مقهى »الحاج داود« ذكريات بيروت الأصالة

بقلم عبد الفتاح خطاب:

كان مقهى »الحاج داود« في بيروت متصلاً بالشارع العام بواسطة زاروب )زقاق(، وكان له مدخلان وسُلّم )درج(، وكان باستطاعة الزبائن أن يوقفوا سياراتهم في الزاروب. وقبل أحداث 1975، أطلقت بلدية بيروت اسم الحاج داود على الشارع تكريماً له.

كان المقهى يفتح أبوابه من الخامسة صباحاً إلى السادسة مساء قبل أن تزدحم المنطقة بروّاد الملاهي الليليّة والخَمّارات، ولم يكن وارداً أبداً لعب القمار أو شرب الخمور فيه. وكان من ضمن المقهى مساحة مفروزة بالشراشف مُخصصة للعائلات. ويُقال إن الحاج داود مرّ قربها يوماً واشتمّ رائحة مشروب العرق الكحولي، فاقترب من الطاولة وأمسك بشرشفها من زواياه الأربع وحمله بما فيه من صحون وكبايات وغيرها ورماه في البحر.

يتحدر الحاج داود بن عبد الكريم بن حسن خطاب من عائلة بيروتية عريقة كانت من ضمن خمس عائلات لديها »منزول« لاستضافة زوار العائلة والشخصيات التي تزور بيروت، كما جاء في كتاب »منزول بيروت« للمؤرخ المحامي عبد اللطيف فاخوري، وهو شرح تفصيلي وتأريخي لكلمة منزول، وما يعنيه ذلك عند البيارتة من أهميّة للعائلة، وهو كناية عن بيت ضيافة مُستقل عن المنزل الرئيسي بمدخله وغرفه ومنتفعاته.

كان الحاج داود يجتمع بأصدقائه لتدخين الأركيلة )النرجيلة( في عرزال في منطقة الأوزاعي، وحصل سوء تفاهم مع صاحب العرزال ففضّل أن يكون لديه عرزاله الخاص به، وأعجبه موقع في منطقة السُنطية، فذهب إلى رئيس الميناء، وكان يُسمّى »ناظر البحرية«، وطلب مساعدته لاستثمار قطعة ارض، فوافق على ذلك وكان جوابه »سنعطيك عشرة أذرع وان استطعت أن تطمّ البحر إلى جزيرة قبرص فهي ملك لك«! وقد بنى العرزال على الصخور عام 1870م على الأرجح، وصار يدخّن الأركيلة هناك مع أصدقائه ويقدّم لهم الشاي والقهوة.

المحلة التي اختارها الحاج داود كانت تُعرف منذ القرن التاسع عشر بـ»الزيتونة«، وأصبحت مركزاً للملاهي الليلية وذاعت شهرتها بدءاً من أربعينيات القرن الماضي. كانت تقع على شاطئ البحر على امتداد صخري يعلو سطح البحر بثلاثة أمتار، ويتخذ شكل خليج صغير بطول 500 متر يبدأ من موقع عرزال الحاج داود ليصل إلى مقبرة السُنطية.

وقد اقترح عليه بعض الأصدقاء أن يبني مقهى ويستثمره فبناه باستخدام الأخشاب )وفي فترة لاحقة بعيدة أضيف إليه القرميد(، ولأن أرض العرزال صغيرة تمّ إنشاؤه على أعمدة خشبية من الخشب القطراني المستورد من الأناضول والمقاوم للماء والحشرات والتآكل غُرست في البحر، بحيث يستطيع الجالس أن يرى سطح الماء من تحته، من خلال الفواصل بين الألواح الخشبية، وصُنعت كراسيه من الخيزران وطاولاته من الخشب فقط. لاحقاً، حين تم تزويد جدران المقهى بنوافذ زجاجيّة كانت أمواج البحر تلطمها وخاصة في فصل الشتاء، مما يُضيف عليها طابعاً خاصاً بسبب صوت الموج ورذاذه.

 نتج عن قِدم الأرضيّة الخشبيّة حدوث ثقوب وتآكل بفعل الزمن في بعض ألواحها بحيث أنه كثيراً ما كان الحماس يستبدّ بأحد لاعبي النرد )طاولة الزهر( فيطرح النرد بانفعال، فيقع من بين الثقوب الأرضية إلى البحر، ولذلك كانت طاولة الزهر هناك تحوي على زوجين من النرد!

ويبدو أن والي سورية الشهير مدحت باشا )أبو الإصلاح( عندما زار بيروت سنة 1878م وتوجه إلى شاطىء البحر عند الطرف الشرقي لخليج الزيتونة، دخل إلى مقهى الحاج داود وأعجب بموقعه فاشترى قطعة أرض ملاصقة له.

ويُستدل على قدم المقهى من وثيقة مؤرخة في العام 1890موضوعها مقاسمة قطعة أرض بين ورثة الوالي مدحت باشا تمّت بحضور ابنته فاطمة ممدوحة التي أفادت بأن والدها »كان يملك قطعة أرض معروفة بأرض المسلخ الكائنة في محلة المجيدية من محلة ميناء الحصن يحدها شمالاً وشرقاً بعضه البحر وبعضه قهوة الحاج داود بن عبد الكريم خطاب..«.. ومع الوقت أضيف مطعم ومسبح إلى المقهى وأصبح يُعرف بإسم »مقهى ومطعم الحاج داود«. وكان للمقهى مسبح ذو شاطئ رملي ناعم، وكان عميقاً جداً، كما كان أيضاً يؤجّر »الحسكات« )الحسكة هي لوح ركمجة يُستخدم مجذاف في توجيهه(.

أضحى المقهى قبلة العائلات الدمشقية التي تقصد بيروت أيام الجُمعة )يوم العطلة الأسبوعيّة في سوريا( للنزهة أو السباحة أو التسوّق، وكانت العائلات القادمة من حلب ومن اللاذقية تتواعد على اللقاء فيه، كما كان مقصداً للسيّاح العرب. وكان روّاده من الزبائن المحليّين الذين يقصدونه باكراً لتدخين الأركيلة، أو لعب الورق وطاولة النرد، أو تناول أطيب ترويقة فول )مُحاطة بتشكيلة واسعة من الأصناف(.

احتضن المقهى المثقفين والشعراء إضافة إلى الصحافيين والسياسيّين، وتردّد إليه بشكل دائم الشاعر أمين نخلة، والفنان التشكيلي مصطفى فروخ، ونقيب المحامين الشاعر ميشال عقل، وآخرون ممن أسسوا تاريخ لبنان الحديث سياسةً وأدباً وفكراً.

ومن روّاد المقهى أيضاً الوزير والأديب السوري عبد السلام العجيلي. أما الشاعر العراقي الساخر أحمد صافي النجفي فكان يعتبر مقهى الحاج داود مكتبه ويعقد لقاءاته فيه، وكان يجلس جلسة مزاجيّة فلا يكتفي مثلاً بكرسي واحد يجلس فيه، بل يستعين بآخر يمدّ عليه رجليه أو يتكئ عليه، وثالث يضع عليه الصحف. أما الذين يلتفون من حوله فكان كل واحد منهم يسحب كرسياً ويُدنيه منه جالساً عليه حتى تتألف حلقة كانت تضيق وتتسع حسب الظروف. وكان من صَحْبِه الشاعر والمفكر ميخائيل نعيمة، الشاعر القروي )رشيد سليم الخوري(، والكاتب والأديب مارون عبود، وآخرون.واعتاد المُربّي السوري محمد كامل بنقسلي، مستشار وزير التربية والتعليم في الكويت انذاك الشيخ عبد الله الجابر الصباح، أن ينزوي في كل عطلة صيفية على طاولة في المقهى، وينصبّ على كتابة مؤلفاته من قصص الأطفال وكتب التربية النفسية للأولاد.

يقول الفنان التشكيلي أمين الباشا »هذا المقهى يترُك عندي جوعاً إلى الطفولة. كنت أزوره مع الوالد صباح كل يوم أحد، كان فيه مكتبة تدخل إليها من باب خشبي، يشتري الوالد منه كتاباً، وندخل إليه لوقت طويل، والدي يقرأ وأنا أشرب »الكازوزة« وأتفرج على البحر«. وجدير بالذكر أن مكتبة صغيرة ذات قنطرة حجرية وباب خشبي كانت موجودة بجانب المقهى، وكان رواد المقهى يشترون منها الكتب والمطبوعات، كما كانت »تؤجّر« الكتب أيضاً! وكان المقهى قبلة للسياسيين وأبرزهم الرئيس سامي الصلح الذي كان يرتاده منذ كان قاضياً، وحتى بعد أن اصبح رئيساً للحكومة، وكذلك ُمعظم نواب بيروت وعدد كبير من الصحفيين ومنهم مؤسس جريدة »النهار« جبران تويني، ولفيف من المنتمين إلى »حركة القوميين العرب«، الذين اعتبروا المقهى بمثابة منتدى لهم، يتداولون فيه أوضاع بيروت والسياسة والبلد.

وكان المقهى مركزاً للقاء يومي بين عبد الرحمن بكداش العدو )نقيب القصّابين وتجار المواشي(، ومنير فتحه )نقيب تجار الفواكه والخضار بالجملة(، ويوسف دوغان )نقيب تجار الفواكه والخضار بالمفرق( وعثمان المعبّي )أمين سرّ النقابة(، وكانوا يتداولون بمُستجدات الأمور السياسية والوطنية و»يطبخون« الإنتخابات ويحضّرون لها، وكان ينضم إليهم أحياناً الرئيس تقي الدين الصلح.

وكان الدكتور محمد خالد، ابن المفتي محمد توفيق خالد، ومؤسس المؤسسات الإجتماعيّة المعروفة بإسمه، يرتاد مقهى الحاج داود حيث يتواجد معه شقيقاه الدكتور بكري خالد، ومختار خالد، عضو مجلس بلدية بيروت، وكذلك البروفيسور وفيق سنو، الرئيس السابق لاتحاد جمعيّات العائلات البيروتية، وغيرهم، كما كان يُقيم مآدب الغداء في مطعم المقهى. والطريف أنه في حال وجود طارىء، كان يتمّ استدعاء الدكتور عبر إطلاق سهم ناري من سطح مستشفاه في محلة البسطة الذي يُشرف على موقع المقهى، وهو بدوره يردّ بإطلاق سهمين دلالة على أنه في الطريق إليهم، فيركب سيارته وينطلق مُسرعاً نحو المستشفى. وكان المقهى ملتقى لجميع الأطياف من المناطق كافة، كما ارتاده قبضايات بيروت، منهم راشد اللوزي، وأبو سعيد جنّون، ودرويش بيضون. وكان مدير الأمن العام الفرنسي في سوريا ولبنان المفوّض كولومباني يلتقي القبضايات في المقهى لتسوية الأمور وتهدئة الأوضاع! كذلك كان المقهى مقصد التجار ورجال الأعمال لتناول الترويقة واحتساء القهوة بسبب قربه من الأسواق التجارية، وتوقيع الإتفاقيات وإبرام الصفقات.

توفي الحاج داود خطاب عام 1904، وكان لديه ولد اسمه الحاج سعيد لم يرغب في التفرّغ للمقهى، فالتقى بالحاج محمد الحلواني وكان في حينه »شيخ كار القهاوي« أي رئيس نقابة أصحاب المقاهي، واتفقا على أن يُدير الحاج محمد المقهى وأن يقتسما الأرباح. ثم توفي الحاج سعيد خطاب وله ثلاثة أولاد، كامل وداود ورمزية، واستمر سريان الإتفاق مع الحاج محمد الحلواني. بعد وفاة الحاج محمد، استمر الإتفاق مع ولديه عبد القادر وعبد الرحمن، وكان يعمل لديهما شقيقهما عبد العزيز. وبعد وفاة سعدى وزان، أرملة الحاج سعيد خطاب، باع الورثة المقهى لعبد القادر وعبد الرحمن الحلواني.

وقد صوّر المخرج مارون بغدادي عام 1975 مشاهد من فيلمه »بيروت يا بيروت« )الذي عُرض عشية الحرب الأهلية و»اعتبر نبوءة بها«( في مقهى الحاج داود، والفيلم من بطولة عزت العلايلي، وميراي معلوف. كما صوّر في العام 1980 الفيلم التسجيلي »همسات« عن الشاعرة ناديا تويني، وفيه مشاهد عن المقهى. تم ترميم المقهى وتأهيله عدة مرات على مرّ تاريخه، وخاصة بعدما ضربته العاصفة العنيفة عام 1968، لكن بفعل الحرب واشتداد المعارك في فترة الحرب الأهلية اللبنانية، هُجر المقهى، قبل أن يُدمّر ويحترق بالكامل في كانون الأول / ديسمبر من العام 1975، ويصير في ذمّة الذكرى، وفيما بعد رُدمت المنطقة بأكملها في التسعينات!

كانت تعرفة المقهى عام 1970 على الشكل التالي: »الأركيلة مع القهوة والمرطبات 40 قرشاً، وصحن الفول مع رغيفين وسرفيس كامل 75 قرشاً، وصحن خضرة مطبوخة خمسة أصناف وقرص كبّة مع رغيفين 150 قرشاً، وأوقية اللحمة المشوية ورغيفين وسرفيس أو كيلو سمك مقلي أو مشوي ثلاث ليرات، وإذا أضيف حمص أو طرطور أو سلطة أو كبيس 50 قرشاً. وكان يقدّم بعد الأكل »فروتو« )فاكهة موسمية(«. وكانت القهوة مغليّة على الفحم »الدّقة«، أما الأركيلة فإذا أحضر الزبون التنباك فإن »الأركلجي« الحاج رباح حرب، كان يتقاضى 35 قرشاً لقاء الخدمة«. وكان المقهى درج على تقديم راحة الحلقوم مع القهوة إلى زبائنه، وهي فكرة اقتبسها عنهم حالياً بعض مقاهي وسط بيروت.

مسك الختام ما كتبه عبد اللطيف فاخوري في تعليق له: »خليج الزيتونة لحقته العُجمة فأصبح »زيتونة باي«… والحاج داود لم يعد مرغوباً به في الزيتونة الجديدة«. رحم الله الحاج داود خطاب )جدّ والدي(… كان ومقهاه رمزاً من رموز بيروت الجميلة الأصيلة وكان بحق »أيقونة الشاطئ«.

ـ مشاهد من منطقة الزيتونة حيث كان مقهى الحاج داود