ربيع الأتات في مفاتيح بلاستيكية للجنة

لارا ملاّك

يدخل ربيع الأتات الصّورة، وهي عنده مطابقةٌ للمعنى، وللتّفاصيل في تعابيره لونها الخاص. فهو يحمل قلمه ويبحث، وبحثه مضنٍ آخره يقين أو احتمال حقيقته. لكن الأهم أنّه يجمع المحسوس الّذي يتلقّفه وهو ممتلئ الحواس، مع الجمال النّقيّ الّذي يبثّه كلٌّ من العقل والذوق في الورق.

وفي هذا الدّيوان عناوين مهمّة تكشف عن وجهة المعنى في التّعبير، منها:

المسافة

المسافة الحقيقية مرّة تضيق لكن يغزوها المعنى أي الضوء، ومرّة تتسع لكن قد يكون اتّساعها مظلما.

المسافة المبتكرة، الّتي يضعها الفنانون، أو لعلّهم يشيرون إليها ويتنبّهون بإحساسهم ورهافتهم إلى وجودها. وهذه المسافة غالبا ما تكون أكبر منهم لأنّها تتخطّاهم وتتخطّى وجودهم.

والمسافة بين الأصابع المتشابكة على صغرها، فسحة حريّة. كأنّه المتنفّس للأنا حين تتشابك مع الآخر وتمسك به عاطفيّا. يختصر ربيع كلّ ذلك بلعبة الأصابع التي تتحرّك مرّة لتعانق، ومرّة لترسم، ومرّة لتلهو، ومرّة لتلتصق بالحنين وهو أكثر المسافات التصاقا بالذاكرة والهويّة. الأصابع جزءٌ من حركة اليد التي تصير قابلة للانفتاح والمرونة لتصير مفتوحة على الإرادة والأفعال. من هنا، لليد انزياحٌ مهمٌّ عن معانيها التي ألفناها في الكتب والنّظم التقليديّ. إنها التّعبير الصّريح عن المكان الّذي تتّخذه الرّوح، والخير الّذي تنطلق فيه الرؤيا.

ويحيلنا هذا المفهوم أو هذه المفاهيم المتعدّدة، إلى تحديد النظرة في الفراغ. لا فراغ في المسافة المطروحة هنا، بل في العدم المتمثّل بالظّلام. إنّه الفقدان حين تصغر الحياة وتستحيل موتا وانقضاء. ويشير هنا إلى الرّمل في رمزيّته المشيرة إلى حركة الوقت، كأنّ الوقت جنازةٌ عظيمةٌ في كلّ نهاية منها تدفن جزءا من الحياة. والدّرب فيها ملطّخةٌ بنبيذٍ وبسكرةٍ أو بدم إله. وحين يحلّ الموت ينحسر التيه، وتجد الرّوح وجودها الحقّ. لا نعلم هنا إن كان الموت بسوداويّته فراغا أم أنّه حتميّةٌ أخيرةٌ أو حتّى وحيدة. تضيع فجأة ثنائيّة الحياة والموت، ويتّحد المفهومان في خطٍّ مستقيم، ولا نلمس أيّ موقفٍ للشاعر الّذي لا يرفض الموت كما لا يرحّب به، بل يوصّفه باعتباره انتماء ومنزلا نعود إليه.

لعبة الحواس والحقيقة

ترى الضّوء في الكتاب بدلالاته العلميّة أو بحقيقته وانعكاسه عند التلقّي. الشعريّة هنا تقارب الحقيقة، فالصورة تنزاح عن الّذي نراه وندركه بحواسنا لكنّها لا تنزاح عن الحقيقة. الضّوء مثلا بلا ظلّ، وظلال الأشياء تتشابك وإن كانت الأشياء في الحقيقة متباعدة. كما أنّ الظلّ يخلو دوما من تفاصيل، هي الصّورة الصحيحة الّتي لا تعرى إلّا في النّور. وحركة الظلّ مستمرّةٌ مع الحركة اليوميّة للإشراق والغروب، وبما أنّ الشّمس ثابتةٌ ونحن المتحرّكون يبدو إذا أنّ صورتنا هي المتغيّرة والمتفاوتة، في حين يبقى النور ثابتا.

هكذا يكون البحث في تفاصيل الصّورة ومحاكاة المشهد في الوجود، للمقارنة بين المتغيّر والثابت. النور والحقيقة ثابتان، أمّا كلّ ما عدا ذلك فهو ظلٌّ عابرٌ بلا لون.

المادّة

المادّة لا تكتمل إلّا باثنين، معناها وأصلها. أصل السّرير خشبةٌ مقطوعة، والقطع دليل فقدان وانقطاعٍ عن الطبيعة الأم، عن الأصل. السّرير شجرةٌ تركت المشهد الطبيعيّ ودخلت مشهدا لتُقحم نفسها فيه إقحاما، هو مشهد الجدران في الغرفة. قد يبدو لنا المشهد مألوفا، لكنّ الشّاعر يفرّغه من ألفته واتّساقه. السّرير نصفٌ فارغٌ، بينه وبين الحائط من يعبر على تجاعيد الذّاكرة، ولكن ما من أحدٍ ينفض الغبار الّذي يشبه الموت هنا بعدميّته لا بسكينته. إنّها الوحدة تذكّر السّرير بأنّه كان حيّا يوما ما. هكذا نعود إلى أصل المادّة وهو الرّوح. إنّه حنين الجماد إلى الحياة وحنين المشهد إلى الحركة والفرح، يصير الحنين عندها وجوديّا لا يختصّ بحالةٍ فرديّةٍ بل يشمل حركة الزّمن، فكلّ شيءٍ ماضٍ لكنّه يبقى أثرا عميقا في الذاكرة والرؤيا.

الزمن

الأمس هو الزّمن الأكثر دلالة، لأنّه الأكثر اكتمالا. الذكرى مكتملةٌ ولكنّها تفتّش عند جديد، تشرّع الأبواب للوقت القادم، للمشاهد الآتية. نجد الأبواب مفتوحة على الوداع، أو موصدة يحلم المقيّدون المتعبون بفتحها وتخطّيها، بذلك يصير ثقب الباب منفذا للرّحيل أو طريق أملٍ وضوء. إنّها علامات العبور من الأمس إلى الغد، من الحبّ إلى الرحيل، ومن الداخل إلى الخارج المضيء الحيّ.

التواصل والتفاصيل

يقيم الشاعر تواصلا وجوديّا مع المشهد الّذي يندمج به بكلّ حواسّه. تظهر أحيانا الأنا بصورةٍ قويّةٍ كثيفة، وأحيانا تكون متفرّجا يحاول تحليل ومقاربة العناصر وربطها، لكنّها تبقى هناك بجميع الحالات تحدّد أواصر الارتباط وتفكّك العناصر والتفاصيل وتحيلها إلى معناها. على شاطئ البحر مثلا، تكون الثنائيّة بين الأنا وكأس الشاي، وبينها وبين جميع الموجودات الجامدة الّتي تشبه بثباتها الحزن. قوّة البحر تحدّق بالحزن ساكنة هادئة، ومع كلّ تفصيلٍ تشمّ ذائقتك الشعريّة رائحة الموت تفوح من صورة البحر. الخيال يأخذ مداه ويرجع إلى حركة الماء. ليس الميت هنا سوى الإنسان المشوِّه الأوّل للصورة، والمشوَّه بها.

الماء

تبدو المياه في كثيرٍ من المواضع من رؤى الشاعر رديفة للحياة. الناس سطورٌ من الماء والصنّارة بيدهم، أي أنّ قوتهم في المياه. قعر البحر ترابٌ مثلهم، وكلّ ما هو فوق الماء ماءٌ أيضا. الشفق ينتهي إليها والورد والندى والنورس وانعكاس القمر في البحيرة والرحلة وقوس قزح ولون السّماء، جميعها إلى الماء. أمّا النهر، فتضجّ حركته كطنين نحلةٍ تعمل لتنتج الحياة دوما.

إنّها عناصر الكون ومعناه ينضح بها النصّ، لتكشف معرفة أعمق بوجودنا.

الرجل العجوز

بين المعاني المطروحة هنا وهناك، والانزياحات اللغويّة الّتي يبرع بها الشاعر، يمرّ عجوزٌ مرّة بعد مرّة. هو الرجل الحزين المغلوب الذي لا إرادة له في الحركة القائمة والتفاعل الّذي نحسّ به في الصّورة. العناصر تتحرّك وتتفاعل ويقوم بينها تأثيرٌ وتأثّر، والعجوز ليس فاعلا بينها بل يقع عليه الفعل. تتسلّل العاطفة الحزينة إذا، ويظهر الانهزام.

الأحاديّة والثنائيّة

من الصور البسيطة والكثيفة الّتي تقرع باب التركيب في بعض قصائد هذا الديوان الأرقام، فالانزياح في الصورة يشمل العدد. العجز طفلٌ بقدمٍ واحدة وصمتٌ مزدوج، والأنا اثنان جسدٌ وكوب شاي، والوحدة واحدةٌ والحلم يتكرّر. وفي قصيدة »مفاتيح بلاستيكيّة للجنّة«، يحضر العدد بشكلٍ جليٍّ أكثر، مثلا الإله والشيطان اثنان، ليسا واحدا من حيث المفهوم هنا، لكنّهما معا وإن لم يلتقيا، تكون الثنائيّة تلازما في الوجود اختلافا في الاتّجاه. وهذا ما يسجّل اختراقا للتقليد في التعبير.

لعبة الرقم هي لعبة الموت والحياة، ومقابل العدد الذي يولد عددٌ مطابقٌ يموت. تغيب الفرديّة في الصورة، في إشارةٍ إلى الظلم اللاحق بالفرد الفاقد لهويّته وفرادته إزاء العدد. والانزياح في صورة العدد انزياحٌ عن اليقين التقليديّ، فالرّقم حقيقةٌ يقينيّةٌ دوما تحدّد النتيجة العلميّة بدقّة. ويكون هذا التقلّب في الطرح دفقا عاطفيّا يبحث عن حقيقةٍ أبعد، ولعلّ الشعور هو الأقدر على التقاطها لأنّه يدخُلُها من الجانب الأقرب إلى البداهة، أي اليقين الأوّل الخاطف الّذي يخترق الحقائق ويفهمها بباطنه، غير أنّه نادرا ما يجيد التعبير عنها. البحث عن الحقيقة باختراق رمز اليقين أي العدد، جماليّةٌ تجعل للنصّ بعدا معرفيّا وجماليا معا.

الحياة والطبيعة

يقول الشاعر »الحياة حشرةٌ تموت في شبّاك عنكبوتٍ ميت«، ولا نعلم هنا هل تطغى الحياة حقّا، وهل القصد التعبير عنها ومحاولة إدراكها أم أنّ الموت هو المفهوم المطلوب الإضاءة عليه. نرى الحياة المشهد الأكبر تنضوي تحته المشاهد الصغرى، كأنّها حيواتٌ عديدةٌ كثيرةٌ كثيفة في حياةٍ كبرى واحدة. العنكبوت أحدها، ودود الحرير، والذئب، والديك، والدبّ… كلٌّ منها حركةٌ مختلفة في المشهد الحيّ الأعظم، جميعها تفاصيل تُحاك منها الحكاية الكونيّة.

العينان

نافذتان تطلّ من خلالهما الرّوح من الجسد لتبصر أبعد منه، لتتحرّر الرؤيا ويتحرّر البصر، الحاسّة هنا أبعد من الإدراك الآنيّ الواعي، إنّها إدراكٌ روحيٌّ لما هو أسمى. العينان ثقبان في تمثالٍ من طين. الطين تمثالٌ بلا حركة باستثناء العينين، الحركة الثاقبة تصيب المعنى المعرفيّ.

الجنّة والجحيم

الجنّة هجرةٌ من جسدٍ وعدم، رحيلٌ محيّرٌ من الأرض إلى السماء، ولكن من فصل بينهما أصلا؟ من جعل للكون موطنين؟

الربّ في الجنّة متشنّجٌ أو في المعبد مقامر، أو في الحروب يلوّن الكون بالرّماد.

يعبّر ربيع الأتات عن حال الشرق وحال المجتمعات في هذا العصر، ويتحدّث عن الشكل المشوّه للإله في بصيرة التكفيريين ومن يعلن الحروب باسم الله. يصير الإله والشيطان في إطارٍ واحدٍ يجمعهما الاتّجاه والسّقوط. يصير الغضب الإنسانيّ الصادق الّذي يؤمن بالإنسان وبالحياة متّجها بحركته صوب السماء، كأنّه يبحث عن هذا الإله الخطّاء ليرديه.

السماء والكتب والكلام الدينيّ تجتمع جميعها في صورة الضجيج الذي تعانيه الأرض، أمّا المتسوّلون فهم هناك في الشوارع ينقذهم عمود الإنارة من الظلمة.

ويقول لنا الشاعر لا تقرأوا، بل اكتبوا، لا تكتسبوا الموروثات المشبوهة من الكتب، بل عبّروا وتحرّروا من العفن. لا بدّ من هدم المعابد لرؤية الشمس، والمعبد هو المعتقدات اليابسة التي تهدم الإنسان بدلا من أن تبنيه. لا يمكن هنا أن ننظر من النافذة إلى الشمس لنرى الضوء، ليس الشبّاك حلا أو حتّى نصف حلّ، بل تظهر الطريق في الهدم وإعادة البناء فقط.

يضيف، لا شيء في السماء غير السماء، لا إله هناك ينظر نحوكم. وينتهي من الجنّة إلى الجحيم، والجحيم نهاية من يحفر السّماء. ينزاح الحفر عن معناه كما نلاحظ ليطال السماء، الحفرهنا حفر الفكر والعبث به وبقدسيّته، إنّه تهشيم المدى والأرض. إذا الجنّة التي يؤمن بها الناس هي في النصّ مزيّفة، لذلك هي في لبّها جحيم.

الليل

يشبه الليل لونه، مظلمٌ ووحيد. هو فكرةٌ سوداء الثوب لها قمرٌ ونجوم، وهو أيضا الإنسان بصوره وحالاته العاطفيّة. الليل مساحة الألم للمتألّمين، وهو الخائن الذي يلقى مصيره تحت أشعّة الشمس تحت مجهر الحقيقة التي تنهيه.

الليل أسود، لكن الظلمة ليست غياب النور، بل غياب الوفاء والراحة والقيم، هو ليلٌ يجمع الوقت والمعنى والعاطفة.

الحريّة

تنضوي تحت هذا العنوان عناوين مختلفة، ومنها العبث والقدر والمستقبل. حجر النرد يتحرّك ليحدّد بعبثيّته المصير. الطريق تلتقي بالطريق وتلتقي يدٌ بيد، صورتان في خطّين متوازيين متشابهين حيث قد تكون اليد طريقا إلى الآخر.

قد يكون النرد عبثيا لكنّ خريطة القدر متى رُسمت وحُدّدت مسبقا، تصير الهداية والسير في الطريق المستقيم الصحيح أصعب. لعلّ الحدس طريق الخلاص، بلا خرائط وبلا طرقٍ يقينيّة. تصير الحريّة كثيرة، ويصير العجز كثيرا أيضا. الحريّة كثيرةٌ وقويّة، لكنّها صعبةٌ حتّى العجز. والأحلام قابعةٌ في فناجين القهوة موقع الأمل الوحيد حيث النفوس الحزينة تنتظر.

الانزياحات في هذا الديوان انزياحٌ عن الصورة السطحيّة التصاقٌ بالمعنى والصورة العميقة. الشعر هنا يتوسّل الخيال غير أنّه لا يهدف إليه، فالشاعر لا يتوخّى الخيال في التعبير بقدر ما يحاول أن يجانب الحقيقة.