قضية للمناقشة حول رجال مبارك.. من هم ولماذا؟

هل يعطي حكم البراءة لمبارك من قتل المتظاهرين صك نزاهة الحكم.؟

لندن ـ أمين الغفاري

تثار بين وقت وآخر قضية مفتعلة وتبحث عن الأثارة والضجيج الأعلامي أكثر منها قضية حقيقية بما يدخل وعن جدارة الى منطق الأرهاب المعنوي، وهي قضية رجال مبارك، التي تشهرها بعض قوى المعارضة، وأن الباب قد فتح امامهم لتولي المناصب القيادية بما يعني )عودة نظام مبارك للحكم من خلال رجاله( والسؤال المباشر هل لمبارك رجال بشكل حقيقي لهم توجه سياسي؟ بل هل لمبارك عقيدة ايديولوجية أساسا يمكن ان يكون لها اتباع او حتى مريدون؟ بالتأكيد لا، فلم يكن مبارك رجل ايديولوجية، أو حتى له اهتمامات بالثقافة أو السياسة بشكل عام. نذكر تصريحاته حول ظروف اختياره ليكون نائبا للرئيس وقوله )كنت اظن ان الرئيس انور السادات سوف يختارني لأكون سفيرا في لندن، وعلى ذلك أتفسح شوية !( ووصفه للرئيس السادات بعد ان اصبح نائبا له بقوله )الرئيس السادات جامعة أتعلم منها !( ورده على الكاتب الصحفي الراحل محمود السعدني حين قال له في لقائه الأول معه )تذكر ياريس انك تجلس على الكرسي الذي جلس عليه محمد علي وجمال عبدالناصر فرد الرئيس مبارك قائلا : ان كان عاجبك الكرسي خده !( ثم في احد اللقاءات الصحفية وقف الكاتب الصحفي أو شيخ الصحفيين حافظ محمود في مداخلة مع الرئيس، وهو اول وكيل للنقابة عام 1941 وصاحب أول بطاقة عضوية، وتولى موقع النقيب لأربع دورات متعاقبة، وحين فرغ حافظ محمود من مداخلته سأله الرئيس مبارك عن اسمه، وموقعه في الصحافة، فتناثرت الأبتسامات على وجوه الصحفيين ان لم تكن الضحكات في القاعة، وان كان البعض قد عاب على مستشاري الرئيس بأن واجبهم أن يهمسوا للرئيس باسم المتكلم وموقعه، فهم أدرى ولايتركون الأمر له فيتورط في رد أو سؤال يكشف عن عدم معرفته أومتابعته لآراء ومقالات الكتاب والمثقفين ورجال الصحافة لاسيما وان

الرئيس الأسبق حسني مبارك  كان رئيسا ولم يكن ذا فكر له مريدون
الرئيس الأسبق حسني مبارك كان رئيسا ولم يكن ذا فكر له مريدون

كان لبعضهم تاريخ طويل. في مشهد آخر كاشف لتلقائية مبارك وعدم عمقه لما يرى ويسمع في ذلك اللقاء الذي تم في معرض الكتاب مع المثقفين عام 2005 حين وقف الراحل الدكتور محمد السيد سعيد وكان باحثا في مركز الأهرام للدراسات السياسية والأستراتيجية وناقش الرئيس مبارك عن بعض الحقوق والحريات العامة وقال له انها لو تحققت فسيدخل بها التاريخ، وكان رد الرئيس صادما )أنا لا عايز أدخل التاريخ ولا الجغرافيا !(. أما الأدهى والأمر فذلك الذي رواه الأستاذ هيكل من أن الرئيس مبارك قال له في لقاء معه )أحنا كنا فاكرين أن عبدالناصر هو اللي عمل لك شهرة أتاريك انت اللي عملته زعيم !( ورد عليه الأستاذ هيكل )من قال لك هذا الكلام؟ فرد قائلا انه أنيس منصور( فقال له الأستاذ هيكل )أرجوك لا تردد مثل هذا القول مرة ثانية لأنه قول لا يليق ولايصح، وليس في مقدور أي كاتب مهما كانت قدراته أن يصنع بطلا أو زعيما، لأن الأبطال والزعماء تصنعهم الشعوب وليست وسائل الأعلام مهما بذل فيها أو صرف عليها أو كانت كفاءتها(. ذلك عن الرئيس الأسبق مبارك واهتماماته الفكرية والثقافية فضلا عن ان تكون له ايديولوجية أو له مريدون أو حواريون.

من هم رجال مبارك..؟

ان الذين تحلقوا حول مبارك، وكانوا عاملا رئيسيا في فساد حكمه هم اصحاب المصالح، الذين طوعوا سلطة الحكم لمآربهم، ومن ثم ظهرت الطبقات الجديدة من الأحتكاريين لبعض أنواع الصناعات، والذين استفادوا من نهب الأراضي بأثمان رمزية، ودواعي استثمارات وهمية، واستخدموها في بناء بعض المدن السياحية، وقد أدين فيها وزير الاسكان الأسبق وكان ظهور جمال مبارك ذروة زواج السلطة برأس المال، وأصحاب المصالح يوجدون في كل العهود اذا وجدوا منافذ لهم لتحقيق مصالحهم، لذلك لا يمكن وصفهم بأنهم رجال مبارك وحده، فولاؤهم موزع لمن يرعى هواهم، ويحمي طموحاتهم، ويحقق أطماعهم وحماية اي عهد منهم في ضمان حكم القانون بالأضافة الى نزاهة الحكم.

هناك ايضا من تعاون مع نظام الحكم في عهد مبارك، ولكن ليس للأستفادة أو للحصول على مغنم، ولكن برغبة حقيقية في الخدمة العامة، وهؤلاء مع سقوط النظام لم تلحق بهم شائبة ولم يمثلوا أمام المحاكم، ولم يواجهوا أي أحكام للقضاء بل انه حين تم التحقيق معهم حول دخولهم المادية قدموا كل ما يفيد على شرعية أموالهم ومنهم وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني والدكتور مفيد شهاب، والجدير بالذكرأن الدكتور شهاب لفت نظر المحققين أنه يملك أكثر مما هو موضع تحقيق، وقدم لهم سندات ملكيته ومصدرها، وكان الدكتور شهاب هو نجم استرجاع )طابا( كرجل قانون مع غيره ايضا ومنهم الراحل الدكتور وحيد رأفت. هناك ايضا النجم اللامع في العلوم السياسية والعميد الأسبق لكلية الأقتصاد والعلوم السياسية الدكتور علي الدين هلال، وأذكر وكان مسؤولا للأعلام في الحزب الوطني انه في احد البرامج الحوارية )البيت بيتك( كان محاوره الراحل الكبير ضياء الدين داوود رئيس الحزب الناصري حينذاك، وقد تولى توجيه الأتهامات لنظام مبارك وللحزب، وحين تولى الدكتورهلال الرد فاجأ الأستاذ ضياء ومقدم البرنامج بل والمشاهدين بالقول )انني أتفق معك في 90% من كل ما ذكرت من أخطاء أو مثالب( وعليه فالأمر يقتضي التعاون في الأصلاح، وقد لعب الدكتور هلال دورا رئيسيا في تشكيل )لجنة السياسات( من خيرة المثقفين والباحثين، وليس ذنبه أو جريرته انها لم تحقق الأمل منها أو انها جنبت حيث لم يؤخذ بما قدمت وأشارت.

اذا رجعنا بالذاكرة الى ثورة يوليو عام 1952 فنجد أنها لم تجمع، وتضع الجميع في سلة واحدة، ولذلك نجد ان اول رئيس وزراء للثورة كان علي ماهر باشا أحد أعمدة الحكم في عهد فاروق، وكان صلاح الشاهد هو كبير الأمناء في العهد الملكي وعهد الثورة، وكان سيد مرعي وزير الأصلاح الزراعي لسنوات طويلة في عهد الثورة بينما هو كان أحد أقطاب الحزب السعدي، وقد قامت الثورة بحل كل الأحزاب باعتبارها احزاباً فاسدة، ولكنها أيضا لم تجمع، ووضعت الكفاءة هي المعيار في الأحكام.ثم نجد أيضا أن ثورة يوليو 52 قد قامت بتغيير اسماء الشوارع التي تحمل اسماء رموز العهد الملكي مثل شارع )فؤاد الأول( وأطلقت عليه اسم )شارع 26 يوليو، واسم )شارع سليمان( وهو جد الملكة نازلي وأطلقت عليه اسم )شارع طلعت حرب( وهكذا في ما عدا )ميدان ابراهيم باشا( وتمثال له وهو يعتلي صهوة جواد، فقد حافظت عليه باعتباره يرمز الى العسكرية المصرية وانتصاراتها، فلم تحطم التمثال أو تغير اسم الميدان، مع انه ينتمي الى اسرة محمد علي. الأكثر اثارة ودهشه أن هناك من حاول حجب أم كلثوم لأنها غنت للملك وحصلت منه على )نيشان الكمال( لولا أن تصدى عبدالناصر شخصيا لذلك الأمر،

الدكتور مفيد شهاب: نجم لجنة تحكيم طابا   ورئيس منظمة الشباب في عهد عبدالناصر
الدكتور مفيد شهاب: نجم لجنة تحكيم طابا ورئيس منظمة الشباب في عهد عبدالناصر

باعتبارها أحد الرموز المهمة للقوة الناعمة المصرية.

المغزى من كل ذلك أن ليس كل من تعاون مع النظام في عهد مبارك يعد من رجال مبارك، فقد كانوا يخدمون الدولة المصرية، ولاعلاقة لهم بالأنحرافات التي حدثت، ويبقى أن من تورط في انحراف أواستغل أواستخدم نفوذا ومكانة وحقق مصالح لابد أن يدفع ثمن ذلك، وهو بيت القصيد، لكن لا يكون الأتهام مشاعا والحكم شاملا، وأن يوضع الجميع في السلة الواحدة.

الحكم ببراءة مبارك

يأتي بعد ذلك الحكم ببراءة مبارك من جريمة قتل المتظاهرين، ويقوم البعض بتصوير الأمر على انه يمثل صكا بالبراءة الكاملة لعصره وانه يأتي كما يقول فهمي هويدي ختاما )لمهرجان البراءة للجميع(. هنا يغفل كل المنزعجين من أحكام البراءة باعتبار أنها تضرب شرعية ثورة 25 يناير في الصميم وتصورها كما يردد البعض انها كانت مجرد مؤامرة ضد حكم نظيف. هنا ينسى صاحب هذا المنطق الشعار الذي رفعته معظم القوى الوطنية ان لم تكن كلها انها ضد المحاكم او القوانين الأستثنائية، وترتيبا على ذلك لم تشكل محاكم ثورة تنظر في أوجه فساد النظام وزواج السلطة برأس المال وكل عمليات النهب المنظم لثروات البلد وفي المقدمة منها بيع القطاع العام بعد تخريبه وظهور الطبقات الطفيلية والغاء الرقابة الأدارية والأنفتاح )السداح مداح( منذ عهد السادات وبروز عهد الأحتكارات، بالأضافة الى ارهاب الكلمة ومصادرة الرأي، ونذكر للدلالة العدوان الهمجي على الكاتب عبدالحليم قنديل حين تم اختطافه الى صحراء الهرم ليتم العدوان المبرح عليه، وتركه عاريا وسط الصحراء وقد ظهرت آثار العدوان واضحة على وجهه فاضحة عنف الأعتداء ودمويته حين عرضت لها جريدة )العربي(، او ايقاف الكاتب الصحفي الراحل جمال بدوي رئيس تحرير جريدة الوفد الأسبق والأعتداء عليه في الطريق العام بنبرة تهديديه ان لم يرتدع عن نقد النظام. كان هناك الرفض المطلق لأنشاء محاكم للثورة اكتفاء بالمحاكم الجنائية وتلك المحاكم بالطبع لها قوانينها وقواعدها وانضباطها وفق ما تحت ايديها من اوراق او وثائق.يضاف الى ذلك هذا التمدد الزمني وتعدد الجلسات وصولا الى الحكم ثم يأتي دورالأسئناف بعد صدور الأحكام ويلي ذلك الطعن امام محاكم النقض مما ادى الى هذا الأستغراق في الزمن ومرور كل هذه السنوات منذ قيام الثورة )25 يناير2011( حتى الآن، وتوالت أحكام البراءة ان قصرت الأدلة، وأحكام السجن أن ثبتت الأدلة، ولكن التعقيب على الأحكام يظل دائما وفق الهوى فهي تارة أحكام مسيسة تشهد بتدخل السلطة، وتارة أخرى أحكام عادلة تشهد بشموخ القضاء، مع ان الأمر في النهاية تحكمه الأدلة وشهادات الشهود.كان ضمن مبررات عدم قيام محاكم استثنائية للثورة أن الأموال التي تم تهريبها الى الخارج لن يمكن استردادها بناء على احكام من محاكم استثنائية بل لابد ان تكون محاكم طبيعية، ومع ذلك فاننا لم نر اموالا قد استرجعت أو ثروات قد استردت من الخارج، وان كان المهندس محلب قد قام باسترجاع بعض الأراضي التي نهبت في الداخل أو قيمتها في بعض الأحوال، اي ان النظام الحاكم الآن لم يتهاون أزاء عمليات السلب التي تمت.كان عدم وجود محاكم للثورة تدين وتعاقب هو الباب لسيل أحكام البراءة التي شاهدناها والتي يتفكهون عليها الآن باطلاق )مهرجان البراءة( مع انها نتيجة منطقية لأفتقاد المحاكم التي تحمل فكر الثورة وتوجهاتها وتتولى الحساب وفق المعايير السياسية وليست الجنائية. ان الثورات بطبيعتها لها تقاليدها الأساسية وأولها محاكم للثورة تحاكم باسم الشعب. لكن لابد من الأستدراك ان الثورة كانت ملامحها مختلفة تحمل شكل الأنتفاضة الهائلة أكثر من شكل الثورة المرسومة والمخطط لها، ولذلك فهي بلا قائد ولا برنامج..وحتى شبابها الذي قام بالمبادرة انقسم الى ائتلافات والى محاولة تشكيل احزاب، وظهر أكثر من مائتي ائتلاف وتنظيم، والبعض منهم انسحب من الحياة السياسية مع انتهاء دوره وباعتبار انه ادى واجبا في المشاركة ثم توارى، والبعض كان مخلصا في استكمال الدور، كما ان البعض الآخر راودته احلام الزعامة، واعتقد أنه بمشاركته في التظاهرات قد حصل على جواز السفر الى المجد وبلوغ صرح القيادة ان لم يكن الزعامة، ولاننسى ان البعض منهم قد تم تدريبه في الخارج، وارتبط بمخطط آخر. ناهيك عن بروز جماعات الأسلام السياسي ومحاصرة المدينة الأعلامية ودور القضاء، ويتسع الأمرمما لا تسمح به مساحة النشر، ولذلك تداخلت امور كثيرة ساهمت في خلق المشاكل والعراقيل لبلوغ الأهداف التي نادت بها الثورة.وعلى ذلك فان قتل المتظاهرين لم يكن هو ميلاد الثورة،

 د. علي الدين هلال: ساهم في تشكيل لجنة السياسات  التي ضمت باحثين وخبراء تمت تنحيتها تماما
د. علي الدين هلال: ساهم في تشكيل لجنة السياسات التي ضمت باحثين وخبراء تمت تنحيتها تماما

ولكنه كان لاحقا عليها، وللأسف لم يكن من واجبات المحكمة أن تبحث وأن تنظر وتدقق في أن نظاما شهد هذه الثورة التي اجتاحت عواصم الأقاليم ان لم تكن أقسامه ومراكزه ترفضه وتلفظه، وتهتف بضرورة زواله، نظام بهذه الكيفية الا يجدر ان يتحمل سياسيا ان لم يتيسر ماديا وجنائيا مسؤولية الضحايا الذين خرجوا ينددون به، وبتزويره للأنتخابات، وانتهاكه لحقوق طبقات تم سحقها فلاذت بالمقابر تأوي اليها، وبالمساجد تشكو ظلم الأنسان للأنسان. لم يكن من واجبات المحكمة ولامن وظيفتها أن تسيس أحكامها، وهي التي انيط بها الحفاظ على حرفية القانون واحكامه. نال مبارك البراءة، ولم يكن في الأمر مفاجأة، ولكن هذا الحكم ليس في مقدوره ان يعطي مبارك صكا بالبراءة في نزاهة الحكم، فالثورة بجموعها الغفيرة خير شاهد على رفضه وادانته.

كلمة قبل النهاية

ان مبارك لم يكن زعيما سياسيا خرج من صفوف الشعب لكي يقود حركة تحرير او حتى اصلاح، ولم يكن صاحب رسالة تنويرية أو صفحة نضالية يجمع الشعب من حوله، ولم يكن كذلك مفكرا ايديولوجيا له حواريون ومريدون يرفعون رايته او يجددون دعوته، ولكنه كان رئيسا استمرأ الحكم وجثم من خلال اجهزته ونظامه على انفاس الشعب وحوله منتفعون جمعت بينهم مصالح، ولذلك ليس لمبارك رجال، وانما كان له في بعض من حوله منتفعون، وهؤلاء ولاؤهم لمصالحهم وليس لرجل أو لحاكم، وحيث تتحقق المصالح يكون الولاء.ولم يعد الرجل في النهاية سوى صفحة من التاريخ كانت خاتمتها مأساة دفع بعض الشباب الغض حياتهم لوضع النهاية لها.لكن من الواجب الأستدراك أن الرجل كان احد قادة حرب اكتوبر، وقبلها كان قائدا للكلية الجوية التي قدمت للوطن نسورا حلقوا في سمائها حماية وصونا لها، وأيضا لم يهرب الرجل، وكان ذلك سهلا وميسورا له، وقال في خطابه قبل موقعة الجمل )لقد ولدت في مصر وقاتلت من اجلها وسوف أموت على أرضها( وقد صدق في ذلك وبقي ليحاكم على أرضها ويقول القضاء كلمته في كل عهده، وتلك ايضا تظل في رصيده مهما كانت آراؤنا الأخرى في سنوات حكمه، ويبقى التاريخ وحده بعد كل ذلك هو صاحب الكلمة الفصل في كل ما جرى.