التقارير الدولية تضعه في طليعة البلدان الفاسدة وجدل حول زواج المال والسياسة

محمد قواص*

استبشر اللبنانيون خيرا بالتسوية التي أنهت الفراغ الرئاسي التي أتت بالعماد ميشال عون رئيسا للجمهورية، واستبشروا خيرا مكملا من خلال تشكيلة الحكومة التي يرأسها الرئيس سعد الحريري، لكن المؤشرات الاقتصادية ما زالت تطلق علامات مقلقة، فيما التقارير الدولية تضع لبنان في مصاف الدول الأكثر فسادا في العالم.

وتكاد أبجديات الفساد أن تكون لغة مشتركةً ودودةً لدى الطبقة السياسية في لبنان. ويكاد أمر هذه الآفة أن يكون فضيلة تتناسل من أي حراك انمائي واقتصادي، وربما شرطاً له ومن قواعد إنجازه. وفي الجانب القدري لما هو علّة، يتعايش المواطن بعادية، تشبه ما هو من تقاليد البلد ومجتمعه، حتى لو عبّر بيأس عن تبرّم أو ضيق مما بات نهباً منظماً مقوْنناً تحميه طقوس الطوائف والطائفية.

يخبرني أحد وزراء الحكومة الحالية في لبنان ما يشبه قانونا داخل المشهد السياسي عام، اليوم وكل يوم. يقول لي: ˜كلهم ضالعون متورطون. وكأنه يستعير بيتا من قصيدة مظفر النواب حين أعلن يوما أن ˜لا أستثني منهم أحدا. ولا أعرف ما أذا كان تعبير ˜كلهم يشمل محدثي أو هو درع ينأى بالنفس به عما هو سلوك معروف من دواعي ˜الشطارة اللبنانية، أو من عدّة الشغل السياسي، طالما أن لا آليات أو قانون تنظم تمويل الأحزاب والبيوت السياسية في لبنان.

واللافت أن مسألة الفساد في البلد ليست همّا سياسياً يُدرج على جدول أعمال التيارات السياسة. فيما يغيب أمر مكافحة هذه الآفة عن الخطاب السياسي العام، كما عن قرارات الحكومة وتدابيرها، أو عن مشاريع القوانين التي تقدّم إلى البرلمان. وبينما لا تخلو ثرثرات العامة ومعلومات الدوائر المطّلعة من حكايات المحاصصة داخل مشاريع البلد، والتي يتقاسم ريعها ليلاً سياسيون متخاصمون نهاراً، فإن أعراض الفساد ومظاهر الثراء لهذا السياسي أو ذاك لا تنال من شعبيته ولا تهدد مستقبله المهني داخل مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية.

تحمي الطوائف فاسديها. قد تخرج بعض الأصوات من طائفة معينة للتلميح إلى فساد سياسي ينتمي لهذه الطائفة، لكن الغريزة الطائفية تخرج براثنها كلما صدرت تهم الفساد من منابر طائفة أخرى. ووفق هذه القاعدة يحظى الفساد في لبنان بمناعة عالية تشتد قوتها كلما اشتد ساعد الساسة وارتقوا في سلم الزعامة داخل الطوائف.

في عزّ التوتر بين معسكري 8 و14 آذار، لا سيما بعد الحرب الإسرائيلية ضد لبنان في يوليو 2006، التقيت بإحدى برلمانيات حزب العمل البريطاني، وكانت عائدة للتو من زيارة لها مع وفد زار بيروت ودمشق والتقى بالرئيس بشار الأسد في سوريا والرئيس أميل لحود في لبنان وجال على منطقة الجنوب اللبناني.

وأما وإن البرلمانية )كانت وزيرة قبل ذلك( المتأثرة حكماً بفولكلورية الزيارة ورواية من موّلها، فقد أسرّت لي بلهجة العارف أن حكومة بيروت هي حكومة فاسدة. كانت الحكومة حينها برئاسة فؤاد السنيورة وقد انسحب منها وزراء 8 آذار. كان أمر الاتهام غريبا، ذلك أن الممانعين الغاضبين أنفسهم قد كالوا لحكومة السنيورة ولمعسكر 14 آذار سيلا من الاتهامات تراوحت ما بين العمالة والخيانة دون أن يصدر أي اتهام بفساد وما شابه ذلك.

والحقيقة أن عمر الحكومة وظرفها السياسي وجمود أدائها والحصار الذي تعرضت له بسبب الانقسام اللبناني آنذاك لم يسمح لها ربما بالتورط بسلوك فاسد. لكني لاحظت بعد ذلك أن حزب الله وحلفاءه، ورغم ضرواة العداء بين المعسكرين، لم يتهموا خصومهم بالفساد، مكثفين هجماتهم على الجانب المتواطئ مع ˜المؤامرة الصهيونية ضد المقاومة. ولعل سبب هذا التعفف في استخدام سلاح الفساد هو ما نبهني إليه محدثي الوزير من أن الجميع ضالع متورط، وبالتالي لا طائل من استخدام الحجارة حين تكون بيوت الرماة من زجاج.

تختلف القوى السياسية حالياً بضرواة حول عناويين كبرى: سلاح حزب الله، الموقف من نظام دمشق، قانون الانتخابات، قانون الميزانية، خصخصة الكهرباء… إلخ. ومع ذلك لا يبدو أن هناك خصومة مصدرها ملفات الفساد. أنهى الساسة بسرعة قياسية القوانين الضرورية لتفعيل قطاع النفط في لبنان. خرج الدخان الابيض المتعلق بهذا القطاع من مداخن تسوية تمت من خلف ظهر رئيس الحكومة السابق تمام سلام بين الوزير جبران باسيل والرئيس نبيه بري. تساءل كثيرون، وبينهم الرئيس سلام، لماذا يتم الاتفاق بين تيارين سياسيين على مسألة تهم كل اللبنانيين. والأدهى أن مجمل الطبقة السياسية لم تعترض على التسوية الثنائية النفطية التي أثمرت داخل حكومة الرئيس سعد الحريري في بدايات عهد الرئيس ميشال عون ما أطلق عجلة القطاع النفطي في البلد.

لا شيء في هذا التفصيل يكشف محاصصة لإدارة هذا القطاع على الرغم من أن اللجنة المشرفة على هذا القطاع تتشكل ممن يمثلون المشهد السياسي العام. لكن الشارع في لبنان يفهم الأمر كذلك ويعتبره عادياً من ضمن منظومة تقل فيها الشفافية وتكثر فيها ثرثرة الكواليس.

والحقيقة أن الفساد أزمة ثقافية مرتبطة بالتربية التي اعتمدها المجتمع منذ ولادة الكيان اللبناني. فالخدمات التي يطلبها المواطن من الساسة وفق معايير تفضيلية ويعتبرها حقه وشرطه للولاء، هي أساس هيكل الفساد. فليس من حق من حصل على امتياز أو ˜خدمة أو وظيفة على أساس المحسوبية و˜الواسطة أن يطالب الطبقة السياسية بأداء أخلاقي مثالي. وبالتالي فإن فساد الساسة يوحي بفساد العامة ويمعن في ثقافته. ثم أن ترويج الخوف يجعل من المواطن مستسلما لزعامة زعاماته أيا كان مستوى نزاهة الزعامة وقماشتها.

تعليق : لا قوانين تناقشها الحكومة لمكافحة الفساد
تعليق : لا قوانين تناقشها الحكومة لمكافحة الفساد

وأما وأن البلد على أبواب انتخابات تشريعية فإن ˜السوق لا شك سينتعش من ذلك المال السياسي القادم والذي سيتعايش بحذاقة مع عملية سياسية يفترض بها أن تنتج المجمع التمثيلي البرلماني الذي يعوّل عليه أي إصلاح، بما في ذلك المتعلق بمكافحة الفساد.

والسخرية أن النضال للدفاع عن العناوين الكبرى كتحرير فلسطين والدفاع عن لبنان ومكافحة الاستكبار كما سيادة الدولة واستقلال قرارها والاحتكام إلى سلاح الدولة فقط.. هي أهداف أسمى وأرقى وأكثر استراتيجية في مصير الأمة ومسار البلد من جلبة التصدي للفساد. على هذا يتفق اللبنانيون. فالأمة داخل بركان مصيري منذ الاستقلال، ولن تتلهى في ما هو هامشي ليس متناً.

في دردشة لي مع أحد المواطنين اللبنانيين مؤخراً، أسرّ لي بغضبة من الجهة السياسية التي يناصرها وقد خيب أداؤها أمله. أفاض في شرح الاسباب والموجبات التي تجعله متبرماً من مواقف وقرارات ومقاربات لا تتسق مع ˜المبادئŒ السياسية التي شارك بالنضال دفاعاً عنها. وحين حدثته عن حكايات ˜البزنس وقصص العقود والصفقات وإشاعات الإثراء )المفترض غير مشروع( التي يقال إن هذه الجهة السياسية وغيرها متورطيون بها، لم يكترث كثيرا لثرثرتي ولم يفهم غرضي وراح يتابع بشغف توقه للدفاع عن لبنان المثالي الذي ما زال يناكف من أجله الخصوم.

لا ينفصل الفساد في العالم عن النظام السياسي الذي ينتجه، لا سيما في الدول الديكتاتورية أو تلك المتخلفة في نظامها السياسي. لكن الفساد في لبنان، حيث النظام ديمقراطي تعددي يرتبط بطبيعة الساسة والسياسة في البلد، كما بطبيعة العلاقة بين الفرد والزعيم وبين الحاكم والمحكوم. ولا شيء حتى الآن يشي بأن الطبقة السياسية الحالية ذاهبة إلى إصلاح النظام السياسي اللبناني على النحو الذي يضغط جديا على سلوكيات الفساد في لبنان. يبقى التعويل على ضغوط المنظمات الدولية وتقاريرها كما على التشريعات الدولية المكافحة للفساد. لكن التعويل أكثر سيتركز على منظمات المجتمع المدني اللبناني وعلى تفعيل الوعي داخل المجتمع نفسه بغية خلق حالة رقابة ذاتية تمنع انخراط الفرد بالفساد بما يشكل مناعة بامكانها منع مباركة النظامين السياسي والاقتصادي لأكثر الظاهر ضررا على تقدم الأمم.

صورة للحكومة اللبنانية

صورة نفط عامة

تعليق :

صورة للبرلمان اللبناني

تعليق : علاقة المواطن بالنواب استندت على ثنائية المحسوبية والخدمات

صور من البنك المركزي اللبناني

تعليق : هل السرية المصرفية مسؤولة عن حالات الفساد؟

صور لمظاهرات ˜بدنا نحاسب او طلعت ريحتكم

تعليق: أي وزن لتحرك الشارع لصد الفساد

مقاطع بارزة

تحمي الطوائف فاسديها. قد تخرج بعض الأصوات من طائفة معينة للتلميح إلى فساد سياسي ينتمي لهذه الطائفة، لكن الغريزة الطائفية تخرج براثنها كلما صدرت تهم الفساد من منابر طائفة أخرى. ووفق هذه القاعدة يحظى الفساد في لبنان بمناعة عالية تشتد قوتها كلما اشتد ساعد الساسة وارتقوا في سلم الزعامة داخل الطوائف..

والحقيقة أن الفساد أزمة ثقافية مرتبطة بالتربية التي اعتمدها المجتمع منذ ولادة الكيان اللبناني. فالخدمات التي يطلبها المواطن من الساسة وفق معايير تفضيلية ويعتبرها حقه وشرطه للولاء، هي أساس هيكل الفساد. فليس من حق من حصل على امتياز أو ˜خدمة أو وظيفة على أساس المحسوبية و˜الواسطة أن يطالب الطبقة السياسية بأداء أخلاقي مثالي. وبالتالي فإن فساد الساسة يوحي بفساد العامة ويمعن في ثقافته. ثم أن ترويج الخوف يجعل من المواطن مستسلما لزعامة زعاماته أيا كان مستوى نزاهة الزعامة وقماشتها..

صفقة ثنائية بين بري وباسيل فعّلت القطاع النفطي في لبنان
صفقة ثنائية بين بري وباسيل فعّلت القطاع النفطي في لبنان

ماذا يقول اللبنانيون عن فساد بلدهم؟

يعتقد 92 بالمئة من اللبنانيين أن الفساد قد ازداد بشكل ملحوظ حيث حل لبنان في المرتبة الأولى بين الدول العربية في ارتفاع مستوى الفساد في إدارته ومؤسساته العامة، بحسب مقياس ˜باروميتر الفساد العالمي 2016 وأعلنت عنه الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية الدولية-الفرع اللبناني لمنظمة الشفافية الدولية.

وفي حين يُنظر إلى مسؤولي الدولة، وموظفي الضرائب، وأعضاء البرلمان على أنهم أكثر الفئات فساداً في المنطقة )67% من اللبنانيين(، بحسب الدراسة، فإن النتيجة المذكورة أعلاه لم تكن مفاجئة بالنسبة إلى اللبنانيين المدركين لواقع البلد الميؤوس منه. فمن جهة البلد عاجز عن اتخاذ أي قرار مصيري في هذا الصدد ومن جهة أخرى المواطن غير قادر على تبديل الاحداث، وبالتالي تفاقم الفساد بشكل مضاعف في كل القطاعات من دون الأخذ بالحسبان نتيجة العواقب. لكن هذا الواقع ينذر بأخطار آتية لا بد من الإضاءة عليها للحد من الفساد، ولو أن الأمر يبدو كـمعجزة في بلد الإختلاسات والرشاوى والتهرب الضريبي والغلاء المعيشي والغش التجاري والتزوير والدعارة المحمية، مع ما يتخللها من صفقات مشبوهة واتفاقيات من تحت الطاولة لم تنل حصتها من الضجة الاعلامية بعد.

ويرى المتخصصون أن العنوان الاول في مكافحة الفساد يكمن في التوعية، وهم يعملون على إقامة دورات للتواصل مع الناس وخصوصاً الشباب. ومن خلال ورشات العمل هذه يتم التواصل مع أكبر عدد من الشباب بهدف قطع نصف الطريق للتأثير على المجتمع بأكمله.

ويضيف المتخصصون أن الاعلام هو الوسيلة الاكثر تأثيراً لنشر التوعية، من خلال حث الوسائل الاعلامية على الإضاءة على مواضيع الفساد في القطاعين العام والخاص لتنوير المجتمع، خصوصاً أن المجتمع المدني يتغاضى عن أمور عدة تخص المسؤولين الكبار لينالوا رشوة من هنا وهناك.

قطاعات الفساد في لبنان

– قطاع البناء: أي التلاعب بأسعار المعاملات الخاصة بالدوائر العقارية، إذ يتم خفض سعر متر الأرض بهدف تخفيض سعر الضريبة، وهذا الأمر له وزن كبير على مستوى تنظيم الاقتصاد اللبناني.

– القطاع الصحي: أي الفساد داخل شركات التأمين والضمان الصحي، وهو أمر خطير لأنه يخص صحة الناس وسلامتهم، كما أنه له دور هائل في ميزانية أي عائلة، وبالتالي ميزانية الاقتصاد اللبناني بشكل عام.

– قطاع التعليم: المدارس الخاصة أول مؤشر على الفساد في التعليم، إذ أن تعليم الطفل أصبح يكلف الملايين ويشكل عبئاً سنوياً على الأهالي.

وبالعودة إلى نتائج التقرير الدولية، أظهرت الدراسات أن مستوى الاستياء العام من القادة الفاسدين وأنظمة الحكم الفاسدة محرك أساسي للتغيير في المنطقة، وهو الشيء الذي تجلى بشكل واضح في ثورات الربيع العربي. وبعد مرور خمس سنوات، توصلت الدراسات إلى أن الحكومات لم تفعل شيئا يذكر من أجل إنفاذ قوانين مكافحة الفساد والرشوة، خصوصا ان بلداً كلبنان لم يقر لغاية اليوم قانون حق المواطنين في الوصول الى المعلومات، وقانون حماية كاشفي الفساد، كما أن الحكومة لم تعمل بما فيه الكفاية من أجل تعزيز الشفافية والمساءلة من خلال تعزيز حريات الأفراد والصحافة والمجتمع المدني وتفعيل دور أجهزة الرقابة في القيام بواجباتها لوقف الرشوة والفساد في ادارات ومؤسسات القطاع العام.

علاقة المواطن بالنواب استندت على ثنائية المحسوبية والخدمات
علاقة المواطن بالنواب استندت على ثنائية المحسوبية والخدمات

العرب والفساد

بحسب المسح الذي أجرته منظمة الشفافية الدولية والذي شمل حوالي 11000 شخص في تسع دول في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا فإن 61% يعتقدون أن مستوى الفساد قد ارتفع، أما عن نسبة الذين يعتقدون أن الفساد ازداد في الدول العربية، فهي على الشكل التالي: 84% في اليمن و75% في الأردن، مقابل 28% في مصر و26% في الجزائر. وأقر 77% من المستطلعين في اليمن و50% في مصر أنهم دفعوا رشوة لقاء خدمة عامة، مقابل 9% في تونس و4% في الأردن، في حين أن عدد الذين دفعوا رشاوى مقابل خدمة عامة أساسية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يمثلون 30% مما يعادل نحو 50 مليون نسمة.

السرية المصرفية والفساد

في مقال له في جريدة الاخبار اللبنانية يروي الدكتور حسين طراف أن نظام السرية المصرفية في لبنان لطالما شكل غطاءً لمن يريد القيام بعمليات تبييض الأموال. فقد تمتع هذا النظام بمزايا تُسهل القيام بعمليات تبيض الأموال والتهرب الضريبي، مثل الاستعمال الكثيف للنقد الأجنبي والتحويل دون قيد أو شرط وتجيير الشيكات عدة مرات والإيداع النقدي دون ضوابط وإمكانية فتح حسابات مصرفية مُرقمة… وهذا كله تحت غطاء من السرية المصرفية المُطلقة.

من ناحية أخرى، أسهم نظام السرية المصرفية في جذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية، وشجع على الاستثمار، ووفّر الثقة بالائتمان المصرفي، منعكساً بنحو إيجابي على مناخ الاستقرار الاقتصادي في لبنان.

تلقّى قانون السرية المصرفية في لبنان ضربات عدة في السنوات الأخيرة، جعلته يفقد الكثير من مزاياه، وبالتالي لم يعد هذا القانون يُحقق للبنان ما كان مرجواً منه، بل أصبح أشبه ˜بالغربال بعد إقرار العديد من القوانين المالية والتعاميم المصرفية استجابةً للمتطلبات الدولية، وبالتالي أصبحت حسابات المُودع في لبنان مكشوفة أمام سلطات كل دول العالم، ما عدا سلطات الدولة المعنية مباشرةً – أي لبنان. فلماذا التمسك بالإبقاء على قانون السرية المصرفية؟

صدر قانون سرية المصارف في لبنان بتاريخ 3 أيلول 1956. بموجب هذا القانون، تلتزم المصارف في لبنان السرية المطلقة، حيث لا يمكن كشف الحساب المصرفي للجهات الخاصة أو السلطات العامة، سواءٌ أكانت قضائية أم إدارية أم مالية أم عسكرية إلا في حالات معينة وردت حصراً في هذا القانون. إن السرية المصرفية التي طُبقت في لبنان بموجب قانون 3 أيلول 1956 كانت من أكثر أنواع السرية المصرفية المُطبقة في العالم شمولاً وإطلاقاً، بحيث أجبر هذا القانون المصارف اللبنانية على كتمان السر المصرفي لمصلحة العملاء بصورة مُطلقة، وجعل هذا القانون إفشاء السر المصرفي عمداً جريمة يعاقب عليها القانون بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة. استفاد لبنان من اعتماد السرية المصرفية، في ظل الظروف السياسية والاقتصادية التي كانت سائدة في تلك الفترة، وسُمّي ˜سويسرا الشرق، وحظي بمكانة مالية واقتصادية استثنائية جعلت منه ملاذاً آمناً للرساميل الأجنبية الهاربة من عمليات التأميم التي شهدتها القطاعات المالية والإنتاجية بعد ثورات مصر والعراق وسوريا لتحتمي بالنظام المصرفي اللبناني الجديد الذي وفّر حرية حركة رؤوس الأموال والسرية المطلقة بالإضافة إلى المزايا الضريبية.

بالفعل، أسهم هذا القانون إسهاماً كبيراً في ازدهار لبنان مصرفياً وخدماتياً، إذ ازدادت الودائع بنسبة 467% بين عامي 1950 و1961، وارتفع عدد المصارف اللبنانية من 31 مصرفاً عام 1955 إلى 72 مصرفاً عام 1968. واستمرت الودائع المصرفية بالازدياد بصورة كبيرة في خلال الحرب الأهلية وبعدها نتيجة لعمليات تبيض الأموال، وخاصة المتعلقة بتجارة المخدرات وتجارة السلاح والإثراء غير المشروع والتهرب الجمركي والضريبي وعمليات الفساد والاحتيال المالي.

إلا أنّ الأمور لم تعد كما كانت، ففي خلال السنتين الماضيتين، صدرت قوانين شكلت تحدياً لقانون السرية المصرفية، أهمها:

1- قانون الالتزام الضريبي الأميركي: بدأت المصارف في لبنان تطبيق قانون الالتزام الضريبي الأميركي في الأول من تموز سنة 2014، ويفرض هذا القانون على المصارف والمؤسسات المالية تزويد مصلحة الضرائب الأميركية دورياً بمعلومات عن العملاء الذين يُعَدّون أشخاصاً أميركيين من الناحية الضريبية. ولا يمكن المصارف اللبنانية التذرع بقانون السرية المصرفية لعدم التعاون مع السلطات الأميركية. ومن المُلاحظ في ما يتعلق بهذا الموضوع، أن مصرف لبنان كان قد اتخذ قراراً سمح بموجبه للمصارف اللبنانية بأن توقِّع اتفاقيات منفردة مع الإدارة الأميركية حول تطبيق هذا القانون في إطار عملية مباشرة بين المصارف اللبنانية ومصلحة الضرائب الأميركية. وبنتيجة هذا القانون، أُجبر جزء من المودعين في المصارف اللبنانية على التنازل عن حقهم في السرية المصرفية.

2- قانون تبادل المعلومات لغايات ضريبية: وافق المجلس النيابي على إقرار هذا القانون بتاريخ 27/10/2016، ويُجيز هذا القانون لوزير المالية إبرام اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف مع أية دولة أجنبية لتبادل المعلومات المتعلقة بالتهرب الضريبي أو الاحتيال الضريبي، وبالتالي يجب على وزير المالية إجابة طلبات الحصول على المعلومات المُقدمة من هذه الدول، سواء بموجب اتفاقيات موقعة أو بشكل تبادل تلقائي للمعلومات. ومن المُلاحظ أن هذا القانون أعطى وزير المالية صلاحية إدخال لبنان في اتفاقيات مع دول من شأنها المساس بالسرية المصرفية في لبنان. وبالرغم من نص هذا القانون على ضرورة إجابة طلب المعلومات المُقدم من الدولة المعنية إذا استند إلى حكم مُبرم أو وقائع جدية أو قرائن دامغة على ارتكاب المُستعلَم عنه جرم تهرب أو احتيال ضريبي في البلد مُقدم الاستعلام، إلا أنه لم يحدد ماهية ˜الوقائع الجديةŒ، تاركاً بذلك للدولة المُستعلِمة حرية التذرع بوجود وقائع جدية بهدف الوصول إلى معلومات مصرفية ومالية متعلقة بأشخاص لبنانيين. وبالرغم من أن هذا القانون أقرّ بوجوب إحالة الطلبات المُقدمة إلى هيئة التحقيق الخاصة عندما تكون المعلومات المطلوبة مشمولة بقانون السرية المصرفية، إلا أن هذه الهيئة مُلزمة هي الأخرى بالتقيد بالاتفاقيات الدولية المتعلقة بتبادل المعلومات، وبالتالي ستستجيب حُكماً لمُعظم الطلبات المُقدمة، مُعرِّضة بذلك السرية المصرفية للاختلال، خاصة أنه يمكن تزويد الدولة المستعلِمة بالمعلومات دون الإخطار المُسبق للشخص المُستعلَم عنه إذا كان إبلاغه قد يؤثر بفرص نجاح التحقيقات التي تقوم بها الدولة مُقدِّمة الطلب.

أي وزن لتحرك الشارع لصد الفساد
أي وزن لتحرك الشارع لصد الفساد

3- قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب: أُقرَّ هذا القانون بتاريخ 24/11/2015 لتعديل قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318/2001. فقد ألغت المادة الأولى من هذا القانون المادة القديمة ووسعت نطاق الأموال غير المشروعة لتشمل 21 جريمة بدلاً من الجرائم السبع الأساسية المنصوص عليها في القانون القديم. كذلك نصت المادتان 5 و7 على أنه يتعين على المحاسبين المجازين وكُتّاب العدل تطبيق موجبات الحيطة والحذر عند إعدادهم أو تنفيذهم عمليات تتعلق ببيع العقارات أو شرائها أو إدارة أموال العملاء أو إدارة الحسابات المصرفية وإبلاغ هيئة التحقيق الخاصة فوراً عن تفاصيل العمليات المنفّذة والتي يشتبهون بأنها تتعلق بتبييض الأموال أو تمويل الأرهاب.

نتيجة لما تقدم، لم يعُد قانون السرية المصرفية في لبنان يلعب الدور الذي وُضع لأجله، لأسباب عدة، أهمها التزام لبنان القوانين الدولية ذات الصلة، وبالتالي لم يعد لبنان يستفيد مالياً واقتصادياً من وجود السرية المصرفية التي لم تعُد السبب في جذب الودائع التي أصبحت مرتبطة أساساً بتحويلات اللبنانيين وبمستوى الفوائد المرتفع جداً نسبةً إلى الدول الأخرى. إن استمرار التمسك بقانون السرية المصرفية سيزيد من التشكيك بسلامة النظام المصرفي اللبناني وشفافيته، وسيقف عائقاً أمام محاولات الإصلاح ومحاربة الفساد، فانتشار الفساد في لبنان مرتبط إلى حد كبير بقانون السرية المصرفية الذي يقف عائقاً أمام التدقيق المالي لحسابات الأفراد والمؤسسات، في ظل الازدياد الهائل للثروات الشخصية، وبالتالي يمنع تتبُّع مصادر هذه الثروات وحركتها. وعليه يبقى الهدف الرئيسي من إبقاء هذا القانون هو حماية الأثرياء وعدم السماح بإمكانية محاسبتهم على إثرائهم غير المشروع أو تهربهم الضريبي.