»وفيق غريزي ثورة على الظّلم«

تكثر في قصائده الثنائيات الضوية المتأرجحة بين الفرح والحزن

بيروت ذ ليندا نصّار

صدر الجزء السادس من الأعمال الشعرية الكاملة عن دار نلسن للكاتب »وفيق غريزي«. يعبّر الشّاعر عن حالات تنطبق على كلّ إنسان عانى الحزن، وسط خيبات الحروب والفساد السائد في المجتمع. حشد هذا الباحث والنّاقد مشاعره ليملأ الفراغ برؤيته المستقاة من صور الدمار وسقوط الحضارات، تماهى وقصائده فكانت المنفس الوحيد وسط ألم المرارة والحزن. سكب الشّاعر رؤيته النّقديّة لصور من الحياة والمجتمع، أضاف إليها فلسفته الخاصّة فجاءت هذه النّصوص إطارا لما أراد التّعبير عنه.

يرضخ »غريزي« للهزيمة متأسّفا أحيانا. يلجأ إلى التّصوّف فيتجاوز بقصائده التشاؤم الذي أفقده الأمل.

في ديوانه الأعمال الشعرية الكاملة، تناول الشاعر مواضيع مختلفة، يحتاج كلّ منها إلى دراسة معمّقة للولوج في رموزها، نكتفي بالإضاءة على بعض منها.

 هيمنت على الدّيوان صورة الذات المنكسرة المتألّمة الحاملة هموم الآخرين. من النّار والرّماد، لجأ إلى الطبيعة ليجعل عناصرها تطغى على معظم قصائده. تحدّث عن الحياة، الموت، جراح الزمن، انهيار الصور، لوعة الانتظار، الخيبات، العمر، الحضارات، كما أنه لم يستثنِ المرأة والحب والشعر…

في قصائده حركة معاكسة غنيّة بالصّور الشّعريّة، نراه يخوض الحياة ليخرج منها متسائلا في قضايا الموت وما بعده، موظّفا الحقل المعجميّ المناسب للموضوع، طارحا أفكارا فلسفيّة داعمة إذ يكتب: »تحت ركام الغيوم/ تنام النسور المطوقة/ بأفاعي الجسد/ ببطء تغرق عتمة الماء«.

الجزء السّادس للشّاعر وفيق غريزي
الجزء السّادس للشّاعر وفيق غريزي

 تكثر في قصائد »غريزي« الثنائيات الضدّية الّتي تعبّر عن حالات نفسيّة تتأرجح بين الفرح والحزن، الاشتعال والانطفاء من مواقف الحياة. يقول في بعض قصائده:  » التفاهة نجمة هاربة إلى غابة المطر/ وراء انطفاء سنبلة/ رقصة الوصال / شعلة مضرمة/ في شعلة » ذ« فم الطفولة على صوت وصدى/ نضرم النار/ في مجامر الرماد.

يوظّف الشاعر عناصر الطبيعة لترافقه في معظم كتاباته. يستعين بالماء والنار والتّراب والهواء، يستخدم النهار والليل والفصول والمساءات يوّظف الشمس لتحديد زمانه… كما في قصيدة »شعلة المساء« »واحتضار الرّيح«. في نظرته التأمّليّة، يراقب الوجود ويثبّت نظره عند نقطة الانطلاق ليدرك كلّ ما يتبعها. يقول في قصيدة »ثوب وكفن« ثمة نقطة ضمن/ دائرة الوجود / في اللّامكان/ واللّازمان / تزرع الأشياء.

يثور الشّاعر على الظّلم والطّغيان كما في قصيدة »مدينة اللصوص، إذ يُظهر الحسرة على ما سبّبه الطّغاة: »آه يا مدينة اللّصوص والطغاة/ على الأرض تغتصب النساء/ الظلام يدنس بكارة الشاعر«.

يتميّز هذا الديوان بكثافة الصّور الشعرية، كأنها تنطلق من القصيدة لتستقرّ فيك. يُقلق الشاعر همّ الحياة والموت، فيرافقه في معظم قصائده من دون أن يشعر. تغلب عليه الحيرة فيحلّل الزمن منتظرا الوصول.

 في قصيدته »براعم الانتظار« وصف وتصوير دقيق لحالات الغياب، ومن الانتظار ينبت الأمل فيقول: أنين الغياب/ براعم الانتظار/ امرأة تتطمى على سرير العشب/ يلطخ ثوبها نزف الثمار.

يمزج »وفيق غريزي« المحسوس باللّامحسوس فيوحّد بين صورهما: »على نول الزمن الصدِئ / من عناقيد الشفاه / من دينان البلور/ تنسكب قطرات النبيذ«.

في حديثه عن معنى الحبّ، يقلق الشاعر على الوجود، يبحث في أصل الإنسان، يربطه بالتراب، ثمّ يعود بنا إلى عنصر الطبيعة متحدّثا عن الفيض متأثّرا بالفلاسفة.

الشاعر بارع في الغزل وفي تصوير جسد المرأة وظلّها رفيقه نحو الأبديّة. يقول في قصيدة »عروش الحبّ ملكها الكون«: تعالي نشرب من كأسنا الصهباء / تعرّي/ تعرّي/ من عريك يفوح العطر والطيب/ هذا جسد يختصر الأكوان/ بعد الموت يرافقني ظله الوارث.

يعود بنا »وفيق غريزي« إلى عنصر النار يمزجه بالخمر فتحتدّ الألوان:  أنس نارك / قد أنقذتني/ من لهب النار/ ها هي الخمرة تعرّيني من كل القشور / من لهب النار.

في قصيدة » نبوءة تنذر بالهبوب« حالة ترفّع عمّا هو أرضيّ، يعلن انتماءه وحبيبته إلى عالم علويّ متخطّيا كلّ ما يقلق الإنسان فيقول: امرأتي وأنا/ نحلّق في الأجواء/ من الأعالي نخاطب القلق والأشياء/ كل مافي الأرض/ هباء يمشي إلى هباء.

 يعود بنا الشّاعر في قصيدة »رؤانا تلفها الاكفان«، إلى حالة الانتظار وهو أمل جديد، ونظرة إيجابيّة تجاوزيّة، ورؤية مستقبليّة للأرض الموعودة: أرضنا على رصيف الانتظار/ لتأتي مواسم الأمطار والثمار.

الشّاعر حسّاس تتحكّم به ظروف الكون. ينتقل من الإيجابيّة إلى السّلبيّة ومن الفرح إلى الحزن. هذه الحالات متلازمة، تحقّق التّكامل بالنّسبة إليه. يلتقط الألم فلا يهنأ وسط المعاناة والتّشرّد في مجتمعه، يبدو ذلك في قصيدة »أنيني سحابة سوداء«: أطفال مشردون يشرعون وجوههم / يموتون جوعا/ وسط الحريق/ تهرب من أمامهم أسراب البيوت ذ »الأطفال والرّوائح تتدفّق بالعروق/ جثث تستيقظ على عروش الذّلّ والانهيار/ عقول تمنحها المشيئة لون المكان/ وصيرورة الزّمان…

في النّهاية نقول إنّ »وفيق غريزي« جمع ما اكتسبه في حياة عارمة بالتّجارب، انطلق من ذاته، حمل أثقال الإنسان ومعاناته في مجتمع افتقد عدّة قيم، موظّفا حروفه للتّعبير عمّا اختبره.

من قصائد الدّيوان:

المرايـــــا الفارغــــة

بلادي بلا فجر، بلا ضياء

الأيام تتخذ في ربوعها مظهر النسيان،

امرأتي قلقة تنام على أريكة النهار،

ينيرها الأرق والبهاء،

مغمورة جذورها بغمر السنابل،

دم الخصوبة انحباس،

ديمومة عينيها ترتبط بالكائن الأنسان،

ليل شعرها يوحد مملكتي مع كل الممالك.

العالم رهينة التحولات،

أمام عربها تتحول صواعقي

مواسم غلال،

طفولتي لحن الأزل.

إعصار يدي المجنون،

يدغدغ نهديها،

هما خالدان يهدمان الوقت والأسوار

لهبا يشعل حقول الثلج

حقيقة يلدها العرفان

بذورها ثمارا وزهورا

إلى دناني المترعة بالخمور

تقودها قدماها

جسدها المتألق بالوميض

يورق المطر، بالعطر والبخور

البحر الذي يحتويها

له شكل متعة ناضجة

شعرها مسحور بدماء مرآة مكسورة

على زغب جسدها يرسخ الماء

أمداء سريرها حقول قمح

ويبادر أفكار

الطريق إليها صعب المسالك.

أنت أشد النساء فتنة،

تمسكين بالأمواج،

تمزقين عن الوجوه أقنعة الفجور

أحضانك تميت قوافل الضجر

تعلو أصداء الطفولة

جسدك نار تلهب دم الغابة القطيبة،

نذوب معا بنار الوصال،

ونار الإبتعاد

عمق الهاوية يحتضن هذياننا

المنثور

عريك النقي زينة المظاهر،

ومعنى الجوهر اللامرئي.

إشراقته تحميني من السقوط

والإنهيار

أرحل على متن خرافة

مع كل أحلامي

المرايا فارغة من الكنوز

خمــــــرة المـــــوت والحيـــــاة

أطوف أبواب العزلة

علني أسمع نداءك،

يطردني من دمك

ألجأ إلى ضفاف الحروف والكلمات

أجعلك برقا يضيء الظلمات،

كؤوسنا الظامئة

مرقدا للنجوم.

تجتازين البحار لا تمارسين الصلاة

أجنحتي تمزق القباب

تبقى عنك بعيدة

تنبت بيننا الصحراء

حول متاهات الأرض

تحملنا الرياح

عند المساء تنحني الأغصان

إحتفاء باللقاء.

تخصب الصحراء

لا تثمر الحقول

تبقى الأيام فارغة

الحروف ألسنة لهب

تجرح الوجوه

من آبار الصمت، نثمل بالأوجاع

على إيقاع رعشة التراب

تحني الثمار قاماتها.

إمرأة تأتي من الطهاة والجنون،

تنسج الظلال رداء

تحرق البخور على مجامري

فوق السحب يخنق اسمها

بمدية ينزعونها من فمي،

يذهب صوتي

يطرق أبوابها.

كالبرق يضيء نوافذها.

الليل يعانق الليل على صدري،

أبحث عنها حتى تذوب حجارة الدروب،

وتبهت الألوان.

عقارب الأزمان تجوب المدائن

على كتفي أحمل خطواتك التائهة

وثوب الأحزان

مفاتيح المجهول ارواح،

بلا أظافر أو انياب

تنفث الصدأ والدخان

على سرير مخاض القمر.

تتصدع الرغبات

بك يا امرأتي كامل الانتماء

فوق أصابعك تبرق الدهشة

نورا ومواسم

أسكب على جسدك جمار النشرة،

من أكواز صدرك،

أشرب خمرة الموت والحياة.