…حكايات

سهير آل ابراهيم

أستُخدمت الحكاية عبر التاريخ لنقل فكرة معينة، او للدعوة الى ترسيخ قيمة او مفهوم ما. وكلما سُردت الحكاية بأسلوب شيق يشد القاريء، كلما علقت في ذهنه اكثر.

ليس بالضرورة ان تكون كل حكاية ذات قيمة ادبية او أخلاقية عالية، فهناك الحكايات التي تبثُّ أفكاراً سلبية وخاطئة، وهذه يعتمد تأثيرها على حصافة القاريء ورجاحة عقله وسعة مداركه. ولا يخفى علينا كم الحكايات التي تُروى على اساس انها احداث تأريخية، والتي يحمل مضمونها أفكاراً تؤلب قوماً على قومٍ آخرين، او طائفة على آخرى، ولا تكون نتيجة الاستماع اليها والاقتناع بصحتها الا العداء والتناحر بين اولئك الأقوام والطوائف.

في الازمان الماضية، قبل ظهور التقنيات الحديثة، وعندما كان التعليم في الغالب مقتصراً على ابناء الموسرين، كانت هناك شخصية الراوي او كما كان يسمى قديماً )القصخون(. كان الرجال يجتمعون في المقاهي، ويتحلّقون حول الراوي، الذي كان يأخذهم على اجنحة حكاياته الى عوالم سحرية تملأها البطولات والمغامرات المثيرة، وربما قصص الحب ايضاً!

لم ينطفىء بريق الحكاية في الزمن الحاضر، بعد ان غزت التكنولوجيا جميع مفاصل الحياة. ربما تكون شخصية الراوي قد اختفت بشكلها القديم، ولكن الحكايات لا تزال تدور، بل واصبحت تصل الى آفاق ابعد بكثير من حلقات المستمعين في المقاهي القديمة. وسائل التواصل الاجتماعي تساعد على إيصال الحكايات عبر القارات في غضون لحظات! اذ ينشر الكاتب حكاية على صفحته في الفيس بوك مثلاً، فيقرأها أصدقاؤه أينما كانوا في هذا العالم الواسع. واذا قام بعضهم بنشر نفس الحكاية على صفحاتهم، فسوف يقرأها المزيد من الناس، وهكذا ببساطة تنتشر بعض الحكايات كالنار في الهشيم!

لاحظت قبل فترة حكاية متداولة على الكثير من الصفحات، مع تغييرات بسيطة في كل مرة. تلك الحكاية تخبرنا عن رجل ذهب بصحبة زوجته واطفالهم لزيارة أهل الزوجة. وكان الاهل يسكنون على الجانب الاخر من النهر. ركب الزوج في القارب مع اطفاله، وعندما حاولت الزوجة الصعود زلت قدمها وسقطت في النهر. خافت من الغرق واستنجدت بزوجها كي ينقذها، فلم يفعل! أجابها ان مهرها لم يكن سوى كيسٍ من القمح )او الملح، او السكر… الخ، فقد اختلف محتوى الكيس باختلاف الصفحات(!

استطاعت الزوجة ان تخرج من الماء وتركب القارب بدون مساعدة الزوج. وعندما وصلوا الى اهلها، أخبرت والدها بالأمر، فلم يقل شيئاً. ولكن عندما حان موعد العودة، قال الأب للزوج ان يأخذ اطفاله ويذهب، وانه لن يسمح لابنته بالذهاب معه الا بعد ان يدفع مهرها مرة اخرى، وهذه المرة يجب ان يملأ الكيس بالذهب!

عاد الزوج الى بيته مع اطفاله، واحس بصعوبة رعايتهم بمفرده، واظن ان الحكاية ذكرت شيئاً عن اشتياقه لزوجته. جمع الذهب المطلوب بعد جهد جهيد وعاد ليستعيد زوجته. وفي طريق العودة سقطت تلك الزوجة مرة اخرى في النهر، فقفز الزوج مباشرة لانقاذها، وتذكر الحكاية ان قيمة الزوجة هذه المرة كانت اكبر، فقد ازدادت قيمتها بازدياد المهر المدفوع اليها، او فيها!

كان قول الأب في نهاية الحكاية يحمل المغزى والهدف منها، اذ قال الأب ما معناه انهم حين عاملوا الزوج بأخلاقهم لم يحفظ ابنتهم، ولكنه صانها عندما عاملوه بمثل أخلاقه!

حكاية بمنتهى الغرابة، لم اجد في طياتها اي شىء ايجابي، او قيمة تستحق التداول.

ذكرتني هذه الحكاية بزميلة لي في العمل، كنا نقول لها مازحين انها فنانة تشكيلية من نوع خاص. لم تكن تلك الزميلة ماهرة في قيادة السيارة في الشوارع المزدحمة، او رَكنها في اي مرآب مكتظ بالسيارات! ونتيجة لذلك، كانت سيارتها عبارة عن لوحة سوريالية مزينة بالكثير من الخدوش والتخسفات. بينما كانت سيارة زوجها بحالة ممتازة. كان الزوج مصاباً بهَوَس كرة القدم، إذ كان متابعاً حريصاً لكل المباريات التي تجري في ملعب المدينة، وملاعب المدن القريبة. كان يحضر المباريات حية في الملعب، ولأجل ذلك كان يستخدم سيارة زوجته، حرصاً منه على رونق سيارته وحفاظاً عليها مما قد يصيبها في حالة تركها بين الاعداد الكبيرة من السيارات خارج الملعب، فسيارة الزوجة ينطبق عليها المثل الشعبي )المبلل ما يخاف من المطر(!

المرأة في الحكاية التي ذكرتها كالسلعة التي تباع وتُشترى، فعندما كان مهرها قليلاً كانت كسيارة زميلتي، ليس لها قيمة تُذكر، وكان سهلاً على الزوج تركها تَغرق، اذ لم تكلفه الكثير من المال! ولكنه اصبح حريصاً عليها بعد ان دفع فيها مبلغاً أكبر، اي انها اصبحت عزيزة، كسيارة زوج زميلتي تماماً! أهكذا يُقَيّمُ الانسان؟ وهل تحمل الحكاية في طياتها تشجيعاً على غلاء المهور؟

و الغريب في الحكاية هو موقف الأب، فهو ايضا تعامل مع ابنته وكأنها سلعة، فرفع قيمتها مستغلاً حاجة الزوج لمن يرعى الاطفال! كيف يأمن والدٌ على حياة ابنته مع من امتنع عن انقاذها من الموت؟

اما الزوجة في الحكاية فهي مجرد امرأة سلبية، لم نسمع لها رأياً، ولم يُذكر لها أي موقف! بل لم يُذكر اي شىء عن مشاعرها خلال كل تلك المساومات.

و تبلغ الغرابة قمتها في العبرة من الحكاية؛ اذ تشجع القاريء على التعامل مع الناس بأخلاقهم لا بأخلاقه هو! قد يعني ذلك التخلي عن اخلاقه النبيلة وتبني اخلاق المقابل الوضيعة! هل تشجعني هذه الحكاية على سرقة مَن سرقني مثلا؟  أو أن اعتدي على من اعتدى عليّ؟ أن اردّ الاهانة بمثلها او اكثر، وان اظلم من ظلمني إن استطعتُ لذلك سبيلا؟!

الا يعني ذلك القضاء على الاخلاق الحميدة والقيم النبيلة، اذا ما تخلى عنها كل من يتحلى بها عند تعامله مع أناس على مستوىً أدنى من الخلق؟

تَصلُح المجتمعات عندما يكون لأفرادها تأثير إيجابيا على بعضهم البعض، وتفسد ان تغلب الشر فيها على الخير.

لم أكن لأهتم بهذه الحكاية لو مررت بها مرات قليلة، ولكني لاحظت تكرارها عبر فترة من الزمن، وقد تكررت على صفحات رجال ونساء من مختلف الاعمار. ولا أخفيكم سراً انني استغربت بشدة من تداول هذه الحكاية بين النساء. يا ترى ما الذي كن يرمين اليه من خلال ذلك؟

هنالك الكثير من الحكايات الممتعة، ولكني اعتقد اننا عندما نساهم بنشرها، من الافضل ان نتجاوز جمال السرد والتراكيب اللغوية، ونبحث عن المعنى الكامن ما بين السطور. يجب ان نحرص على نشر الأفكار البناءة، وان لا نساهم في انتشار اي موضوع يحمل عكس ذلك.