خيال مستحيل أم نبوءة بدأت بشائرُها ؟؟

خيال

مقال نقدي

عماد الدين العناني *

القالب الذي استحدثه المؤلف حسن عبد ربه المصري لسرد روايته الخالية يعتمد على جناحين.. الأول رحابة المستقبل الذي يطلق العنان لكل منا ان نتخيل ما يمكن ان يأتي به، ولا حرج في ذلك في ما أظن.. والثاني ظواهر وحقائق عرفها العالم ونظمه الحاكمة وظواهره الطبيعية على امتداد العقدين الماضيين، خاصة في ما يتصل بحجم التحولات التقنية المتلاحقة التي أصبحنا جميعا نعيش بها وتنتظم أمور حياتنا من خلالها ولا نكاد نستغني عنها، ولا يمكن الإدعاء بغير ذلك في ما أعتقد..

يفتح لنا المؤلف باب الخيال اللامتناهي عندما ينقل ذ في مقدمة الرواية – مقولة أينشتاين عدما سأله أحدهم عن أيهما اكثر أهمية.. الخيال أم المعرفة ؟؟ فرد عليه.. »المعرفة محدودة، اما الخيال فباتساع العالم«..

ومن هنا أبادر بالقول، ليس في عنوان مقالي النقدي هذا مجافاة للسرد السلس الذي يجده القارئ فوق صفحات الرواية التى نشرت في معرض الكتاب الأخير بالقاهرة.. بعنوان.. » 2099 عام الهيكل الثالث« ووصفها مؤلفها بأنها »خيالية تصحبكم إلى المستقبل«..

الحكاية ليس فيها جفاف كما قد يتبادر إلى الذهن.. هناك خط درامي أزعم انه محبوك بمهارة.. يجمع بين المغامرة والحب والجنس والخيانة وبراعة إستخدام التقنيات فائقة الحداثة سواء على مستوى مجموعة اليهود التي دبرت في ليل للمؤامرة !! أو الأجهزة الأمنية التي إكتشفتهم وبعثت برأسيهما تباعا إلى واحد من المعازل الطبية التي تأوي الميؤوس من شفائهم أو الذين صدرت ضدهم أحكام مُشددة..

تبدأ المؤامرة بعد حوالي ستين عاما من خروج اليهود من أرض فلسسطين العربية !! مهاجرين إلى بعض ولايات أمريكا بعد فشل كافة محاولات إخضاعهم لقرارات الهيئات الدولية ولتزايد حدة المقاومة السلمية التي مكنت الفلسطينيين من إختراق حواجز أمن معلومات القوات المسلحة الإسرائيلية وأمن المياه ودفاعات المستعمرات بإستخدام التقنيات الحديثة، إضافة إلى عوامل الطقس والبيئة التى أغرقت ثلث المساحة التى يحتلونها من الأراضي العربية تحت مياه المتوسط وأشعلت النيران في غاباتها لعدة سنوات متتالية..

أمريكا وأروبا والعدد الأكبر من دول العالم كما نعرفه اليوم، سيصيبها العطب أو التحلل او الذوبان والتفكك.. أمريكا ستصحو يوما على فقدان متتال لمكانتها السياسية ومركزها المالي، تلجأ آخر اداراتيها مع حلول العقد الرابع من القرن الحالي إلى تأجير ولاياتها وبنيتها التحتية مقابل مبالغ ماليه تجمعها سنويا.. يتخير المهاجرون إليها من اليهود ولايتي لاس فيجاس ودلاس للعيش فيهما، الأولى لنهب الأموال وإعادة تدويرها والثانية كعاصمة مؤقتة لحين العودة إلى أورشليم..

الصين ستنجو ذ هكذا تقول الرواية ذ من عوامل التحلل والعطب.. لماذا ؟؟ لأنها واصلت بدأب منذ بداية القرن العمل على زيادة إحتياطياتها النقدية، ولم تُفرط في ما تحت يدها من سندات حكومية أمريكية، وسعت لشراء كل ما هو جديد في عالم التقنيات والمعلومات.. وتحالفت مع قوي اقليمية كانت على عداء مع أمريكا..

منتصف القرن، تختار »لجنة الحكماء« بكين لكي تصبح عاصمة حكومة العالم لأسباب جوهرية.. منها احتفاظها بقوتها السياسية والاقتصادية والتقتية في مواجهة كافة عوامل التغيير التى مر بها الأخرون.. براعتها في استيلاد مصادر مستحدثة للطاقة وظفتها لخدمة مخططاتها المستقبلية، وإستغنت بها عن الأخرين.. ولانها لم تفرض نفسها على أنظمة الحكم بل جاء تحالفها معهم نتيجة مباشرة لسعي الأخرين إليها..

حرصت الحكومة العالمية الأولى التى تشكلت عام 2050.. على توزيع مسؤوليات إدارة الأقاليم بين أكثر من عاصمة.. لندن، باريس، روما، موسكو، واشنطن، دبي، دوسلدورف.. الخ.. واطلقت على القدس »عاصمة السلام«..

عانت الحكومات العالمية المتعاقبة من مشاكل سكان العالم التى ورثتها بكين من أنظمة الحكم الديموقراطية والشمولية والبين بين.. وبعد تجارب عدة تتمكن الحكومة الخامسة )2070 ذ 2075( من فرض نظام عسكري وأمني صارمين قاما على إلغاء الحدود السياسية التى كانت قائمة بين دول العالم ما قبل عام 2050، لا انتقال ولا عبور إلا بإذنها.. وعملت بالتدريج على توحيد العملة ومن استرجاع أسلوب المقايضة بين المجتمعات القريبة.. وأمسكت بيد من فولاذ على مصادر الموارد وأوجه النفقات..

أهم ما اعتنت به بكين خلال الخمسة وعشرين عاما على قيامها إلى جانب الأمن وتصفية الخلافات البينية ووضع خطط التنمية الجماعية، تطوير أدوات التعرف على المؤثرات المناخية التى أصبحت سلاحها القوي للتخفيف من حدة المصائب التي اودت بحياة مجتمعات باكملها قبل عام 2040، فوضعت كل ما توصلت إليه التكنولوجيا في خدمة التنبؤ به قبل حدوثه بفترة كافية لتحديد الوسيلة المُثلى للتعامل معه.. وعملت على إقامة معازل صحية للمرضى الذين لا شفاء لهم لحجزهم بعيدا عن الأصحاء لحين إكتشاف عقار طبي جديد أو فنائهم، ولإحتجاز من تصدر ضدهم أحكام قضائية..

مع بداية عام 2099.. أبلغ المقر العالمي للأرصاد الجوية حكومة بكين أن بدايات السنوات الخاصة بأصحاب الديانات السماوية وغير السماوية ستأتي متعاقبة بدءا من منتصف شهر ديسمبر.. لذلك، قررت رئاستها أن تقيم إحتفالا إنسانيا في قلب مدينة القدس مساء اليوم الأخير من الشهر تشارك فيه مجموعات من أصحاب الديانات المختلفة..

تلقت رئاسات الجماعات الدينية في روما ومكة ونيودلهي الخبر بسعادة بالغة وبدأت فورا في الإستعداد له.. وضعت معايير منتقاه لإختيار العناصر التى ستشارك فيه، وحددت نوعية الشعائر والأهازيج التى ستشارك بها في الاحتفالات الجماعية التى ستتواصل من بعد غروب شمس الحادي والثلاثين من ديسمبر حتى أشراقة اليوم الأول من يناير 2100..

يهود أمريكا، رحبوا بالمشاركة في الإحتفال ظاهريا وهم يبطنون الغدر والخيانة.. عملوا من فورهم على وضع خطط سهلت لهم التحايل لإستعادة خرائط بناء الهيكل الثالث من الأرشيف العالمي.. وقبل سفرهم بالسفينة في الطريق إلى القدس إستخدموا التعاويذ التوراتية لأخفاء عبوات الديناميت داخل لحومهم »الكوشير« المقدسة، لنقلها تحت أعين رجال الأمن وحرس الحدود العالميين إلى »اورشليم« بهدف تدمير المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وألصاق التهمة بالمسلمين !! ومن ثم إجبار حكومة بكين على الاستجابة لطلبهم، الذي لم تلتفت إليه على إمتداد آخر أربعين عاما، بإقامة هيكلهم مكان ما تهدم..

مؤامرة إشترك في التخطيط لها الحاخام الأكبر وقادة المجتمع اليهودي في ولايتي لاس فيجاس ودلاس.. ورُتبت فاعلياتها بحيث تتم في نفس الوقت الذي ينشغل فيه سكان عاصمة السلام وضيوفها بمتابعة سباق السيارات العالمي الذي سيمر في محيط القدس لحظة غروب اليوم الأخير من ديسمبر 2099.. فبينما الأنظار تتجه إلى قلب المدينة العتيقة حيث الإحتفال الإنساني بميلاد السنوات الجديدة وتسليم فريق السيارات الفائز جائزته، يقوم أحدهم بتفجير المسجد والكنيسية على التوالي..

لكن المؤامرة تفشل ليقظة المسؤولين عن الأمن الذين انتشروا في المدينة للحفاظ على هدوئها الذي ميزها منذ منتصف اربعينيات القرن، وأيضا لكفاءة أجهزة التنصت والمراقبة التى زرعتها موسكو عاصمة الأمن والمسؤولة عن الإستقرار في كل مكان..

من جانبي قد لا أتوافق مع بعض من متتاليات الخيال التى أطلقها حسن عبد ربه المصري.. ولكني عن يقين، أصدق ثلاثة امور.. الأول أن إسرائيل إلى زوال.. والثاني أن العالم سائر إلى الوقوع في قبضة حكومة عالمية.. والثالث أن مستقبل هذا العالم ليس فيه مكان للخانع والخاضع والمتلهي بأمسه عن غده..

ناقد فني متخصص..