حديقة تكمل ذكراك

نعيم تلحوق

لست أعرف مَن سيُبكي مَن.. أأنت العاشقُ الولهُ.. أم نحن النيام في صقيع المدى، نتلطى بخوفنا، وأحجياتنا ملاذا للعمر..

أكنت تخاف من العمر يا أبا ربيع.. أم كنتَ تتجرأ عليه..

سنون طوال مرت بحجم أيام قليلة يا أبا ربيع، كنتَ فيها دائما خفيف الظل، ليِن المعشر، وجهكَ الوضاء ينبض حياة، ويستجلي العصور المستحيلة، الذي يصفك يكون نساخا للمعنى، وأنت تلاحق معناك.. تبحث ببصيرتك عن قهوة، واسع الرؤيا، نظيف اليدين، تحمل قدرك وتدلك عصاميتُك على الرضا القابع فيك.. فأنت رضيٌ، هنيءٌ سموح. لا تفجِر حقدا على أحد.. ولا تعيث بأمكنة غيرك، يقول الحقَ فمُك.. وتدلنا عيناك الغائرتان في وجهك الى جلالة الصمت حين يكون الكلام تجريحا وهراء..

هل أعابوك لأنك مارست فضيلة التوحيد عقيدة، فكنت كما أنت، لا تَخرج سيئةٌ منك، كنت تشهد بإلهٍ واحد، لكنك لم تصدِق أي نبي…

كم كنا نتعارك بمحبة في مكتبي في الوزارة حول القصيدة العمودية والقصيدة الحرة، ونحتكم للشعر، فكنا نذهب الى وجهات معرفية في الأدب والفكر حول منظومة القيم التي تحكم الأجيال.. فنتفق أخيرا على أن كما أن لكل زمان دولة ورجال، فأن للقصيدة أنغاما وآيات، أفكارا وجهات.. فنخرج معا من التسميات الى الشعر وحده…

يا أبا ربيع، لقد اتفقنا أن المدح والرثاء والهجاء الفخر أنماط تقليدية، فجلَ الأمر أن نزيل الأدب عن السياسة، فاجتمعنا معا، على ان الشاعر الفنان بمقدوره أن يصنع ألف سياسي، وليس بمقدور ألف سياسي أن يصنعوا شاعراُ أو رساما أو موسيقيا واحدا..

وكان الكلام في اللغة، فاصطادتنا الحيلة مرات كي نميز بين الانزياح اللغوي والانزياح الرؤيوي للقصيدة، فقلت لك مرات كثيرة أنك لن تكون أبناءك ربيع ويسار ونشأت.. فهُم لن يكونوا أنت.. فأنت أنت.. وهُم هُم، لكن المحصلة أنهم بقوا أوفياء لنبضك وتجربتك، أحباء للأرض التي زرعتهم فيها.. فكنت تقول لي أن إبداعهم في الخارج سيعيدهم الى الوطن أعزاء، لكنهم فجعوا بك وأنت تمضي في طريقك نحو القصيدة، بأن عجلة الموت الرخيص دهسَت حروفك المستحيلة…

لن يعترينا الخوف بعد الآن يا أبا ربيع، لم تخَف يوميا من الريح أنى اتتك، وقد علمتنا الحياة، أن نُقلّ الكلام ونُكثر من الصمت حين يكون الصمتُ أبلغَ من الكلام.

باسم وزير الثقافة وزملائك وأحبائك نعزي أهلك زوجتك الفاضلة حياة، وأبناءك ربيع ويسار ونشأت، ونحتمي بالمولى كي تنير لنا بأدبك وشعرك طريق الحب والحرية…

 في ذكراك السنوية الأولى يقيم الأهل والأصدقاء حفل لقائك في حديقة ونصب يرمز إلى صورتك، عسى أن تكون الذكرى تكملة لمعناك، وما أردته في الحضور والغياب…

أما أنت يا أبا ربيع ستبقى في الذاكرة كما أعرفك وكأني الآن أراك…

أسماء الشرقي تحاول الحفر في الفكر

هذا الحوار جرى في تونس خلال مشاركتي في مهرجان الشعر العربي مع شاعرة تونسية من المهدية، وقد لفتتني دماثتها وعمقها، ولأن الحوار طويل ولا تسعه » فواصل ثقافية »، آثرت أن أنشر الجزء الأسطع منه دون المرور بالردود الشعرية التي أعقبت اللقاء…

 – أسماء الشرقي، تحمل عالما متداخلا بين البحر والرؤيا.. كيف تتعامل الأنثى فيك مع الفضاء ؟

 * كنت في سن السابعة، لعبتي المفضلة هي أن أفترش سجادا قيروانيا تحت ياسمينة مورفة على شباك غرفتي.. أستعير كل ورودها حبا وأصنع لنفسي لوحة خلابة لفضاء رحب يملؤه سحاب أبيض، موج من أوراق ياسمينتي يعانقه شريط من الزبد مذاب، كنت أحلم بالبحر وهو بعيد بمداد عن مدينتي الصغيرة.. لم أكن حينها أعي أني نسجت بتؤدة وتمعن لا متناهيين داخل روحي بحرا واسعا وموجا عاتيا ورؤى، وعندما كبرت قررت أن أحرره من قفص أحلامي ليتجسدني واقعا.. ومن يومها وأنا أمارس معه ملحمة العشق.

ولأن البحر بوابة السفر وطريق التائهين وقِبلة المغامرين ونداء الحالمين، كانت أغواره تحمل تاريخ كل الحضارات وأسرار أغلب الأمم فعلى ضفافة نُصبت القلاع وفي عبابه دارت المعارك فكان في نظري ولا يزال قصة ورؤيا وإمتدادا للآخر الغائب الحاضر.. أما الأنثى فهي قادح لكل سفر ووازع للغوص في عباب الموج لذا لا غرابة أن أكون البحر جزءا لا يتجزأ وأن يضحي كلا في لا يتلاشى..

 – »أبواب مفخخة« باب لتجريب الأفكار أم لترسيم الزوايا ؟

الشاعر الراحل انور سلمان
الشاعر الراحل انور سلمان

»أبواب مفخخة » خطوة مختلفة عن سابقتها »ذاكرة اللغات« إرتأيت من خلالها فتح مجال أكاديمي على الكتابة الشعرية وبالتحديد قصيدة النثر.. فالمعروف أن الشعر هو لسان حال عصره وترجمة وجدانية لواقع مجتمع.. غير ان هذه الفكرة الموروثة عرفت أكثر من وجهة في العقود الاخيرة وأصبحت القصيدة في عباءتها النثرية او الحرة او حتى العمودية تلوك ذاتها وذات كاتبها في أغلب الاحيان دون ان تترك مجالا لقارئها أن يتخذ من مفرداتها معطى للبحث ومن مواضيعها بوابة لتناول شواغل الاخر البسيط والمترف العاقل والمجنون، الظالم والمظلوم الى جانب انتقاء معاجم مستحدثة تؤسس لمنظومة شعرية جديدة تسِم هذه المرحلة التي نعيشها والتي ستخلد وجودنا لدى أمم قادمة..

ببساطة أبوابي المفخخة هي محاولة جديدة للحفر في الفكر وسعي أرجو ان يكون محمودا في أركان معتمة أقدح صورة بأخرى لأستنير بمشهد شعري..

 – لكن شروط قصيدة النثر الايجاز، التوتر، اللاغرضية، أين الهوية والمكان لديكِ ؟

 * الشعر إحتدام لا مشروط وإرتطام موجع بأنفاس الشاعر.. إنه جُزر سرية للروح فالكيان يكبر في دواخلنا ولا يتركنا نلتزم الصمت والحياد.. ولقصيدة النثرضوابط وشروط لغوية وأسلوبية تميزها عن القصيدة العمودية.

 أما أنا فلا تحملني الأمكنة بقدر ما أحتويها، والهوية عندي توقظ الأمكنة داخلي.. فحيثما أخذتني المسافات يظل الأديم في زاوية مني وترافقني أمكنتي مخبأة في حقيبة سرية هناك في ذاكرة أسماء الإنسانة والشاعرة… كيف لها ونحن عوالم صغرى تفيض أسرارا في فضاء لامحدود..

 – بين الإنزياح اللغوي والإنزياح الرؤيوي بون شاسع.. أين تقف أسماء الشرقي؟

 * يدعوني سؤالك الى عودة خاطفة للحديث عن قصيدة النثر، فهذه الأخيرة تقتضي آلية الانزياح الشكلي للنص الشعري كي تحرره خاصة من ربق القافية والروي وتؤسس للنص الشعري عالما منفتحا على أفق أخرى، بإمكانها ان تهبه جمالية خاصة ومساحات أرحب للبوح..

 وبين هذه الضرورة وما أكتبه قواسم مشتركة تتلخص تحديدا في إستدعاء معاجم لغوية مختلفة لخدمة فكرة النص وتطويعها ا لتعميق الصورة والمشهد في القصيد.. كإستدعاء الرموز الأسطورية والملحمة والنظرية الفلسفية والدينية.

 لكن تبقى للغة داخلي مدار » أنتروبولوجي« مخصوص يصنف عوالمي على نحو أرى من خلاله كل الكون المادي واللامادي المرئي واللامرئي ينبع من نقطة ضوء.. وميض قادح يستكين داخل الذات البشرية أو بالأحرى داخل كينونة الشاعر الذي يكتب بخيوط متشابكة حينا ومتداعية أحيانا.. يحكمها الشعور والإحساس.. فنحن يا سيدي نكتب لنكون ولنؤسس كونا نحلم به.. كونا مثاليا قوامه الحب والسلام.. والنقاء والشفافية فتجدنا نحارب بنصال الحرف قاذفات الصواريخ العابرة للقارات.. ونعري بالقصيد بروتوكولات حكام العالم… هنا أقف وسأظل..

الشاعرة اسماء الشرقي
الشاعرة اسماء الشرقي

 – العالم يتجه إلى صياغة الحب ضوءا، كيف تتفاعلين مع المفردة والعالم الجديد ؟

* لعل هذه القصيدة تجيبك شعرا عن هذا السؤال الاشكالي..

أراني…

ولا عيب في ما أراني

أنَازل البحْرَ بقوس قزح

وأنسج لهبا.. بخيطِ حرير

.. أشُجُ صخُورا بغيمٍ وورد

وأبني قُصُورا من المُمكنات..

أراني….

أعَانِق وهْما بدفء ضنين

بقَلْبٍ حَليمٍ وكَفٍ حَلُوم..

فَكيفَ أرى أني أراني..

ويشقيني صَليلُ السؤال..

 – هل تونس – المهدية بوابة أسماء إلى الشعر أم أن عالمكِ الداخلي هو بوابتكِ إلى العالم ؟

 * رغم ان لمدينة المهدية فضلا كبيرا على إزاحة صخرة الصمت عن قريحتي وتفجير ماء البوح بين مسامات روحي، إلا أن عالم الشعر كان يسكنني قبل بدء الخليقة وهو معطى متجذر بين فواصل الوجدان مذ كنت أحبو على سجاد مدينتي القيروان.. حيث ربيت بين أرباض تاريخها وعلى أسوار حضاراتها.. ومن جدائل زهر الليمون وشقائق النعمان صنعت عوالمي الافتراضية.. فالشعرفي داخلي جزيرة بديعة أوجدتها إرهاصات شتى وفجرتها نيازك الروح لتتشظى عالما لغويا ملموسا..

 – كيف تتعايش اسماء مع الظل والوردة، وهل الصخب حالة الماء أم التراب.. من يكثر فيك ؟

* للوردة في حياتي ندى وشذى وانتعاش كإحساس نرسيس لحظة التقاء الصورة بالماء.. كأنثى تبحث عن خفاياها في عيون الطبيعة.. غير أن الظل يمنحني سكينة الراهب ومدى الفيلسوف وحنين المتصوف، لذا لظل الوردة في كوني أفضلية الاعتكاف وسر التأمل وأولوية القياس.. فبالظل نقيس حياة الوردة وبه ندرك مدار الزمن ونحتفي بعمرها المتبقي منها بمنتهى الصدق والشفافية..

أما عن حالة الصخب فهي ديمومة »مورفولوجية » للجوهر الكامن في، أولسنا ذلك اللازب الذي امتزج بماء الخليقة لينبض روحا؟ ما بين تراب الأصالة وماء الحضارة اسري لا مد يوقفني سوى سؤال الخليقة ولحظة التأمل.. نحن كون ثائر محتدم بماء وتراب ونار يستمد نبضه من كون أرحب ولا يمكن أن يعتدل إلا بتماهي كل هذه العناصر داخله…

 – كيف يصطاد الأثير فيك شكواه وما معنى أن نخرج من المبنى إلى المعنى ؟

* »كبروميثيوس »سارق النار المقدسة من معبد الآلهة في الميثيولوجيا الإغريقة… أجدني أقتفي وميض أثيري السابح بين كيمياء مداراتي.. يرهقني حد الأرق، وألهث خلفه.. بين بياض القبور والتماعة زبد البحر ودوار الريح.. وسكون الليل..

 – متى تهب رياح الوطن على ضلوع القصيدة.. وهل تتحين أسماء فضاءها لتشتعل أم لتضيء؟

الشعر هو ثورة على الذات من خلال التصعيد النفسي والوجداني لأحاسيس إنسانية كامنة في الأعماق وترجمة للغة الصمت التي تحول دون بسط الحقائق وتمثل الأشياء وهو امتداد للآخر من خلال الاتصال اللغوي الرمزي البناء والهادف… الشعر أيقونة جمال تظل نائمة في باطننا ونغذيها بأحاسيسنا وقراءاتنا وتجاربنا والتزامنا حتى نكشف مرايا ذواتنا أولا ونعبر عن خباياها القصية ونكشف أيضا عن مواقفنا من الآخر الذي يتماهى معنا أو يشاكسنا ويصارع قيمنا وسلوكنا في الظاهر والباطن.. والوطن هو ريح تهز هذا الكيان لحظة النزيف.. لحظة الوجع فتمطرنا من حيث لا ندري وكم صار عميقا هذا الجرح في أوصال أوطاننا.. وكم من نزيف أضحى القصيد يواريه حينا ويعريه أحيانا…

هل تعي الشمعة المضيئة مصيرها لحظة موت الفتيلة؟

أحيانا يكون ثمن الدفء إحساسا لاذعا بالاحتراق.. لكن بين فعل الإشتعال والإضاءة يظل الأمر خاضعا لمبدأ النسبية حسب المعطى المشتعل وجدوى الإشتعال.. أما أنا ففضائي يقتفي النور بتؤدة ليهب الضياء دون أن يُنهيني.. ولعمري أرى في ذلك حكمة الشعر وهدف الإنسان في هذا الكون المنطفئ..