من أجل السلام

سهير آل ابراهيم

كان صباحاً كغيره من الصباحات اللندنية الزاخرة بالحركة السريعة، والمترعة بحشود البشر. إلا إنه كان الصباح الأخير، أو ربما الفريد من نوعه بالنسبة لها! انطلقت من مسكنها متوجهة للعمل، مسرعة للوصول إلى اجتماع مهم، تحملها قدماها، وتدفعها قُدماً احلامُ المستقبل الزاهر الذي وضعت خطواتها على بداية طريقه. لم تكن تعلم ان ذلك الصباح سيغير حياتها، وإلى الأبد.

عندما انطلق من مسكنه في ذلك الصباح، كان يعلم جيدا انه سيجعله صباحاً مختلفاً بالنسبة للكثيرين، صباحاً أخيراً له ولغيره!

أسرعت الخطى للحاق بقطار الأنفاق الذي كان سيقلها إلى موقع ذلك الاجتماع.. ربما! أحست بالارتياح لانها استطاعت ان تستقل ذلك القطار، وتجد لها مكاناً في تلك العربة التي تزاحم فيها الركاب بشكل كبير. بدأت الأفكار تتسارع في رأسها؛ تفاصيل الاجتماع، تفاصيل الاستعداد لزفافها الذي لم يتبق على موعده سوى خمسة أشهر، تفاصيل.. تفاصيل..

كان ذهنها مشغولاً بالكثير من التفاصيل. وعلى الأغلب كان كذلك ذهن كل واحد من ركاب تلك العربة المكتظة الناس، مشغولاً بتفاصيل حياته، مفرحة كانت ام محزنة. جمعٌ من الغرباءٍ يحملهم ذلك القطار، آخذاً كلاً منهم إلى سبيله.

فجأة انتابها إحساسٌ غريب، إحساسٌ لم يسبق لها أن اختبرته، لم تكن تعلم هل انها أصيبت بنوبةٍ قلبية! فقد شعرت وكأنها تهوى إلى عالم آخر، لم تستطع ان تفسر ما حصل لها؛ هل فارقت الحياة بغتةً؟ هل هذا هو الموت؟

شعرت انها كالريشة التي كانت تهوى ببطءٍ نحو قاع بحيرة ساخنة من القار الأسود! لم تكن قادرة على التنفس… لم تكن قادرة على السمع او الرؤية أو الإحساس بأي شيء! كل ما كانت تستطيع عمله هو إصدار بعض الصرخات المكتومة… كانت تسمع صراخ الآخرين حولها، ظنت انهم كانوا يصرخون لموتها بينهم، ، كانت تسمعهم ولم تكن قادرة على رؤيتهم وسط ظلام بهيم خيم على المكان فجأة..

أحست بحركة الناس المضطربة حولها، لا زال الظلام رابضاً على المكان، يمزقه صراخ الناس وعويلهم.. ماذا حدث؟ أين ذهب القطار؟ وأين نحن الآن؟ أفكار كانت تتسارع في ذهنها، ولم يساعدها الظلام على الوصول لأي إجابة.

ثم هدأ كل شيء ولم تبق سوى العتمة الكثيفة التي كانت تغوص بها. وخيّم على المكان صمتٌ مخيف؛ صمتٌ هائل جعل تلك العتمة تبدو وكأنها فراغ يلونه كل ما في العالم من سواد.

أين ذهب الآخرون؟

هلو… أنا جِل…. أنا على قيد الحياة..

لم يكن غير الصمت جواباً!

هلو… أنا جِل…. أنا على قيد الحياة…

جِل هِكس؛ المرأة الأسترالية التي هاجرت إلى لندن كي تتخذ مساراً جديداً في هذه الحياة؛ كي تعمل لأجل تحقيق أحلامها الكبيرة، كانت واحدة من ركاب قطار الأنفاق الذي تعرض لتفجير إرهابي، في صباح السابع من تموز عام 2005. وكانت في نفس العربة التي استقلها الانتحاري، حيث لم تكن تبعد عنه سوى أمتار قليلة!

عادت جِل إلى الوعي، لتجد نفسها في المستشفى، وقد رُبط حول معصمها شريط كُتبَ عليه: واحد غير معروف، المُرجّح إمرأة. ثم لتكتشف أنها فقدت ساقَيها في ذلك الحادث المروع!

)واحد غير معروف( عبارة أثّرت فيها بشكل كبير، حيث تقول جِل في كتابها الذي يحمل نفس العنوان، ان تلك العبارة جعلتها تُدرك ان ما يجمعنا، نحن بني البشر، أكبر بكثير مما يفرقنا. تلك العبارة كانت تعني بوضوح أن من عمل على إنقاذ حياتها، لم يعبأ بإسمها أو عرقها او جنسها، كل ما كان يهمه، أو يهمهم، هو إنقاذ حياة انسان! في حين أن من تسبب لها ولغيرها بكل ذلك الالم والخسائر، هو اخ آخر في الانسانية، ولكنه للأسف كان يعتبر الآخرين المختلفين عنه، أعداء يجب محاربتهم والتخلص منهم.

جِل كانت ضحية للتعصب وما يولده من كراهية، لكن المحبة أنقذت حياتها، فالمُنقذون يعرضون حياتهم للخطر أحياناً، من أجل إنقاذ حياة إنسان، وهل هنالك حب أعظم من ذلك؟! الطبيب الذي يتعامل الأمراض المعدية والمميتة، رجل الاطفاء الذي يقتحم النار، الجندي الذي يقف امام الموت وجهاً لوجه، وغيرهم كثر ممن يذهبون إلى أبعد ما يكون لإنقاذ حياة الناس، هم أمثلة ساطعة على قوة المحبة وعظمة الانسانية. وهذا ما استشفته جِل من تلك التجربة. فكرت أن ما تعرضت له يجب أن يتوقف عندها، وان لا يتكرر مرة أخرى. أحست ان عليها ان تعمل ما في وسعها كي يتغلب الحب على الكُره ويكون هو السائد في هذا العالم الذي تمزق الكراهية اركاناً منه في كل لحظة.

بعد ان تماثلت للشفاء، وتدربت على المشي على الأرجل الصناعية، أوجدت جِل في عام ، منظمة غير ربحية اسمها )عمل التغيير من اجل السلام(. مقرها في لندن، وهدفها إيصال رسالة والتخاطب مع الناس حول مسؤولية وأهمية دور كل انسان في خلق عالم خالٍ من التطرّف وما يولده من صراعات لا تجلب سوى الدمار للبشرية.

السلام هو الفعالية اليومية في تلك المنظمة، والتي تعمل على إستحداث وتنفيذ فعاليات، تستند على التواصل المباشر مع الناس، لغرض ترسيخ مفهوم السلام، وجعل العمل على تحقيقه جزءاً مهما من الحياة اليومية لكل فرد؛ فكما يقوم الانسان بأعمال تهدف للمحافظة على البيئة مثلاً، كذلك يجب ان يكون له دور مستمر في الحفاظ على السلام. فكل عمل بسيط يقوم به الانسان ضمن أهله ومجموعته، عندما يتضاعف من خلال مشاركة الاخرين، سوف يكبر ويتعاظم ليشمل المجتمع والعالم ككل؛ كقطرات الماء التي تتجمع لتملأ قدحاً او جدولاً صغيراً، أو جميع بحار ومحيطات العالم!

من الفعاليات البسيطة، والمؤثرة جداً، والتي تقوم بها المنظمة، هي التحدث المباشر مع الافراد وسؤالهم عن وجهات النظر الاخرى المخالفة لما يرونه. الهدف من ذلك هو نشر الوعي والتفهم وتقبل الاختلافات، من اجل القضاء على النزاعات التي يولدها عدم قبول وجهات النظر المغايرة. المشاريع والفعاليات المختلفة لتلك المنظمة، تحمل جميعاً رسالة واضحة، مفادها إن السلام الحقيقي ينبع من داخل الانسان؛ من نفسه وذهنه وتفكيره

تقول جِل في نهاية كتابها، ان يوم السابع من تموز هو يوم أسود في تاريخ لندن، ولكنه يوم واحد، بينما هنالك أماكن وأناس في هذا العالم، كل يوم يمر عليهم هو السابع من تموز، كل يوم من حياتهم هو يوم أسود! وتقول أن الأمنيات وحدها لا تكفي لأحداث التغيير، بل انه يتحقق بالعمل، يجب ان نصنع التغيير بأنفسنا وفي انفسنا.

قد لا نملك الخيار في التعرض لظروف وأحداث سيئة، ولكننا نملك الخيار في كيفية التعامل مع تلك الاحداث وتأثيراتها علينا. عند التعرض للمصائب هنالك من يختار ان يجترّها لما تبقى من العمر، فيضيع حياته أسفاً وحزناً. وهنالك من يختار الحقد والكراهية، ومحاولة الانتقام، وهذا خيار يزيد من خسارات الانسان مع كل عمل يقوم به على ذلك الاساس. ولكن، هنالك من يقرر ان يضع حداً لخساراته، بأن يعطي لحياته القيمة التي تستحقها، وهي قيمة كبيرة جدا، فكل يوم في هذه الحياة ثمين ولا يُعوّض، وأفضل طريقة لاستثماره هي ان نعيشه بحب وسلام.