لماذا الشعر اليوم؟

نعيم تلحوق

هل يجب أن يكون السؤال لماذا الشعر اليوم، أو يمكن أن يكون هل وُجد الشعر لينقذ العالم؟

سؤال معرفي يتقدم باستمرار على ما عداه، من سائر الأسئلة المطروحة بالعلم، كي يستبصر الانسان معناه كدلالة على انتقال الفكرة من حيّز النظرية إلى حيّز التطبيق..

أوليس الانفجار العظيم دلالة على أن الله أبدع شعراً حين أوجد هذا الكون المليء بجماله وعرفانه وحكمته وقدرته إلى محاكاة ما فوق العقل البسيط المركب إلى الإدهاش..؟

أوليس الشعر دهشةً، فلمعةً تجعل العدم وجوداً وتحيل الشيء إلى أشياء، والفكرة إلى طاقة، والطاقة إلى حرية..؟

نعيم تلحوق
نعيم تلحوق

أليسَ البديع الأول شاعراً في سدرة تكوينه… وهو الذي ليس مثله أحد.. وهو الأشياء في شيء وهو كل شيء في الأشياء..؟

لكأنَّ نصَّاً يعجبك وتركن اليه إبداعاً، وترى في انزياحاته اللغوية قدرة على تعبئة روح المعرفة لديك، لكنه في السياق عينه، حين تدرك أن صاحب هذا النص هو أقل سمعة وأقل نبلاً مما قرأت، ستدرك أنك في حياض النص تلتقي شاعراً أقل مما قرأت، فتخيب مداركك وتتلخبط معارفك، فتدرك في النهاية أنك أمام سقف اللغات العاصية، التي توجد هنات رؤيوية بين النص وصاحبه وأن شيئاً يعتوِر الانسان لكونه أقل قدرة على أن يبحث عمّا يتوقه جمالاً وهو قادر على أن يكذب دقيقة في الساعة، دون أن تكتشف صُحّاً واحداً في شخصه ولغته..

إن كثيرين يفصلون بين صاحب النص والنص كمعطى أخلاقي وهو مدرك عبثي تمّ اشتقاقه من خلال امتصاص الزمن، واللعب على فكرة الخلق كمعطى جميل وأنيق ونبيل… كيف يصحّ أن نقول الأديب فلان: وهو لا يتمتع بشيء واحد من الأدب..؟

الأدب ثلاثة أنواع: أدب أكبر من النص نفسه، وهو ما يشكّل سلطة أو مدرسة أو خيالاً يمتزج صاحبه بمواصفات تحوز على سعة الاطلاع، المعرفة القابضة، السلوك المتسم بالصفاء، بعيداً عن الأنانية والحسد والنميمة والكيد والكراهية، هذه مدرسة أخلاقية تعلم الأدب ذ لأنها الأدب عينه، وهناك أدب يليق بذاته، وبسمعة صاحبه، ويحصل أن تماهياً يقع بين النص وصاحب النص في آن واحد… فيحصل الأدب المتوازن الذي يدلل على جرأة وافية وكافية من الاستدلال على المعنى كما يليق برؤية صاحبه، فأعذب الشعر أصدقه لا أكذبه، وحين يكون الأدب صادقاً كما صاحبه، تتضح لنا رؤية واحدة للنص الانسان بعيداً عن الازدواجية والفصام في الأفكار والسلوك فيكون المعنى أكثر دماثة وأكثر توازناً ودلالة على أن صاحب النص هو نصّه، فحين تقرأ له تقول هذا النص لفلان قبل معرفة الاسم… وهناك نوع ثالث من الأدب وهو الأكثر أو الأكبر من صاحب النص عينه، نحن نطلق عليه لقب »قليل الأدب«… فكيف لقليل الأدب أن يكون أديباً… أولسنا نقع في ماهية التناقض الفعلي الكيفي والكمي على ما عداه من أحداث واحتمالات…

هل ينتبه الأدب للحظته؟ سؤال يبقى طيّ الأجوبة المفتوحة على ما عداها من أسئلة مضافة، لتكسير معنى المبنى مرة بغية ايقاظ مبنى المعنى مرة تلو مرة، هذا المعنى الذي نحاول ملاحقته دون التقاطه، فكيف اذا فاض، فكيف سيكون عليه حال الشعر..؟ ماذا يخدمنا الله في تجلياته، اذا لم ندرك معناه، أوليست »الآلة المنهجية« تفترض منّا، قياساً على رحلة البدء أن نسأل أنفسنا من نحن، ولماذا وكيف، بغية البحث عن »الأين« المعرفية التي تتسقط فرادتنا كي نستشعر الهدف من وجودنا…

هذا »النص الملغز« الذي اسمه الشعر، هو مقدود من اللغة التي هي الحياة، وليست اللغة هي اللسانية التي نحفر أدواتنا المنهجية بها دون أن نطلّ على فسحة المشاكلة التي يخلقها الوعي فينا، أو ما يسمى »أداة الزمن« التي هي »المرقاب« حيناً، والتمعين حيناً آخر، هل تكتمل الصورة بوعينا حتى نرشدها إلى مكان تستقر فيه، أم أن وعياً إضافياً يسلبنا قدرتنا على التمييز فتتأرجح الصورة وتأخذ بنيتها في التشتيت والايحاء فلا تطاوعنا اللسانية والرموز والاشارات في فكّ الغموض الذي يشوب اللغة التي هي الحياة، وهنا مأثرة جديدة تضاف في حسبان اللغة، هي المفردات الخاطئة التي نستعملها في غير مكان للتعبير عن دلالة الشيء ليحصل معناه…

كثيراً ما نستعمل كلمة الالتباس في غير موقعها، الالتباس ليس سوى الفهم، ولا هو الفوضى، لأن سوء الفهم مرتبط بالفهم مباشرة، والفوضى مرتبطة بالنظام مباشرة، وكلاهما نتاج معرفي يضفي حسّ المسؤولية، في الفهم والادراك، أما الالتباس فهو التشويش حيث هو حركة تراها وتراك، لكن رؤيتها لك غير واعية. إذاً رؤية الالتباس لك غير واعية.. تماماً كشاشة التلفاز التي لم يصلها الارسال، ترى مربعات صغيرة تتحرك وهي تراك لكنها لا تدركك وأنت تراها لكنك تدركها بالتأكيد…

ماذا يسع الانجاز العلمي أن يضفي على الشعر، الشعر هو ابن الفكر، والفكر هو ابن الخيال، اذاً، الشعر هو ابن الخيال … الخيال وعي منوط بلا وعي واعٍ… هو وحي لاستهلال المعاني ونقلها إلى فضاء ذهني، يجعل الحركة مُدركاً…

الكلام كثير في حضرة الشعر، لكن يفيدني أن أذكر عبارة لسيدنا الحلاج حين قال: كل قول لا يترك تأثيراً ما لا يدخل حيّز الكلام… وقد فطنت أنا أضيف عليها عبارة: وكل كلام لا يفترق عن معناه لا يصبح شعراً…

يا سادتي…

في آخر زيارة لي إلى الصين، سنحت لي الفرصة أن أكون في مكان يرتجى منه تقمصاً لكل أفكارنا التي نتداولها ونختم عليها القول لنبدأ الكلام في إشارة إلى حقيقة المعنى: مساحة من أجمل ما خلق الإله توازي نصف مساحة لبنان جغرافياً، قد قرر العقل البشري الصيني، أنها مخصصة لاستقبال كائنات فضائية في نهاية العام 2017… حيث المكان مجهز للتعامل مع هذه الكائنات بكل الوسائل المتاحة، كما بعد المفردة، اللغوية، إشارة إلى لحظة ما بعد المعنى، أو ما يمكن أن نسميه »فيض المعنى«..

الشعر ليس للاكتشاف ولا للبحث، الشعر مقاربة حركية لاستشعار الله وجمال فضاءاته…

زُلفى

دلفت زلفى إلى بيت أحلامها,

ينهبها اليراع,

كان القدر بين يديها,

حين,,,,,

 وقع من سمرتها خيال العمر،

عرشان: ماء ونار,

كان شعرها سفير الوعود,

ويداها متشحتان بالهداية,

خلف باب زلفى جند وثوّار,

وأعلام إنتظار….

*****************

خرجت زلفى من بيت النار,

رماها سهم قدري,

أطفأ ظلـّه بين الماء,

ومشى …

راود أن زلفى تمشي بين الأقمار,

وتبسط خِفـّيها فوق سرير الليل,

خلتها تبرق وجهها فضة ماء,

لكن, لكبريت قصائدها لون الأرض,

يحمل ألف سؤال, والليل طوال…

 **********

لم تسأل زلفى عن أسماء الناس,

أو عن رقص الخوف في الإحساس,

أوقدت مشعلها ومضت,

لكن, انتبهت, أن الليل يملكه الحراس,

 وأن النوم للبسطاء…

 فسكنت بيت الليل وصمتت،

 تسمع سعير الروح في الأنفاس،

وحين خرجت عن شفتيها,

دنا على مقلتيها الزبيب,

وحام حول عينيها النعاس…

فغدت تسمع من رئتيها,

صوت الأجراس…

 ***

 كانت زلفى تحصي رغباتها,

وتكرز همّها بالبال الممشوق,

ويداها تصرخان من وجع الحقل

المخمور, المسروق من عفـَّتها…

بيدر يسرح فيه عتُّ ودبابير,

وقمح استولد كراريز الفصول,

وعتـّق شعيره بماء الوحول…

 ****

 كان الماء شركاً, والتبر عجول,

حين دخلت زلفى بيدرها,

لتضع الحقل على سكـّة النهر,

علـّه يأتي الوصول,

فعانقها البعوض وسالمها كلاب القمح,

وراحت تستعين بخاتم التين والزيتون,

لتكسر بردتها,

وتحمي حرمون من دلف المغول,

وحين اختمر العجين لديها,

خذلها النهر,

وغادرتها كل الحقول..

 ***

 سألت زلفى عن أحوال القرى,

فردّ الصدى, قبيل الغياب,

اعتراها صمت الطواحين,

فسكنت أضلعها,

وخالفها السحاب,

سحبت من جيبها سراج الوهم,

وأشعلت في الليل هامتها,

علّ شروقاً يطرف قنديلها,

بُعَيْدَ يصير الزيت يباباً,

حامت حول سكناها /

 صريعة الحلم,

ونامت تعدُّ أصابع قتلاها,

فاستظلّ بصيص لياليها السراب…

وقبيل وضوئها القسريّ/

 تشهّدت,

فحام حول جثـَّتِها الذباب…

 ********