ثلاثون سنة على رحيل يوسف الخال

جاد الحاج

تصادف هذا الشهر ذكرى مرور ثلاثين سنة على رحيل يوسف الخال )جونيه، لبنان، 1987(. والكلمة الآتية مقطع من شهادة شخصية على أبوة الراحل ورعايته الجيل الجديد من الشعراء والفنانين.

 كنت أتلمس طريقي خارج الأنماط مسلوبا بالجديد والصاعق، هشاً وأخرق، وعلى الهامش الصحافي، من دون عمل، اللهم سوى التسكع وتلبس أدوار وركوب أوهام في بيروت الستينات، ألجأ كل مساء تقريبا إلى مقعد شاغر في مكتب أنسي الحاج، مرتاحا من فوضى المقاهي وحذلقة الطارئين والصعاليك والطواويس. حتى أنسي طالما تردد في تشجيعي قائلا: »التسكع بلا هم الكتابة أحسن لك«… كلا، لم تكن متعة العيش في أجواء الإبداع والبدع مفصولة عن مرارة التهميش. وذات مساء قرر أنسي انتزاعي من كرسيه الشاغر وسكب ماء الثلج على رأسي بقوله: »يوسف الخال سأل عنك. عنده شغلة ممكن تناسبك«. امتلأت أذناي بأجراس الرهبة. الرجل بطرك زمانه، يتوافد إلى حماه شعراء العربية من كل مكان، فما له ولشويعر خنفوس؟ غير أن حمى الفن أحرقت فيّ منبر المنطق. وكنت أحمل مجموعة قصائد ردها إلي ناشر بارد القلب وقال: »غير صالح للنشر«. وضعتها تحت إبطي وانطلقت غير آبه بالمصعد، محبوس الأنفاس إلى الطابق الخامس في بناية »التعاونية الصحفية«.

 كان مكتبه بسيطا يغشاه انضباط واختزال ونظافة. خلف كرسيه لوحة لغيراغوسيان. إلى يساره أخرى لشفيق عبود. وقرب النافذة أغلفة الكتب التي تولى نشرها عن »دار النهار«. وكانت بداية عصر النوعية العالية في طباعة وتوزيع وتقديم الكتاب العربي المعاصر. سيجارته مشتعلة ونظارتاه على جسر أنفه. وقف وصافحني. كنت أخفق بالرهبة وانقشاع الوهم، وما زلت حتى اليوم أذكر شدة أصابعه على يدي، كما يتذكر الجندي الغر طلقته الأولى بالذخيرة الحية.

»هل تقرأ الشعر العالمي بلغاته الأصلية؟«

إنه السؤال المفتاح، طرحه يوسف الخال ودافع عنه طوال حياته. كان يعتقد أننا لا نتصل بالعصر جزافاً، أو عبر الترجمات، وان اللغات الحية مصل ولقاح لا مهرب منهما لإحياء حركة الحداثة.

ثم سألني وهو يضع المجموعة في درجه. من دون تعليق على ما ادعيته من قراءات: »تحب سعيد تقي الدين؟«

 »جدا«.

»لدينا مشروع إعادة نشر مؤلفاته. بعض النصوص والمخطوطات في حاجة إلى تحقيق وملاحقة ونسخ. كثيرون هنا وفي الشام لديهم من سعيد رسائل مهمة، ولدى ديانا ابنته دفاتر وأوراق غير منشورة، هل تحب أن تلاحق هذا كله؟«

كنت بلا عمل فخلع عليّ مهمة ومسؤولية وحمّلني فوق طاقتي، كأنه يدفعني إلى التدريب والامتحان. قرعت أبواب أشخاص وشخصيات بعدما استقصيت عناوينهم وأرقام هواتفهم، متتبعا حل هذا وترحال ذاك. تخبطت كثيرا لكن من دون يأس. وتعلمت بصمت كيف أصحح أخطائي. وكنت أحمل غلتي إلى يوسف لتدقيقها وتحريرها. صبره الأقرب إلى الافتتان والمتعة أضفى بهجة على العمل ودفعني نحو أقصى المثابرة.

بقينا على اتصال. ورد يوسف قصائدي واضعا ملاحظاتٍ على كل بيت تقريبا. عندما رأيتها شعرت بالدوار، وهبط قلبي، إذ تبين لي حجم العمل الذي ينتظرني. سهرت منه الليالي ذاك الديوان الأول، وفي النهاية مزقته وأضرمت فيه النار. ولم أشعر بألم لضياعه لولا ضياع ملاحظات يوسف في المحرقة. ثم اعتراني ندم أكثر حين خاب أملي فلم يعمل يوسف على قصائدي اللاحقة بالدراية نفسها، لكنه بقي متابعاً لمسيرتي.

في تلك المرحلة سممني عقرب السفر. كان قلقي كالوباء، أقرأ وأقرأ وتتكدس الكتب قرب وسادتي. وأتيه في النهار على المسارح ودور الفن والثقافة والغاليريهات وقاعات الموسيقى والسينما والمحاضرات والأمسيات الشعرية، إضافة إلى مقابلات ولقاءات مع كل من يعمل في الإبداع العربي. وبعد كل جولة كنت أعود إليه، إلى بيته أو مكتبه. وكان يمنحني وقته واهتمامه ويسألني بالتفصيل عما شرد وورد. ثم جئته ذات يوم مرددا قول بودلير: »إن المسافرين الحق هم وحدهم الراحلون من أجل الرحيل، قلوبهم بالونات خفيفة، وبلا حجة يهتفون دائما: هيا!«، قلت إنني طافش مع الريح. فلم يستخف عزمي. بل زودني رسائل توصية إلى أصدقائه في أوروبا وودعني متمنيا لي متعة التجربة في دروب السفر.