قراءة في ثلاثة كُتب شعريّة، العالم رهنُ أفكار شُعرائِه

نسرين الرجب ـ لبنان.

يرى الشاعر ما يُحس، وما يُريد، يشتهي وينتشي ويبتغي طريقًا ما سلكهُ أحدٌ من العالمين، لذا فهو يفُض ختم اللُغة في كُل مرة يؤاتيها شوقًا، ويمنحها صورًا فنيّة ذات دلالات ومضامين تنبثق من رؤيته الخاصة إلى العالم، هذا العالم هو رهنُ أفكارنا ، وهو كونٌ من المُتناقضات على أقرب تقدير، المُتشابهات على أقرب تفسير.

 تحضر هنا ثلاث تجارُب مختلفة لثلاثة شعراء، في دواوينهم الحديثة الطبع، الشاعر »أسامة محسن ديوان »قبعة لرأس مقطوع«،ديوان »ربّي زدني عِشقًا«، للشاعر لامع الحر، وديوان »يشدني المكان..يكسرني العطر« للشاعرة جميلة عبد الرضا.

غلاف قبعة لرأس مقطوع لاسامة محسن
غلاف قبعة لرأس مقطوع لاسامة محسن

    ديوان »قبعة لرأس مقطوع«  للشاعر أسامة محسن، لا شك أنّ الشاعر يكتب قصائده بحبر دمه، فرائحة الحرب والوجع تفوح من ثنايا كتابه، حتى ليكاد القارئ يتلمّس مكمن الألم ، يحمل هذا الشاعر السوري قضيته، بعدما أضحى غريبًا في وعن وطنه،  في قصيدة  »زنبق« يقول: »لا أنظر إلى عيني أمّي/ وأنا أوضّب رُكام المدينة في حقيبتي/ وإن سعل أبي/ أحذر اختناقي« ، يودع أهله ومن تجمّع لوداعه، وهو الموقن أنّه: » تصبح غريبًا بعد عدّة كيلومترات«.

 يتماهى مع الأشياء، يحمل ثقل ما تفيض به روحه،  في »نافذة« يقول: » عجوز يظن النافذة مرآة/ يرى أولاده في تجاعيد الثلج« يشتكي للنافذة انقطاع سبل العيش، عن حبل السُرّة الذي: »لم يعد سريًّا في نافذة أمي« ، فهي سفره الوحيد، وها هو يقف على نوافذ أحزانه ويرى العالم  بإجرامه » يخلع نافذة الله ويخون«،  فالنافذة هي الإطلالة على العالم الخارجي من خلال الغرفة  أو المكان المقفل ،هي المنفذ،  ولكن العالم اجتمع بِشرّه لِيخلع هذا المنفذ، ليعتدي على خصوصية وطنه، لقد عبّر  الشاعر عن انتهاك قدسيّة وخصوصيّة  الصلة بالخالق ، فخان الحياة وخان الوصايا،  في قصيدة »الوصايا« يتناص الشاعر مع الوصايا العشر، يحترق بنيران التجربة كلاجئ  أنهكته اوزار الحرب والخراب، ويعيد صياغة الوصايا كما رآها تُنتهك ويُمثّل فيها : »لا تسرق، لا تقتل باسم مسدس النبي، لا تزن البيوت، لا تعكّر شراب الصغار، لا تستنشق مجزرة غيرك، لا تغتصب، لا تشته وطن غيرك، لا تكذب، لا تغرق«، ويختم بالوصية العاشرة: » لا تنس وأنت تنظّف  أسنانك من لحم أخيك/ أن وجهك الذي غاب في المرآة / كان أملنا في استرداد فلسطين«،  لقد ضاعت البوصلة ، عندما استباح الأخ لحم أخيه ، غياب الوجه في المرآة هو ضياع الرؤيا، وتشوشه وتشوُهها، الاستعارات تؤاتيه كأنها تولد لتكون في كلامه، يستبدل المُشَاهد بعين رؤيته، يرى ما وراء الدمع وكذا حال الشعراء.

  يستخدم الانزياح في »أقبح الأمم«  شعب يعلن قباحته، سخرية باكية من عادات قوم أورثتهم الحرب كآبتها، فهي تستقبل العيد في المقبرة،« وينتهي ألبوم يومها صُورًا في مجزرة«، وهي » أمة تبحث عن ماضيها في متاحف سارقيها«، مفارقة ساخرة تستدعي الرثاء »وتشتري الأفلام الإباحية من غاصبيها«، هذا الجلد للذات لا يستدعي الشفقة هو جلد مبرّر وحقيقي في رؤية الشاعر، لأنها أمة لا تعرف قيمة الشعراء ومئات الأنبياء قدموا لهدايتها ، وهي: »تحب الله / والله لا يُغيّر قبح أمة حتى تُغيّر ما فيها«،  ويتناص هذا مع  الأية الكريمة من سورة  الرعد /15: »إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم«.

   تغلب على قصائده سرديّة خاصة ، فالشاعر يحتوي فهم المتلقي، ويروي له على سبيل الإخبار مأساة ما آل اليه الحال، ولكنه شعر حي، يغيب عنه الوزن وتحضره موسيقى الصوَرالمشهدية، والحروف النابضة، والتراكيب الفنية، التكرار،  التوازي في بعض  التراكيب الجمليّة، والتناص، كما في قصيدة »دفتر سورية« حيث يقول: »كما شق موسى بعصاه ماء البحر/  يشق الإرهاب  جمجمة البلاد بحقدهم«  ويختم  بالقول: »وكما غمر البحر جيش فرعون/ غمر الذين جاؤوا إليها ميتين / وعاش السوريون«.

   يبدأ بقصيدة لاجئ، معجم يزخر بالملفوظات الدالة على سوء حال حامل هذه الصفة: »مخيم، قمل ، جرب، طبيب، عدائية، جيفة، حصى، مسلخ، شهيد، حساسية، ورم..« ، »سأحطم وجه أمي إن أعادها الموت إلى المخيم« ، »سأمص دمها اللذيذ«، هل يعطينا الشاعر مثلًا دراكوليّا، أم أنّه يصوّر بشاعة ما زَرعته الحرب فينا، الغضب والحقد ، الأنانيّة،  المشاهد الميتة لما يجري في المعتقل، كما في قصيدته »معتقل«، حتى الجبل المطل على دمشق »قاسيون« يصرخ« لا تتركوني ها هنا/ شاهقًا لأشهد كل هذا الخراب« ، ولكن الشاعر لا يدعنا نمضي أكثر ، يوقف المشهد الآخير على حصريته، وبرغم الألم لا ينحني »إنما أتأمل في التراب بيتًا من بيوتي«.

———————————————————————————————————————–

ديوان »ربّي زدني عِشقًا«، للشاعر لامع الحر ، يفتح لنا الشاعر في ديوانه موعدًا مع مغامراته العشقيّة،  فالرجل واثق من قدراته الفنيّة  والدونكيشوتيّة ، أيضًا، في اجتذاب امرأة هائمة في فضاء الرؤية.

 يقول في قصيدة » قراءة في الوجه النبيذي« : »لا الريح تنكرني ولا الأقدار …، ما زلت بالحب السنيّ مُحصّنًا \ إني هنا قبطانه المغوار…، خطر هواك وشائك لكنّني/ رجل تحب نشيجه الأخطار«، يدخل الشاعر بيت القصيدة باندفاعيّة العاشق الجسور، يحيك الكلمات على مقاس عنترته المُثلى،  وهو يمتلك مخزونًا لغويًّا جديرًا بالاهتمام.

  يحوي نتاجه على خمس عشرة قصيدة، موجهة إلى أنثى غير حاضرة، هو شاعر التجربة ، ولكنها تجربة البحث عن أنثى لا علم لنا بملامحها ، ولكن على ما يبدو، أنّها ذات جمال ، فصاحبة  الوجه النبيذي، تظهر في قصيدة » تجيئين من زمن غامض« : »أحلى من البدر حسنا، ..أطول من نخلة« ، وهو يكشف بين حين وآخر عن ضياع الحلم _الأنثى، عن هذه المرأة التي خانت أنوثتها وسقطت في الوهم: »وهم على وهم يضيء ملامح الأنثى  التي فقدت/  أنوثتها علىء وقع الخيانة/  أو على وقع العبور / إلى ممالك من شقاء«، وها هو يمضي إليها في خفّة فراشة: »ثم امضي إليك فراشة / تمتص من ضوئي  أنوثتها«  وإذ به هو العاشق الذي لا يملّ لا يريد لهذا العشق نهاية :  »ولكن بعد أن دنت الحكاية من نهايتها/  رجعنا عائدين إلى البداية مثل عصفورين/ يكتملان بالحب العظيم«.   ولكنها ليست الطريق »لا لست الطريق إليَّ/ لست مجاليَ المسكون إعصارًا« .  بل هي: »وهم على وهم«. »ولا بد من نهاية«

غلاف يشدني المكان يكسرني العطر لجميلة عبد الرضا
غلاف يشدني المكان يكسرني العطر لجميلة عبد الرضا

 .  »ثم انتهينا من هوى/ يأتي ويذهب/ مثل نايٍ موحش/ تنساب  من ألحانه الكلمات عابسة/ على وقع النهاية.« . الشاعر ملتزم بما يدعو اليه في قصيدة »سراب« يتساءل الشاعر فيما  إذا كان » وهما كل هذا الحب؟؟« » هل ماتت أحاسيسي ؟« ثم  يوجّه سؤاله إلى مجهولة : »هل صُنتِ الغرام، ..أم خنت القصيدة، ..هنا انتهينا« حتى تضيع سبل الحياة بينهما، فـ« لا طريق ..لا شاطئ..لا نجم.. لا مرفأ ..«  يتصاعد النفس الشرقي الغاضب: »من سمّاك أغنيتي/ لأنحره على مهل؟ »  وهي » سيدة تقامر بالحياة / وسرّها«  هذا الغضب يدفعه إلى معاودة التساؤل عن عبثية ما آل إليه حبّه : »هل كان وهما  كل هذا الشعر؟/ أم خنت القصيدة قبل أن أنجو/ من الأوهام..، من سمّى فضاء التيه لي دربًا؟..«

 لا يمتهن الشاعر الغموض مسارًا ، هو واضح في مسعاه، حتى تنساب أسطره الشعريّة خفيفة، غنيّة بالملفوظات الحيّة، والصور البليغة، ملتزم بموسيقى الشعر من وزن، وتفاعيل  وقافيّة،  نجد في قصيدة »طواحين الهواء«  صور كثيفة الإيحاء : »..الموت..يدور حولي مثل زوبعة، زنبقة الكلام، فؤادي المنسي خلف خيانة تجتر أوهاما، سيف الأسى، الجمال الخصب، غصون القلب، فضاء الإنتشاء، المدى المشبوه، نايٍ ماجن، طيفك السكران، نبضها المبحوح، ..« ، العلاقة المرجعية بين  هذه التراكيب هي علاقة مودة وزحمة في آن معًا، لأن الشاعر يزاحمها في نصه حتى  يغيب الترابط فيما بين المقاطع ، وتطفو على ظاهر المقول  جماليةًّ  مُغرقة  في رومانيسية الشاعر الخياليّة.

———————————————————————————————————————–

ديوان »يشدني المكان..يكسرني العطر« للشاعرة جميلة عبد الرضا ، يمثّل الإهداء  حالة فنيَة خالصة، ويحوي على مفارقةٍ لذيذة أشبه بامرأة تكيدُ الغياب بضحكةٍ سافرة، » كلمتان / أوّلك آخري/ وهذا الكتاب أهديه لي/ من أّوّلي إلى آخري«.

  تقول في قصيدة »من أقصاي إلى أدناي« وهي تقع في بداية الديوان : »أصعد مني كطيف،/ كنهر متعرج/ أزداد نحولا كلما تقت إليك.. »، تظهر في هذه القصيدة أفعال الحركة »أصعد، أزداد، أنكسر ، أرتعش، تماديت، أقوم..« تحمل الفعالية في هذه الأفعال هشاشة حدوثها، تبدأ بالصعود وتنتهي بالقيامة،  ولكن » لا صوت يعلو / على وقع الهشيم«.

 تحمل الشاعرة ثقل ذاتها  وهي تصعد كطيف على ما يحمله هذا التعبير من خفّة، »كنهر متعرج« النهر في هدوئه المستتر يحمل دلالة الانسيابيّة، الجريان بلا توقف، العذوبة ، والسقوط  في شلال من الحزن : »أزداد نحولا كلما تقت إليك«.

يرتبط العطر بالمكان ، يتآلفان ويتماسكان ، حتى يمسهما برد التشظي فيتنافران، الشاعرة تمارس لعبة الإنزياح ببلاغة فاتنة، حتى كأنما كل موجودات هذا العالم تشاركها البوح،  تقول: »كنت كلما تحرّك بحر في لفتاتنا/ أو لمسنا الكرسي الفارغ في المقهى/ ، ترتعش في الكف زهور النار« وتُضيف: »كنت كلما لبست عقد الياقوت/ لأشدني إليك/ يسقط العناق«، يحمل »عقد الياقوت« صيغة أنثويّة عالية في رقيّها، ولكنه لا يُفلح في جعل العناق تعبيرًا ودودًا عن الحب، يسقط العناق ربما دلالة على الابتعاد، ثم تتساءل بحزن« لم تحزنّا المرايا؟«  المرآة هي انعكاس صورتنا ، والمرايا تعدد الصور تعدد الذوات، هي حالة انفصال، »لم العطر يستحضر الحبيب والمكان« هذا الانكسار في ظل استحضار صورة الحبيب  يتشبث بذاكرة العاشقة الهائمة على وجهها في قصائد هذا الكتاب: » لم المكان يشدني/ ويكسرني فيك العطر/ لم المكان بكل أحجاره يشدّ أثوابي؟« . تقول في قصيدة »أصابعي على نافذة مغلقة« : »تمسكت بصمتي/ خُذلتُ بصمتك/ ثم اندفعت إليك خاسرة/ بكل كلماتي« تمثل الشاعرة في هذة المقطوعة حكاية الأنثى التي يعاندها صمت الرجل الماكر فتنفرط بوحا .

في قصيدة » الواحدة بعد الحب« تناجي  امرأة عطشى للحب ، تفتقد للاهتمام » من يصغي  لصوتك/ و أنت تهزين المفاتيح / النائمة بإصرار/  من يصغي لرموزك/ وأنت تتوقين لكلمة حب / أول الليل/ وعناق آخر الشتاء«  وبرغم ذلك فهي قابلة للشفاء من وجع الفراق،: »تشفين كزمن في أول الريشة/ وآخر شهقة في النداء« .

تحكي جميلة عبد الرضا عن أوجاع يومنا، عن الصراع بين البداية والنهاية وعن أزمة الفراق، لغتها شاعريّة حالمة، تطرق باب القلب بومضة خاطفة، تهزّنا حتى تنتهي أنفاس القصيدة على آخر سطر شعري.

ربي زدني عشقا للامع الحر
ربي زدني عشقا للامع الحر