبول )ايار/مايو2010(.

كماكان مسكونا  بالقلق على أمته العربية وهي تتمزق وتحترق لا سيما في سوريا التي لم تفارق باله ساعة ومسقط رأسه حلب المجيدة وقد اغتصبتها قوى الغلو والتطرف والوحش.

ستفتقد الامة فارسا من فرسانها الكبار وستفتقد الكنيسة المسيحية العربية احد أعظم احبارها الذي فهم المسيحية عطاء وتفانيا في سبيل الحق

بومدين بعيون مشرقية

      كانت هزيمة حزيران تهز وجداننا كشباب عربي في الجامعات اللبنانية، وكنا نبحث عن شعاع أمل يضيء ليلنا الحالك يومذاك….  وكالعادة جاء هذا الشعاع من الجزائر عبر كلمات القاها »العقيد« هواري بومدين رئيس المجلس الوطني لقيادة الثورة تحمل في طياتها نبرة الثوار، وصدق المؤمنين، وعزيمة المقاتلين.

      يومها قال بومدين )رحمه الله(: » الجزائر لا تقبل الهزيمة؟ هل الأمة العربية استعملت كل الطاقات البشرية الهائلة؟ هل الأمة العربية استعملت كل الطاقات المادية الهائلة؟ هل الأمة العربية استعملت كل الأسلحة حتى تقول بأنها خسرت المعركة؟ لا لم نخسر الحرب لأننا لم نستعمل كل الوسائل لدينا؟ لم نخسر الحرب لأننا لم نستعمل كل الأسلحة«

      لم يكتف بومدين بالكلمات فقط، كعادة الكثير من السياسيين والحكام في بلادنا، بل ترجمها فعلاً بزيارة عاجلة إلى موسكو دعا فيها إلى تزويد مصر وسوريا )الخارجتين آنذاك، من أوجاع الهزيمة وقسوة الانكسار( بكل ما تحتاجانه من سلاح مقدماً للقيادة السوفياتية »شيكاً مفتوحاً« لتغطية كل تكاليف هذا التسليح والتجهيز…

      فرحنا كثيراً بتلك الكلمات، أولاً لأنها جاءت في وقتها وفي عز حاجة الأمة إليها، وثانياً لأنها أكدت إن روح ثورة الجزائر المنتصرة قبل 5 سنوات ما زالت حية متوثبة تدرك إن مهماتها على المستوى العربي لا تقل عن مهماتها في الداخل…

      لقد كنا في الوطن العربي أمام ثورات تنتصر على الأعداء لكنها سرعان ما تبهت صورتها، وتتراخى عزيمتها، وتنسى منطلقاتها، بل وأحياناً تتحول إلى ثورات مضادة لأهدافها الأساسية، لكننا مع الرئيس بومدين كنا نشعر اننا أمام ثورة لا تشيخ، ووهجها لا يخبو، ودورها لا يخيب…

      وبدأت أبصارنا  بالشخوص إلى التجربة الجزائرية، بعد أن كاد اليأس يتسرب إلى نظرتنا إليها في ظل ما شهدته من خلافات وصراعات داخلية بعد الاستقلال، نتابع مبادرات قيادتها وعلى رأسها الزعيم هواري بومدين )رحمه الله( ورفيقه آنذاك ووزير خارجيته الرئيس السيد عبد العزيز بوتفليقة )حفظه الله( على كل صعيد…

      كانت الثورة الفلسطينية بكل فصائلها تجد في الحضن الجزائري الدافئ خير سند لها في الملمات، حتى إن الرئيس الشهيد أبو عمار كان يقول لي ولإخواني أبان الحصار في بيروت، »إذا أقفلت الدنيا أبوابها في وجوهنا فليس لنا من ملاذ سوى الجزائر« وانه حين يريد ان يرتاح من الضغوط الهائلة لا يجد سوى الجزائر ارضا ترتاح اليها نفسه«.

      وكانت الحركة الوطنية اللبنانية، وزعيمها الراحل كمال جنبلاط، وإمامها المجاهد السيد موسى الصدر ورئيس وزرائها الشهيد رشيد كرامي يتطلعون دوماً إلى الرئيس بومدين لمساعدتهم في كل الملمات والصعوبات التي كان يمر بها لبنان سواء في زمن الاحتراب الداخلي الأليم أو في زمن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، فلا يغيب مبعوث للرئيس بومدين إلا ليحضر مبعوث آخر، ولا تخطر ببال اللبنانيين شكوى أو مطلب إلا ويجدون أنفسهم متجهين إلى الجزائر ليجدوا الأذن الصاغية عند الرئيس بومدين وقد فتح لهم القلب والصدر والعقل….

      والسوريون لا ينسون وقفة الجزائر بقيادة هواري بومدين إلى جانبهم في كل ظرف صعب مروا به، لا سيما في الحروب التي خاضوها ضد العدو الصهيوني، سواء في عام 1967 أو في عام 1973، حيث وضع بومدين وقيادته طائرات الجزائر الحربية وطياريها في خدمة الجيشين المصري والسوري بعد هزيمة 1967.

      بل لا ينسى أبناء الأمة كلها كيف قال بومدين للرئيس جمال عبد الناصر يوم دمر العدوان الصهيوني معظم طائرات مصر الحربية :« لدينا طيارات وليس لدينا العدد الكافي من الطيارين، إرسلوا الطيارين من عندكم وخذوا الطائرات من عندنا«.

      أما العراقيون فلا ينسون دور الرئيس هواري بومدين والرئيس بوتفليقة في تمهيد الأجواء لاتفاق الجزائر بين العراق وإيران في مارس 1975، والذي أنهى صراعاً سلبياً كان له الآثار الضارة على البلدين معاً، بما فيها إنهاء التمرد المسلح في شمال العراق… وهو دور استكملته الجزائر بعد رحيل بومدين في السعي لوقف الحرب العراقية ذ الإيرانية )1980 -1988( التي قدمت فيها الجزائر وزير خارجيتها محمد خميستي وإخوانه شهداء في حادث طائرة كانت تنتقل بين بغداد وطهران لوقف الحرب بين البلدين الجارين اللذين دفعا ومعهما الأمة كلها ثمناً باهظاً لها.

      لا ينسى الوطنيون العرب أيضاً كيف استضافت الجزائر بقيادة بومدين أعداداً من المناضلين الذين أجبرتهم الظروف السياسية على مغادرة أوطانهم، فكانت الجزائر حضناً لهم دون مراعاة اعتبارات كثيراً ما يراعيها الحاكمون في قراراتهم .

      كما لا ينسى التقدميون العرب كيف استضافت الجزائر في عهد بومدين ندوة للاشتراكيين العرب في ستينات القرن الفائت حيث كانت مناقشات صريحة وجريئة أثارت بشكل مبكر إشكاليات التحوّل الاشتراكي في العديد من دول المنطقة، ولعل ما يرويه الدكتور خير الدين حسيب الأمين العام المؤسس للمؤتمر القومي العربي،رئيس مركز دراسات الوحدة العربية، عن تفاصيل تلك الندوة التي يحتاج موضوعها إلى ندوة خاصة يمكن من خلالها معالجة حال الانحسار التي تعيشها الأحزاب الاشتراكية في بلادنا….

      الأمة العربية كلها لا تنسى أيضاً وقفة الجزائر بقيادة بومدين في وجه معاهدة كمب ديفيد بين الحكومة المصرية والكيان الصهيوني، وكيف لعبت الجزائر دوراً في تشكيل »جبهة الصمود والتصدي« مع سوريا والعراق وليبيا واليمن، تلك الجبهة التي قيل إن بومدين قضى مسموماً بسبب دور الجزائر في قيامها، كما رأى فيها الكثير من المراقبين إنها سبب الانقضاض الاستعماري ذ الصهيوني ذ الرجعي على دول تلك الجبهة وما شهدته من احتراب وفتن واعتداءات خارجية بدأت ضد الجزائر  في العشرية الدامية، وامتدت لتشمل العراق في احتلاله، وسوريا في الحرب الكونية التي تواجهها، وليبيا في التشظي الذي تعيشه ، واليمن في الاحتراب الداخلي والعدوان الخارجي اللذين تواجههما…

      بالتأكيد من حق كل جزائري ان يكون له تقييمه للسياسات الداخلية التي اعتمدها الرئيس بومدين في الجزائر، فيعرض لانجازاتها وسلبياتها، ولكن من واجب كل عربي أيضاً في الذكرى 38 لرحيل القائد الثوري العظيم هواري بومدين ان يضيء على ايجابيات الدور العربي الذي لعبته الجزائر خلال ولاية الرئيس بومدين )1965 ذ 1978(، وهو دور متكامل مع دورها الإسلامي والأفريقي والعالمي… خصوصاً ان السياسة الخارجية للجزائر حتى اليوم ما زالت تعتمد على الثوابت المبدئية التي حكمت سياسات الرئيس بومدين، وهي ثوابت تنطلق من هوية الجزائر العربية الاسلامية الافريقية، كما من مركزية قضية فلسطين التي لخصها بومدين في صرخته المشهورة :« نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة«  كما من الحرص على بناء الجسور بين اقطار الأمة وداخل كل قطر.