ديوان (دروب) للشاعر سلمان زين الدين، قصائد عن تفاعل الإنسان في دروب الكون

لارا ملاك – بيروت

 يحاول الشاعر في ديوانه هذا أن يحدد هويته، ويكون ذلك من خلال المقارنة بين الأنا والآخرين ويحدد إرادته ويتخذ قراره بالحرية.

الأنا هي الغالبة في النص، وليس حضورها دليل نرجسيةٍ أو أنانية وإنما هو رفضٌ لاستلاب قراره. إنه التعبير عن الهوية الواثقة والعقل الحكيم القادر على تدبير الأمور، فيقول الشاعر:

»لهم شيوخ طريقة

كلٌ يقلد شيخه

عبر الزمان

وليس لي شيخٌ

سواي«

ووراء هذا الاندفاع في تحقيق الإرادة الحرة للشاعر العشق والعصا رمزا القوة، يتكئ الشاعر على فؤادٍ وعصا، وتتبدى لنا الوجهة المحققة فنعلم بأنها الجمال.

ينشد الشاعر الحرية، ولا تعني الحرية هنا العبثية والانفلات، بل السمو نحو الجمال الأعلى. يحلق في الفضاء الشاهق، ويغوص في أعماق نفسه في اتجاهين متوازيين حتى التشابه أو التطابق. يحلق كأنه يغوص أي يكون الارتفاع إلى العمق، كما يغوص وكأنه يحلق فيكون الغوص كالرفرفة الحرة.a8fd0c1363

ولا نعلم بداية لماذا شكل الزمان والمكان إطارا من السوداوية، إلى أن نجد فيهما القيود. الجسد سجين الأين كما يقول، فهما من طبيعةٍ واحدة والمادة سجينة المادة. ويناشد لذلك المرأة الأسطورة وهي شهرزاد، ولعل تجسيد المرأة بهذه الشخصية تقليديٌ في الشعر العربي، لكن ما تبوح به شهرزاد لسلمان زين الدين مختلف، فهي تفلسف مفهوم الأين أو تطرحه بواقعيته أيضا، فهو كالمدى رحبٌ وهو من صنع البشر. نحن من نصنع المكان، ومن نجعل للأطر المختلفة أشكالها وأنواعها، للبشر مراتب وألوانٌ، وبحسب ما تكون يكون المكان ويكون المدى.

ومن جهةٍ أخرى وفي مواضع مختلفة في هذا الكتاب، يظهر تقاطعٌ واضحٌ بين الزمان والمكان، فيقول مثلا »تتدفق الأيام منذ البدء«. والبحر زمانٌ نخاله في لحظةٍ مكانا أو ما يشبهه، فحين تضيق سبل المكان في تلقف الأيام يفتح البحر قلبه. الطبيعة زمكانٌ يتوسطه البشر والأيام بحسب تعبيره:

»تعبرنا

وتجرفنا

وتتركنا، وقد حفرت

على أجسادنا المجرى«

وكأننا صرنا المكان الذي يفعل فيه الزمان فعله، فتبقى الحركة الكونية ونحن نتغير ونتأثر ونُسحق.

ويدخل السرد أحيانا على القصيدة ليقص سيرة شاعرٍ عاشق. والسرد قائمٌ على التفاعل، الرجل هو المتأثر فيه وليس المؤثر الفاعل. الحبيبة تطرح الشروط وتقدم الوعود، وهو يسقط في الفخ، والسقوط ليس حركة يقوم بها بل تفرض عليه، وبعدها ينجرف في نفسه ويظهر ذلك في هذا الجزء حين يقول:

»إذا ما جاءها

بالدر من أعماقه

والنجم من أفلاكه

والبكر من أشواقه«

حين يتعمق في ذاته يصير الرجل عنصرا فاعلا وليس متلقيا فقط، وبذلك تصير المرأة متفاعلة معه وتنجرف في عشقه.

وللريشة حضورٌ مهمٌ في هذا الديوان، هي الفاعلة في الصفحة البيضاء، هي التي تبتكر للشاعر صفحاته كما ترقص له حين يغني اللون. ولعبة الحواس هنا تدمج بالوحي والإلهام، فالريشة تخضع لحركة الوحي التي تحركها فوق الورق، وكأنه جني الشعر من عبقر يمر خفيا في النص.

الريشة أداة الفن الهادف الباحث عن المعنى الجميل، هي المرأة الغاوية التي تتقن لعبة الإبداع وتغوي الجمال فينساب. وهذا ما يحيلنا إلى مفهوم الأنوثة عند الشاعر. الريشة أنوثةٌ عنيدة تحث على البحث الشغوف في أشياء الوجود، يفتتن بها الإزميل ويفصح للطبيعة الأم. الريشة ترسم، وعندها »يجري جدول الألوان«، أي تتشكل الجنة.

إزميل النحات يهذب جمال الطبيعة ويعيد صنعه، يحذف عنه التراكم ويعيد له صوته ويحرره، فيجاهر الحطب بسره أمام الكون. الفن إذا دحر العدم ومحض حياة.

وفي قصيدة »لا شيء يدعو للقلق« حوارٌ ممتعٌ يطرح إشكالية شائكة نوعا ما حول دور القراءة في ظل الحياة المادية والطمع الذي يبلغ مداه لدى الإنسان. ومن خلال الحوار بين امرأةٍ ورجل يقابل زين الدين بين عالمين، العالم المحسوس وبواطن الكتب. وينحاز الشاعر ككل فنانٍ مرهفٍ إلى الكلمة والفن ودورهما السامي، فيشير مثلا إلى الذهب قائلا:

»والأصفر الرنان لا يرقى، لدي

إلى مقامات الطرب«.

ينتقل بالصورة إلى إدراك الموضوع بالحواس للانتقال بعدها إلى حكمٍ عقليٍ يتضمن حكمة. فالأذن تسمع صوت الذهب لكنها تستطيع أن تفصله عن موسيقى الطرب، وصوت الذهب يمثل الطمع بالمصالح المادية، في حين تمثل مقامات الطرب المعنى والشعور اللذين يزكيهما الفن.

الفجر يبزغ من الأحرف والشمس تطلع من الورق، الكون بين يدي الأديب، فلمَ قد يبحث عنه في الخارج؟؟ ومن خلال عباراتٍ كثيرةٍ نستنتج أن الكتابة بحثٌ عن الذات، يريد الشاعر من خلال البحث خلاص نفسه.

ولا عجب أن تشكل الطريق مفهوما مهما في الطرح في ديوانٍ بعنوان »دروب«. فالزمان يحترق والمكان يضيق، لكن الطريق تفضي إلى الأنا. وإذا ما دققنا في المعنى تصير الأنا هي الطريق، فهي من تزرع الذكريات وهي من تبني البيوت وتسقي القنديل زيتا، وهي من تقرب الأرض من السماء.

أما الآخر فمرآة الأنا في منظاره، لا فرق بين أبناء الأرض على اختلافهم، هم جميعهم من نورٍ وتراب، وهم في حسابات الوجود أسواء، وفي نهاية المطاف صور.

ينظر الشاعر في اتجاهين، يراقب الفضاء والأرض. في الأرض كرسيٌ يتقاتل الناس ليملؤوها وقصورٌ يتناوبون على حكمها، غير أن فيها أيضا نجوما بشرية تعمل بصمتٍ لتضيء ما حولها فتنافس نجوم السماء.

الدروب في هذا الكتاب أرادها سلمان زين الدين معابر له. يريد لو يمر بسلامٍ فيسلم من زمانٍ ومكانٍ وبشر، ولكن الأنا تبقى صريعة حزنها تبحث عن خلاص.