عمرو موسى.. وعودة الوعي

عالم السياسة عالم واسع وفسيح يظلله فكر يؤطر لنظريات سياسية تعرف معنى السياسة وتحدد مفاهيمها وتناقش مدارسها وقواعدها، وأيضا يزخر عالمها بالكثير من الممارسات والأجتهادات التي كان لها الأثر في المواقف وفي أساليب التطبيق، ولكن حين تتبدل الظروف وتتغير الأحوال وتتهيأ المناخات لطرق سبل اخرى في الممارسة والأجتهاد، أو بمعنى آخر حين تهب الرياح غير المؤاتية لما سبق وكان محل أو شبه اجماع، نجد أن هناك من يتمسك بالقواعد وبمجموعة القيم الحاكمة لمعاني الحرية والديموقراطية بشقيها السياسي والأجتماعي ومدى التكامل بينهما وأيضا وهو الأهم بالالتزام بقواعد الجغرافيا والتاريخ وأحكامهما التي لاتقبل منازعة وتفرض صيانة الأتجاهات وتميز السياسات، ولكن هناك أيضا دعاة المرونة التي يعدونها الأساس الحاكم، حتى وان كانت في بعض الأحيان بلا روابط، بل وحتى ان التوت فيها الحقائق، وتاهت في سراديبها معالم الطريق. السيد عمرو موسى وزير الخارجية المصرية الأسبق لمدة عشر سنوات، والأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية لمدة أيضا تقارب العشر سنوات، أي رجل مخضرم في عالم السياسة الفسيح، وهو أيضا نجم من النجوم اللامعة في سمائها وكم خطف الأبصار بتصريحاته وعلى الأخص المناوئة للتهجمات الأسرائيلية. عمرو موسى وزير الخارجية الوحيد الذي كان اسمه يتردد مصحوبا بكلمة حب عبر لحن غنائي بصرف النظرعن صوت المطرب وعن مدى قبوله أو استحسانه.أخيرا صدر عن عمروموسى تصريح كان له وقع الصدمة على من توسموا في تصريحاته معاني أكثر عمقا من كونها تصريحات مهنية بحتة، أي أنها بحكم القناعة أكثر منها بحكم الوظيفة، باعتباره وزيرا للخارجية او امينا عاما. يقولون عن الرئيس الفرنسي الراحل )شارل ديجول( وهو قائد عسكري مرموق وزعيم مرحلة في

المسألة ابعد من عودة سيناء بكثير.. المسألة أن نكون او لانكون
المسألة ابعد من عودة سيناء بكثير.. المسألة أن نكون او لانكون

التاريخ الفرنسي مضيئة، يذكرون عن الرجل قوله )حين تتحدث في السياسة لابد أن تنظر في الخريطة أولا( اي ان السياسة شديدة الألتصاق بالجغرافيا ناهيك عن التاريخ، فالجغرافيا هي الموقع، والتاريخ هو الأحداث بتفاصيلها التي جرت في الموقع وحول الموقع تدورالحوارات عن العبر والدروس والمواعظ المستخلصة. لكن السيد عمرو موسى فاجأنا أخيرا بتصريحات تسقط أحداث التاريخ من الأعتبار، ولاتدقق كثيرا في عوامل الجغرافيا التي بسطت الأرض وخلت من العوائق الطبيعية الحاجزة ومن ثم أصبحت هذه الأرض وعاء يساعد على الأنصهار القومي، وكيف نسج كل ذلك مع وحدة اللغة، والتي حاول الأستعمار الفرنسي ان يقوضها ففرض اللغة الفرنسية، على المغرب العربي، ولكن ما ان تم طرد الأستعمار حتى عادت العربية كلغة وطنية، وشكلت وحدة التاريخ عمقا اكبر في التواصل الأنساني وماترتب عليه من وحدة الآلآم والآمال والمصير الواحد، ناهيك عن التكوين النفسي المشترك الى الحد الذي اصبح العتصر الدخيل يشكل العدو المشترك لكل الشعب العربي، حتى وان تعددت المشاكل والقضايا مع اعداء اخرين.

مؤتمر مكتبة الأسكنريه

حضر السيد عمرو موسى مؤتمرأ عقد مؤخرا في مصر عن )الأمن الديموقراطي في زمن التطرف والعنف( وقد نظمته مكتبة الأسكندرية في الفترة من 14 يناير الى 16 يناير الماضي وحضره 12 رئيس دولة وعدد من الشخصيات السياسية والدبلوماسية، وشاء السيد موسى ان يدلي في ذلك المؤتمر ووسط هذا التجمع بتصريحه الصادم الذي قال فيه )ان الحديث عن الأمة العربية الواحدة ذات رسالة خالده«كلام فارغ« لأننا ازاء عالم عربي فيه المسلمون والمسيحيون والسنة والشيعة والعرب والأكراد والأمازيج.. الخ.هكذا.. لايمكن الظن ان السيد الأمين العام الأسبق للجامعة قد قصد بذلك التصريح مجرد استهجان أو استنكار أو حتى نقد لتجربة حزب البعث العربي، وهو صاحب تلك الصيغة تحديدا كشعار في ممارساته أزاء قضية الوحدة العربية بعد أن تعثر في جمع سوريا والعراق في دولة واحدة ذ وقد تولى الحكم في كلا القطرين في ان واحد -، واستبدل بذلك نوعا من الصراع حكم العلاقة بين القطرين ردحا من الزمن مما كانت له تداعياته على الأمن العربي بشكل عام، أو حتى قصد اجمالا فشل تجربة الوحدة المصرية السورية مما ادى الى تمزيق الجمهورية العربية المتحدة بجريمة الأنفصال التي مزقت المشاعر العربية في ذلك الحين وما زالت تغمر مشاعرنا بالكثير من الأسى حتى هذا الوقت، حتى وان كان الشعب السوري قد هب للدفاع عن الوحدة، وأذكر مقولة للكاتب الراحل الكبير احمد بهاء الدين كان يرددها دائما وفحواها أن هناك كتاب يبحث عن مؤلف وهو )كيف قاوم الشعب السوري الأنفصال ؟(، وبذلك اعطى السيد عمرو موسى حكما ابديا على استحالة جمع كلمة الأمة فضلا عن انصهارها داخل بوتقة واحدة باعتبار أن الأمر برمته )كلام فارغ(. لكني اعتقد أن السيد الأمين العام الأسبق كان يجرى في عبارته في مجرى اخر حين وصف )الأمة العربية الواحدة( بالكلام الفارغ ثم أضاف )أننا أزاء عالم عربي فيه المسلمون والمسيحيون والسنة والشيعة والعرب والأكراد والأمازيج(!. ماذا يريد السيد موسى بالتعريف الذي نحته )أننا أزاء عالم عربي..( وبناء عليه فان هذا العالم ينقسم الى اقطار فيها المسلمون والمسيحيون وغفل )اليهود( يحتمل باعتبار ان لهم دولتهم في تقسيمه المزعوم ثم عاد فقسم المسلمين الى )سنة وشيعة( فهل يقترح ايضا ان يكون لكل منهم قطر!!.

منطق كيسنجر وعمرو موسى

هل يحتمل منطق عمرو موسى احتمالات متعددة.. ؟ أم انه يشير الى معنى واحد، وهو انه ليس هناك امة عربية واحدة، وانما هي اقطار متعددة الديانات والعرقيات، وعلى ذلك فهي اقطار، وكل قطر يمثل حالة خاصة، بمعنى اخر أن تقسيم اتفاقية )سايكس ذ بيكو( 1916 لم يكن تقسيما استعماريا لأمبراطورية غاربة )ألأمبراطورية العثمانية( جمعت في رحابها قوميات متعددة ومنها الشعب العربي الذي تجمعه قومية واحدة، ، وانما كان تقسيما مثاليا وان كان فقط يعوزه الأستطراد لكي يقسم أقطار المنطقة الى أديان ثم مذاهب حتى تكتمل الصورة بأبعادها في تصور السيد عمرو موسى. في اللقاء الذي تم بين الأستاذ الراحل الكبير محمد حسنين هيكل والسيد هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت ذكر الأستاذ هيكل أن كيسنجر طلب منه في بداية الحديث أن لايتطرق معه في حواره عن هذه المنطقة الى مسألتين هما التاريخ والقومية، واستنكر الأستاذ هيكل ذلك ورد عليه في ما يكون الحوار اذن اذا تجاهلنا عاملين لهما تأثيرهما الكامل في المنطقة ؟ من البديهيات المخلة ان نطرح على وزير الخارجية الأسبق لمصر اكثر من عشر سنوات ماجاء في التقرير النهائي لمؤتمر كامبل بانرمان الذي عقد في لندن وضم الدول الأستعمارية في ذلك الوقت بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا واسبانيا وايطاليا عام 1905 وخرجت نتائجه عام 1907 وقد قسمت العالم الى ثلاثة اقسام وجاء في القسم الثالث انها الدول التي لاتقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل

أمة عربية واحدة.. كلام فارغ
أمة عربية واحدة.. كلام فارغ

تهديدا وهي بالتحديد )الدول العربية بشكل خاص والاسلامية بشكل عام( والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم واكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها ومحاربة اي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية و )محاربة اي توجه وحدوي فيها( وكاجراء عاجل وسريع لابد من زرع حاجز بشري يفصل المشرق عن المغرب يكون قوة صديقة للأستعمار معادية لأهل المنطقة. أي ان المؤتمر خرج في نتائجه الى ضرورة )منع الوحدة العربية( باعتبارها تشكل خطرا على الحركة الأستعمارية.بل ان التصريحين اللذين صدرا عن السيد انتوني ايدن أولهما في 29 مايو عام 1941 والثاني في مجلس العموم في 24 فبراير عام 1943 أي اثناء الحرب العالمية الثانية )أنه لا ينبغي علينا ان نغفل الرد على طلب الكثير من اصدقائنا من مفكري العرب في تطلعهم الى درجة أكثر من درجات الوحدة اكثر مما تتمتع به الآن الشعوب العربية( والثاني )ان الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف الى كل حركة بين العرب ترمي الى تحقيق وحدتهم الأقتصادية والثقافية والسياسية(. كانت هذه التصريحات تهدف الى دغدغة المشاعر العربية التي اصبحت ترنو الى قيام الوحدة التي تجمع الشعب العربي عوضا عن تقسيمه، وكانت بريطانيا في حاجة الى تسكين الأوضاع في انحاء الوطن العربي أزاء الضغوط التي تواجهها من دول المحور في حرب ضروس، وصفها تشرشل لأبناء شعبه )سنكسبها بالعرق والدم والدموع(. لم تكن بريطانيا متبرعة بالتعاطف مع نزعة الوحدة التي تسيطر على الوجدان العربي، ولم تكن هي كما يشاع التي شكلت الجامعة التي كان السيد عمرو موسى امينها، وانما كان المطلب العربي ابعد من قيام تلك المؤسسة .

وحدة الأرض في

خطاب عبدالناصر في يوليو عام 1970

في نهايات عام 1969 اثناء اشتعال حركة المقاومة في اطار حرب الأستنزاف كان هناك سعي امريكي لحل اثار العدوان الأسرائيلي في الخامس من يونيه عام 1967 جرى لقاء بين السيد محمود رياض وزير الخارجية المصري مع المندوب الأمريكي )راسك( بادر فيه الأمريكي بأن حل القضية بسيط، اذ ان حدود مصر معروفة تاريخيا، ويمكن الأنسحاب منها في اطار مفاوضات، وبعد ذلك يمكن التفاوض مع الأطراف الآخرين كل على حدة، وما تسفر عنه المفاوضات يكون هو الحل، ورد السيد محمود رياض معنى ذلك ان مصر تأخذ أرضها وتترك بقية الأطراف لمفاوضات يتولونها هم بمعرفتهم، واستطرد ان ذلك يعد عملا غير اخلاقي، ورد المندوب الأمريكي ان الأخلاق ليست موضوعا سياسيا، وأردف السيد محمود رياض ثم بصرف النظر عن الجانب الأخلاقي ان هناك اتفاقية دفاع مشترك تجمع بين الدول العربية، وأجاب المندوب الأمريكي، في هذا الموضوع الذي نطرحه الألتزام فقط بما تنتج عنه المفاوضات. حين وصل الأمر لعبدالناصر كان هناك رده الشهير )الجولان قبل سيناء والضفة قبل سيناء والقدس قبل سيناء( ثم أضاف المسألة مش سيناء، ان كان على سيناء من بكرة الصبح ترجع، لكن المسألة أبعد من ذلك بكثير، المسألة هي أن نكون أو لانكون.ماذا يعني عبدالناصر بهذه العبارات ؟ ان تعاقب الأحداث يكشف بوضوح المعاني والدلالات، وقد قام الرئيس الراحل انور السادات بعقد كامب ديفيد وخرجت مصر من المعركة باسترداد سيناء، لكي يزحف الأستيطان

أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة
أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة

الأسرائيلي كالطوفان في الأرض الفلسطينية، وبشهادة )محمد ملحم( عمدة حلحول في الضفة الغربية ان الأستيطان طيلة المدة من 67 الى 1979 اثني عشر عاما كان لايذكر، وأن تظل الجولان معلقة، ثم تطل علينا ليلا ونهارا قيادات اسرائيلية عبر القنوات العربية، ويجرى فتح المكاتب وتتعدد الصور بين مسؤولين اسرائيليين وعرب، فلقد انفتح الباب على مصراعية. ثم نرى في بعض الدول العربية المواد الدستورية التي تخلو من النص على عروبة الدولة، وكان اخرها الدستور السوري، الذي حذا في ذلك دستور بريمر في العراق وهو اسقاط الهوية العربية في التعريف بالدولة، وهو مايجعلنا نتساءل هل يتابع السيد الأمين العام الأسبق مايجري، وهو الذي نبه من قبل الى ضرورة ادراج الهوية العربية في الدستور العراقي باعتبار ان العراق عضو مؤسس للجامعة، فجاء التعريف كالتالي )العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية وملتزم بميثاقها( وهو تقرير للواقع، وان كان ذلك لاينفي أن غياب النص على الهوية العربية لافتا ومقصودا ويشير الى الهدف بوضوح. وها نحن نرى الأمر يتكرر أيضا في حذف الهوية العربية في الدستور المقترح في سوريا.

 العروبة هي القضية

ان الهوية هي المشكلة، وهي المعضلة التي تواجه كل المتربصين بالأمة، وعلى الجانب الآخر هي واحة الأمان والأستقرار لأهل المنطقة من العرب. ان القومية هي سلاح الأمان، وهي السبيل للتنمية والبناء ولأقتحام المستقبل بكال آماله العراض.أنها الدور الذي تقوم هذه الأمة من خلاله بالتأثير على المستوى الأقليمي والدولي، وقد كانت حتى وقت قريب جزءاً فاعلاً في حركة التحرر العالمي.ان القومية هي المظلة التي نسجتها عوامل الجغرافيا والتاريخ، ومشاعر الهوية الجامعة هي التحدي الحقيقي الرافض لكل المشروعات الأستعمارية التي اريد فرضها على المنطقة تحت مسميات مختلفة حتى من قبل الحرب العاليمة الأولى، وقت ان عقد مؤتمر كامبل بانرمان باعتبار ان الخطر على الأستعمار يكمن في وحدة هذه الأمة. سألت ذات مرة الراحل الكبير احمد بهاء الدين عن تفسيره لموقف توفيق الحكيم وهو رجل يعد في طليعة المفكرين وليس الروائيين فحسب في كتابه )عودة الوعي( فقال )انك تخطئ خطأ كبيرا ان تصورت ان توفيق الحكيم او عبدالوهاب او نجيب محفوظ وكل هذه الأسماء أنهم )أفراد( وأضاف هم بالتأكيد )أفراد، ولكنهم اصبحوا ذوي شهرة ومكانة تصنع من كل منهم مؤسسة قائمة بذاتها( ثم استطرد فقال )وبعض المؤسسات وليست كلها تستشعر مهب الريح واتجهاتها، ولذلك تحب أن تثبت مكانتها في الأوضاع الجديدة(. ترى هل أصبح السيد عمرو موسى مؤسسة تستشعر بدورها مهب الريح واتجاهاتها ؟ وهل يمكن ان نفسر تصريحه الأخيرة بانه رسالة مفتوحة الى من يهمه الأمر باعتبار انه أصبح مؤهلا بـ)عودة الوعي(!!؟

ان لم نتحدث في التاريخ والقومية ففي ما نتحدث ؟
ان لم نتحدث في التاريخ والقومية ففي ما نتحدث ؟