أعِدْ لي وثارة روحي

سهير آل ابراهيم

ذكريات الطفولة مطرزة بالدهشة، دهشة الاكتشاف لأول مرة؛ فالعالم، بعين الطفل، يبدو كمغارة سحرية مليئة بالأسرار والغرائب! ليس العالم الخارجي فحسب، بل هنالك لحظات يكتشف الطفل فيها جانباً من جوانب نفسه لاول مرة، لتصاحب ذلك الاكتشاف دهشة الشعور بمشاعر جديدة..

بالنسبة لها، هي التي تحمل ذهناً لا يكف عن التساؤل والاندهاش، جاءت دهشة ذلك اليوم مع الاحساس بمشاعر الوحدة والاغتراب لاول مرة!

هالها مشهد ساحة المدرسة، عندما اجتازت عتبتها وحيدة في يومها الاول، ذلك اليوم الذي كان الخطوة الاولى في رحلة حياة بدت طويلة لوعورة الدرب، رأت الساحة وكأنها بحر متلاطم، أمواجه الكثير الكثير من الاطفال! لم تجرؤ على خوض غماره، تسمرت في مكانها ولم تخط خطوة اخرى. مدت يدها لتمسك بثوب امها، كما كانت تفعل عادة، عندما يجتاحها الخوف من الضياع في مكان مزدحم، فلم تجد بجوارها سوى حقيبتها الصغيرة.. أحكمت الامساك بها، فقد بدت تلك الحقيبة حينئذ وكأنها قارب نجاة، كما هو طرف ثوب الام الذي طالما منحها الشعور بالامان.

جاءها صوت أعاد دفء الامان الى روحها:

– هل لك صديقات هنا؟

– لا..

– وأنا مثلك، هل تقبلينني صديقة لك؟

)يا لعناية السماء!(

– نعم… نعم…

تشابكت يداهما الصغيرتان، فانقلب ذلك البحر فجأة الى ملعب جميل مزدان بالأطفال، ملعب ينبض بهجة ومرحاً، تتردد في سمائه ضحكات طفولة بريئة نزقة.

كان ذلك اليوم الاول بداية عهد بينهما، رغم انهما لم يتفقا حرفياً على ذلك، لكن اصبحت كل منهما تقف عند بوابة المدرسة في الصباح بانتظار وصول الاخرى. لا ادري ان كانت بذرة الوفاء والالتزام تولد معنا، ام انها تُغرس في داخلنا لاحقا، او الاصح؛ انها تُغرسُ في داخل القليل منا.

تأخرت رفيقتها ذات صباح، وعندما دق الجرس معلنا الاستعداد لبدء الحصة الاولى، رفضت ان تغادر مكان وقوفها عند بوابة المدرسة، أبت أن تخدش قدسية ذلك العهد وتخرج عن بنوده. تمنّت لو تركوها تنتظر وصول رفيقة الدرس واللعب، والتي لا تعرف كيف تمضي اليوم بدونها!

– افتقدتك بالامس كثيراً… لم يكن اللعب مسلياً مع رفاق جدد، فلا أحد يجيد اللعب معي مثلك.

أتعرفين؟ بغيابك اكتشفت ان باحة المدرسة مترامية الأطراف، واكتشفت ايضا انني صغيرة الحجم الى ابعد الحدود، فقد ابتلعتني الوحدة بمنتهى البساطة، كما يبتلع البحر حبة رمل…

– ذهبنا لزيارة مدرستي الجديدة، لاننا سننتقل من دارنا التي نسكنها الى دار اخرى… لا احبها.

– ولماذا الانتقال؟

– لاننا لا نملك بيتنا، فهو دار بالاجرة.

زينت لها طفولتها الفكرة؛ فكرة الانتقال الى دار جديدة، فقد ابصرت النور في دارهم تلك، ولم تكن تعي، قبل ذلك اليوم، أن بالإمكان تغيير المنازل! راقت لها فكرة دار جديدة، كما يروق لها دوماً أي ثوب جديد، أي شيء جديد…

– هل دارنا بالأجرة يا امي؟

– كلا، فهو ملك لنا، والحمد لله.

– لماذا تقولين الحمد لله؟ هل دار الأجرة سيء؟ أحب ان أعيش في دار بالأجرة..

و كأنها كانت لحظة استجابة، الا يقال ان هنالك لحظات تُجاب فيها الاماني بلا عناء!

لم تكن تدرك حينها ان الدار التي تسكنها تحمل تاريخها كله؛ خطوتها الاولى، كلمتها الاولى، بل وحتى شهقة الهواء الاولى! لم تكن تعي ان للمسكن روحاً تُنسج من ضحكات ساكنيه ودفء ذكرياتهم في أركانه.. وان جدرانه تتنفس عبر السنين طيب ودهم وودادهم. لم تكن تعرف أن لكل دار عبقها المميز، وكل ذلك واكثر لا يمكن نقله لدار آخر..

بعد مرور عقود طويلة على ذلك الحوار، اصبحت الان لا تذكر عدد المنازل التي نزلت فيها، ولا في اي بلاد كانت،، كان دعاؤها مستجاباً أيما استجابة،،

اصبحت تمقت السكن المؤقت، وتستغرب كيف يحسد البعض الطيور على أجنحتها، وعلى مقدرتها على الطيران والهجرة من وطن لآخر، من عش لآخر…اتخذت من شجرة قريبة صديقة لها، تغبطها على رسوخها الدائم في مكان واحد، رغم تقلب المواسم،، تعيد تلك الشجرة لذهنها صورة مسكن طفولتها الاول، الذي كان ثابتاً ولم يكن بالاجرة. تذكرها بطرف ثوب امها؛ تميمة الحب والأمان.

تغير تلك الشجرة حلتها، فترتدي حلة جديدة لكل موسم، ولكنها لا تغير مسكنها،، أعشاش الطيور على أغصانها الثابتة منازل مؤقتة، تفتقر الى التاريخ والذكريات،، الا ان تلك الشجرة، صديقتها، لها ذاكرة مترعة بذكريات كل من وما مر بها عبر السنين. ذكريات كل من نحت وشماً على جذعها، ذكرى كل من تفيأ بظلها. قد تنسى الطيور المهاجرة أعشاشها، ولكن تلك الشجرة لا تنسى الزقزقة التي انطلقت اول مرة، من أعشاش وجدت الامان على أغصانها.

رغم تسارع دوران عجلة السنين، ورغم شعورها بأنها اصبحت جزءاً من تاريخ بدأ منذ الازل، الا انها لا تزال مسكونة بالدهشة؛ دهشة اكتشاف الذات لاول مرة!

يدهشها ذلك التوق الدائم للعودة الى لحظات الطفولة تلك، وحنينها الى العودة لتلك الدار التي طالبت يوماً بتغييرها… تدهشها أمانيها في العودة الى تلك اللحظة التي طلبت فيها العيش بمسكن مؤقت، لا تمتد جذور من يسكنه بعيداً في حناياه… لكنها لم تصادف لحظة استجابة اخرى…

تتلهف الى العودة لذلك الزمان والمكان، كي تصحح امانيها وما تريد… ليتها تمنت ان تظل صغيرة تلعب مع رفيقتها… ليتها تمنت ان يتوقف الزمن آنذاك…

تمنيتُ تَطرُقَ بابي

تُعيدُ، وقلبك يخفق،

طائرة في الطفولة

ضيعتها فيك،

معتذراً عن غيابك

أو عن غيابي…

و تلمَحُ، رغم محاولتي

أن أخبىء

اني صنعتُ كثيراً من الطائرات،

و لكنها لم تطر

مثل تلك التي في الطفولة

صادرتها…

كم تمنيت ترجع طائرتي نفسها،

أو تجيء بلا أي طائرة،

مسرفاً في الضباب…

أعد لي وثارة روحي،

فما عدتُ من ورقٍ

يصل الله من نفخة

ثَقُلَ الورق العذب

ملَّ… تَهَرّأ

ما عاد تحمله الريح

الا ليسخر مني

و ينكسُ ثانيةً للتراب

تمنيتُ أن تطرقَ الباب في رقة العاشقين

و ألمحُ طائرة الأمس في ناظريك..

أُقَبِّلُ فيك صديقي القديم،

و نرجعُ طفلين نلعب

تُنهي اغترابك فيَّ

و أُنهي إغترابي…

)قصيدة عودة الى الطفولة للشاعر مظفر النواب(.