صديقان… أكثر من شبه

معن بشور

فيما كنا نودع الصديق الحبيب رغيد الصلح إلى مثواه الأخير في مدافن الشهداء في بيروت، كنت أتذكر صديقاً حبيباً آخر فقدناه في مثل هذه الأيام قبل 15 عاماً، هو الروائي الكبير مؤنس منيف الرزاز، الذي جمعتنا به ولسنوات طويلة علاقة حميمة لاسيّما في أواخر السبعينيات من القرن الفائت وأوائل الثمانينات، حين أقام في بيروت وفي منزل الصديق المشترك الأستاذ بشارة مرهج لأسابيع عديدة في واحدة من أصعب مراحل حياة الروائي الكبير…

وجدت بين الصديقين الكبيرين أكثر من وجه شبه، لا ينحصر فقط في كونهما من أعزّ من عرفت بصدقهما ومودتهما وحساسية شخصيتيهما، وإنما في جوانب عديدة.

فرغيد ومؤنس كانا مميزين، في العطاء الفكري والبحثي عند رغيد، والعطاء الأدبي والروائي عند مؤنس. كلاهما كان مبدعا في مجاله.

ورغيد ومؤنس كانا من الجيل الأكثر أملاً، والأكثر خيبة، في وقت واحد، ولكن ذلك لم يقدهما الى اليأس بل الى المزيد من العطاء الفكري والأدبي حتى أمكن القول أن رغيداً بات من أبرز الكتاب والمحللين العرب، فيما أصبح مؤنس من المع الروائيين والأدباء، مما يؤكد أنهما رغم كل ما واجهاه من مصاعب، وربما أهوال، بقيا يعطيان حتى النفس الأخير والعطاء لا يستقيم مع اليأس.

ورغيد ومؤنس كانا متشابهين في روحهما الساخرة من أحداث وأشخاص مرّوا بهم أو مروا بهما، فكلاهما ذو سحر خاص لا يعرف طعمه اللذيذ إلاّ من يعرف الرجلين جيداً.

ورغيد ومؤنس عاشا مرارات كثيرة في حياتهما، لكن كل تلك المرارات لم تستطع أن تطمس في الرجلين عذوبة متدفقة، وفي شخصيتيهما حلاوة لا يمكن أن يلغي طعمها ومذاقها الغياب سنوات أوعقود.

كنت أقول العيش مع رغيد رغد، والحياة مع مؤنس أنس، حتى غاب عنا الرجلان رغيد منذ أيام ومؤنس منذ 15 سنة.

رحم الله الصديقين الغاليين وقد عرفنا معهما معنى الأخوة والصداقة والصدق والشفافية والتميز والإبداع.

معاني الوداع الحاشد

الأعداد الغفيرة التي احتشدت مودعة رغيد الصلح في جنازته أو التعزية به من رؤساء، ومرجعيات روحية، ووزراء ونواب حاليين وسابقين، وقادة أحزاب وفصائل وهيئات أكاديمية ومدنية، لبنانية وفلسطينية وعربية وممثليه، ومن سفراء ومثقفين وإعلاميين وفنانين ومناضلين ومواطنين، كانت شهادة جديدة على الشخصية الودودة المحبة الرصينة للراحل الكبير، كما كانت شهادة جديدة على أن الوطنية اللبنانية الجامعة العابرة للطائفية والمذهبية والمناطقية، مازال لها مساحة واسعة من التأييد بين اللبنانيين، تماماً كالعروبة الحضارية الديمقراطيةً التي أمضى رغيد الصلح وأقرانه الأحرار العمر في النضال الفكري والسياسي والشعبي والميداني وهم يحملون رايتها، والتي يتضح اليوم ان الحرب المستمرة ضدها كانت مقدمة لكل ما نراه اليوم من مشاريع تدمير وتفتيت وغلو وتوحش تستهدف أقطارنا ومجتمعاتنا وجيوشنا وتراثنا وعقائدنا.

لقد أحيا رحيل الحبيب رغيد، فيما رافق تشييعه والتعزية به، في نفوسنا أملاً كان يحرك رغيد في كل حرف كتبه، وفي كل خطوة خطاها.

الرحمة لروح رغيد الجامعة وعهدا له اننا مستمرون في السير على نهجه الوحدوي الديمقراطي الحداثي المنفتح.