واجد أحمد دوماني

رؤوف قبيسي:

رب أخ لك لم تلده أمك. كلام كانت تقوله العرب. نتذكره ساعة نجد من يؤازرنا وقت الشدائد، أو ساعة يفقدنا الموت صديقاً بمنزلة أخ عزيز. أكتب هذه الكلمات على أثر رحيل صديق عزيز غيبه، هو الديبلوماسي والأديب المؤدب واجد أحمد دوماني.

برحيل واجد دوماني يسقط غصن من شجرة الأحبة، وينقص رغيف من معجن البركة. ما كلمات إنشاء عابر هذه التي أقولها في الرجل الذي كان لي صديقاً رغم ما كان بيننا من فارق العمر.  كنت أحب »أبو أحمد« كما كنت أدعوه احتراماً وتحبباً، وكنت أغار عليه. كان واجد دوماني، رجل خبرات وتجارب وثقافة وأدب وأحلام عذاب، وكان فوق ذلك كله،  دمث الخلق عفيف اللسان حسن العشرة. عرفته منذ خمسة وثلاثين عاماً، ولم أسمعه يومأ يتفوه بكلمة نابية، وأعتقد أن الذين عرفوه وجايلوه من أصحاب وخلان، يشاركونني الرأي في هذا الرجل الكريم النفس والسجية والطباع .

واجد أحمد دوماني
واجد أحمد دوماني

يقولون عن الذي يموت إنه انتقل إلى جوار ربه، لكن واجد دوماني كان من الذين سكن »الله« قلوبهم طوال حياتهم على الأرض، أو عاشوا في قلب »الله« كما يقول جبران في كتاب »النبي«. كان عاشقاً للحياة شغوفاً بها. لم يكن متديناً. لم أره يوماً يتعبّد، لكنه كان شديد الإيمان. لم يظهر في حياته كلها عصبية سياسية أو دينية أو مذهبية، وهذا ما جعله موضع احترام الناس وتقديرهم له، على رغم تباين طبقاتهم ومنازلهم. لم أكن يوماً متديناً، وما زلت أبحث عن »الله« في الكتب والأسفار،  لكنني لم أتمالك وانا أقف أمام جثمان الراحل في باحة المسجد في بيروت إلا أن أدعو له بالرحمة وأقول في قلبي: لترحمك العناية يا أبو أحمد،  كنت نزيهاً خلوقاً، وصديقاً وفياً لكل الذين عرفوك، وأحبوك حباً جميلاً صافياً كصفاء الفجر.

كان »أبو أحمد« من عشرائي الدائمين في السنوات الطويلة التي أمضاها في لندن. أذكر فصلين أو ثلاثة من فصول الصيف كنت أراه فيها كل يوم تقريباً. أحببته مثلما أحبه  الكثيرون، وكانوا بالمئات. منهم من عرفه عن قرب، ومنهم الذين قرأوا كلمات كان ينشرها هنا وهناك في غير صحيفة ومجلة. كانت بيني وبينه علاقة روحية عمرتها الأيام، خلال جلسات طويلة في شؤون الناس والدين والعلم والموت والحياة، وما وراء الطبيعة. كان في  حديثه شيء من الرسولية وحكمة البراهمة، وليس من الغرابة في شيء أن يقول عنه شيخنا الراحل الجليل عبد الله العلايلي، وهو يوصي به للعمل في مدارس المقاصد » واجد دوماني أخ فاضل، تقي، حسن الأحدوثة، نافع الأثر«.

وكما أن الشيء بالشيء يذكر كما يقول المثل، كان واجد دوماني وراء التوصية بي للعمل في صحيفة »الحياة« التي انتقلت من بيروت إلى لندن مطلع التسعينات، وذلك بعدما آنس مني رغبة في العودة إلى ميدان الصحافة، فعرفني إلى الصحافي والكاتب عرفان نظام الدين، الذي عرفني بدوره إلى عادل بشتاوي، الذي كان مسؤولا عن القسم الاقتصادي في  »الحياة«. أنا مدين لواجد دوماني في هذه التوصية، ليس لجهة حصولي على وظيفة ودخولي مهنة المتاعب من جديد، وفي صحيفة رصينة مثل »الحياة« فحسب، بل لشيء أهم من ذلك وأبقى أثراً على مر الزمن، هو أن ذلك »الدخول« مهّد فرصة لأتعرف فيها إلى صحافيين وكتاب صاروا بمنزلة أخوة وأصدقاء، من بينهم بالطبع الصديق العزيز عرفان نظام الدين، الذي بقيت أنا وهو نختلف إلى دار الراحل »أبو أحمد«، كلما زرنا بيروت قادمين من لندن.

في السنتين الأخيرتين من عمر واجد دوماني تراجعت صحته فلزم البيت والمقعد. أعترف بأنني كنت أشعر بحزن خافت ساعة كنت أراه في تلك الصورة، وهو الذي بقي يرفضها حتى آخر يوم في حياته. كنت أجد نفسي في بعض الأحايين، وعلى نحو لاإرادي، أقارن بين حاله تلك، وحاله يوم عرفته في لندن؛ رجلاً مبتسماً طروباً، نشيطاً، عاشقاً للحياة، ممتلئاً بالفرح كأجمل ما يكون الفرح، فأدرك على التو كم تخذلنا الحياة في بعض مراحل العمر، وأعود فأتذكر ما قرأت في سيرة عمر بن الخطاب، وبيت شعر لعبدة بن الطبيب، كان الخليفة الثاني يؤثره على غير من أبيات الشعر، ويردده كلما ألمت النوائب »والمرء ساع لأمر ليس يدركه / والعيش شُح وإشفاق وتأميل«.

مارس واجد دوماني الصحافة، وعمل في الإذاعة وكتب في صحف لبنان والخليج، ومارس التعليم في لبنان والبحرين والكويت أعواماً طوالاً، وانتشر تلاميذه في أقطار الخليج كلها، ومنهم من تبوأوا في ما بعد مراكز مهمة في الإدارات العليا، مثل بدر الحميضي الذي كان وزيراً للمالية في الكويت، ثم خلع »ثوب الشقاء« كما كان يسمي مهنة التعليم، ودخل معترك العمل اليبدلوماسي، وشغل لسنوات طويلة منصب الملحق الإعلامي في سفارة الكويت في بيروت، واقام علاقات وصداقات وثيقة مع الصحافيين والشعراء والكتاب والسياسيين، وأصحاب القرار في الكويت، ومع أعيانها وشيوخها، خصوصاً الشيخ صباح الأحمد، الذي كان وزيراُ للإعلام والتربية، ثم أميراً للكويت في ما بعد.

 الكثير من تفصيل حياة واجد دوماني الثرية بالتجارب، مدون في الكتاب الشائق الذي أصدره قبل أربعة أعوام تحت عنوان »وجدانيات«، وهو مذكراته، التي ما كان يريد أن يخطها لولا إلحاح من ابنه الوحيد أحمد، وبناته الثلاث. وليس هذا الكتاب إلا سياحة قصيرة في حياة واجد دوماني، لأن المذكرات، مهما كان شأنها، ومهما كانت هوية كاتبها، ليست إلا نتفاً صغيرة، وجزءاً يسيراً من صورة كبيرة هي الحياة بما تختزنة من تفاصيل ودقائق، وما تاريخ أي إنسان إلا رغوة متطايرة فوق بحر الحياة الانسانية، أما أعماق الإنسان فأبعد وأوسع من أن يتناولها قلم أو يستوعبها بيان، أوهي كما يذكر ميخائيل نعيمة في كتابه »سبعون«، ليست إلا خريطة للدلالة على ارتفاع هذا الجبل وامتداده، أو ذاك النهر واتجاهه، لكنها لن تدل على ما في الجبل من أخاديد ومنحدرات، ومن تراب وصخر، ومعدن ونبات وحيوان، وما في النهر من قطرات، وما في قعره من حشائش وأسماك، وما على جانبيه من رمال وأدغال، وما فوقه من فضاء وسماء.

لا تعرف الصداقة عمراً، ولاتقاس بعدد السنين بأكثر ما تقاس بمدى ما يجمع بين صديقين من قرابة الفكر والروح، وحين أقول في واجد دوماني إنه الصديق، أعني الإنسان الذي كانت بيني وبينه مقاربة وثيقة في الذوق والتفكير في شؤون الموت والحياة، وما وراء الطبيعة، وقد كان واجد دوماني من الناس الذين صرفوا وقتاً كبيراً من حياتهم في التأمل، ومحبة الحكمة، لذلك قلت في بداءة هذا المقال إنه لم يعرف التدين، لكنه كان شديد الإيمان. كان يعتبر رأس الحكمة مخافة »الله«، ومخافة »الله« كانت تعني في نظره كل شيء، بل كانت الإيمان كله. كان يردد تلك الآية القرانية الكريمة : »الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم ألا بذكر الله تطمئن القلوب«، وقد أخبرني غير مرة إن طه حسين كاد يقترب من الإلحاد مرة، لكنه عندما سمع في إحدى المرات تلك الآية اهتز لها فؤاده، وعاد إلى الإيمان.

كان في قلب واجد دوماني شيء من الطفولة، ونادراً ما كان يغضب، لكنه كان سريع الغضب سريع الرضا، وكان غضبه حلواً ورضاه حلواً، وكان شديد الحب لي ويشعرني بأني مثل أخيه. وبقي على رغم مشارف التسعين، قوي الذاكرة، قوي العقل، ثاقب النظر، وأذكر قوله في زيارتي الأخيرة له وهو على مقعد لا يتحرك »لا شيء في  الدنيا أثمن من الإيمان والصحة وراحة البال«.

رحل واجد دوماني وإلى جانبه زوجة كانت تخفف الكثير من محنة تقاعده ومتاعبه النفسية. كان وقوف تلك الزوجة الفاضلة إلى جانب زوجها، وسهرها عليه كل الوقت، أشبه بملحمة من ملاحم الوفاء، وليس ذلك بمستغرب عن سيدة تنتمي في أصولها وثقافتها إلى تقاليد بيروت القديمة الجميلة، زمن العائلات الكريمة في نسبها وآدابها. هنا أجد لزاماُ علي أن أشكر »أم أحمد«، على ما كانت تبديه نحوي من الحفاوة كلما زرت ذلك الصديق العزيز. كانت تعرف أنني أحب ما تصنعه من قطع الحلوى المخبوزة بحرارة قلبها، وكانت أحياناً تصنعها خصيصاً، ساعة كانت تعرف أنني آت لزيارة زوجها، ولا يسعني وأنا أدون هذه الكلمات إلا أن أستفيض بالشكر لهذه المرأة الفاضلة الكريمة وأقول: سلمت يداك يا أم أحمد، وأطالت العناية عمرك، وأبقتك أماً وفية لإبنك وبناتك، وجدة هنية لأحفادك، كما كنت دوماً وفية لذلك الرجل الذي كان زوجك، وعزيزاُ على قلبك، وعلى قلوبنا جميعاً.