إلى جبران باسيل

   »شباك مفتوح«:

رؤوف قبيسي:

»على رِسلك يا رجل«. هكذا كانت العرب تخاطب من يسترسل في القول، أو يمعن في الخطأ، وها أنت يا وزير الخارجية، لا تمعن في الخطأ فحسب، بل ترتكب الآثام أيضاَ. تقول للشعب إنك تريد الحفاظ على حقوق »المسيحيين«، وعلى نسب تمثيلهم في الحكم، وفي الحياة العامة، لكن هل تعرف يسراك ما تفعل يمينك؟ أنت ترتكب جريمة بحق »المسيحيين« وحق الوطن، وتقضي على الأمل الوحيد الباقي لنا من دولة الكوارث، وهو إقامة الدولة المدنية الإنسانية في لبنان، ليس هذا فقط، أنت تجرد المواطن من حريته الشخصية في أن يكون »لبنانيا« قبل أي شيء آخر، وهو ما يعادل الخيانة، وتفرض عليه نظاماً يصنّفه بهوية الولادة الدينية التي لا علاقة لها بالإيمان. ألم تدرك بعد، أن الناس تعبت من العزف على وتر الهويات الدينية الفارغة، التي لا معنى روحياَ لها، ولم تجلب إلا الخراب، وتعبت أيضاً من هذا النظام الطائفي الاقطاعي العنصري؟ ها أنت أيها الوزير »العتيد«، تمعن في الدفاع عن هذا النظام، وفي دفاعك هذا تدغدغ أحلام نظرائك الجالسين على كراسي الحكم، الذين يدّعون الحرص على حقوق الطوائف.

أنت هدية لهم من السماء، لأنك تتكلم لغة يؤثرونها على غيرها من اللغات. قد يظهرون الاعتراض على كلامك في العلن، لكنهم يؤيدونك في الخفاء، هكذا تقتضي قواعد اللعبة! يروقهم أن تكون المتحدث باسمهم، وتبوح بما لا يجرؤون على البوح به الآن.  لكن ساعة تطفو الغرائز على السطوح، ويشتد سعيرها بين الجموع، سيعلو صراخهم على صراخك، فهم أكبر منك سناً، وأغنى تجربة، وأقدر منك على  استثارة النعرات، واللعب بمشاعر الجماهير. لهذا السبب أقول لك أيها الوزير »العتيد«، إن التاريخ سيحاسبك على ما تقترف من أخطاء. أعرف أن لك أنصاراً وأتباعاً، كما لكل زعماء الطوائف،  معذرة اليراعة إذا قلتُ إنهم أشبه بخراف إسرائيل الضالة، وأنت لست الراعي الصالح.

اسمح لي بأن اقول لك أيضاً يا سيد باسيل، وأنت خير العارفين، إن في لبنان في المقابل، مئات الألوف من المواطنين الذين عافت نفوسهم هذه اللغة التي بها تتحدث، والتي لا يستسيغها إلا الطائفيون، وأمراء الطوائف، ولوردات الحروب، لأنهم يجدون فيها عسلاً طيباً على قلوبهم جميعاً. هناك أيضاً من يفرحون بهذه اللغة، أكثر مما يفرح بها الطائفيون، وزعماؤنا »الوطنيون«. أتريد أن تعرف من هم هؤلاء يا وزير الخارجية؟ أذكّرك بهم إن ينفع التذكير. إنهم »أخوان« لك من الفرس والعرب، يزعجهم أن يكون بلدنا دولة مدنية. يريدونه ملعباً لخلافاتهم، وساحة مفتوحة لحروبهم، من دون أن ننسى الصهاينة، الذين يريدونه منقسماً على ذاته، مشتتاً بين قبائل وطوائف، ليحققوا أحلامهم، ويصنعوا دولة يهودية صرفة، ترهب جيرانها في اليقظة والمنام، لتبقى الرمح الوحيد في الصحراء.

لا يحتاج الصهاينة إلى شراء مزيد من أسلحة الدمار، ما دام العرب مهيئين دوماً لقتل أنفسهم بأسلحة الآلهة، وانت أيها الوزير »العتيد«، ومن معك في هذا النظام، قادرون في أعراس الغرائز، أن تستدعوا هذه الآلهة، وتحققوا أحلام الصهاينة، وتجهزوا البلد، لمسرحية جديدة من مسرحيات العبث الفتّاكة. تباعاً على تقدم، سأقول لك كلاماً لا أخالك تقبله يا »معالي« الوزير، لكن ترضاه كل نفس أبيّة حرة في لبنان: هذا البلد ليس لك ولمن معك من »المسؤولين«، حتى تتحكموا بمصيره كما تشاؤون. لقد عانى ما فيه الكفاية، من أصحاب الشعارات الكبيرة، دعاة العروبة الوهمية، ومنظري العقائد الأممية، وتجاوزات أبوات الفصائل الفلسطينية، وجهل القيمين على المؤسسات الدينية، وها أنت بمواقفك المريبة أيها »العتيد« بين الوزراء، تدخله في أتون جديد من الخلافات، سيستغلها زعماء الطوائف، ليمنعوا قيام حكم مدني، هو في نظرنا، ونظر كل وطني مخلص، الحل الوحيد لهذا البلد المثقل بالهموم.

ما حسبت يوماً أنني سوف أخاطب مسؤولا بهذه اللهجة المرّة، لكن ما حيلتي وأنت تدفعني إلى ذلك. أعرف أن مواقفك تلقى ترحيباً وتصفيقاً من المناصرين والأتباع، ليس لأنك ذهبي الفم، بل لأنك تحيي غرائز بدائية، كنا على وشك الظن، أنها دُفنت في وادي الجماجم، وها أنت تخرجها إلى الشيوع. لو أنك تعرف شعبك حق المعرفة، وتهمك مصلحة الوطن، وتعرف كيف تقرأ التاريخ، لعدلت عن هذه اللغة، وأدركت أن أي عصبية دينية، سوف تثير العصبيات الأخرى. قد تحقق لنفسك مجداً وشعبية بين شريحة من الناس، لكن الأيام ستثبت لك أنه مجد عابر، وهباء منثور. الحكمة ليست في كثافة التصفيق وحدته، و لا في عدد الأتباع والأنصار  يا »معالي« الوزير. كلنا يعرف كم من الأنصار والأتباع كان لبعض القادة العرب، ولزعماء كبار مثل هتلر، وموسوليني، وميلوسوفيتش. لكن، من »المسؤولين« عندنا استوعب الدرس، مما أصاب أولئك الزعماء، وما حل بشعوبهم آخر المطاف؟!

أنت تحيي النعرات أيها »المسؤول« بين »المسؤولين«، لتنسي الناس الحالة الاقتصادية السيئة التي تمر بها البلاد. نرجوك، ونرجو القيمين على شؤون البلد أن »تخيّطوا بغير هذه المسّلّة«. هي لعبة لم تعد تنطلي على أحد، وهي مثل كرة القدم، التي كانت بعض أنظمة دول العالم الثالث تشجعها، لتصرف الناس عن التفكير في حاجاتهم اليومية المشروعة!  قبل سنوات، كان رئيس جمهوريتنا الحالي يخاطب اللبنانيين بالشعب العظيم. أين الرئيس من ذاك الخطاب؟ أين الوعود التي قطعها للناس؟! أي شعب عظيم هذا الذي خاطبه الرئيس؟! آسف أشد الأسف، إذا قلت لك وللرئيس، إن شعب لبنان لن يكون عظيماَ أبداً، ما بقي هذا النظام قائماً. تريد أن »تضحك على ذقوننا« وتذكّرنا بأنك »مسيحي«، وحريص على حقوق »المسيحيين«؟ ويذكرنا الزعيم الآخر بأنه »مسلم« وحريص على حقوق »المسلمين«؟ بئس هذا الحرص المهين يا »معالي« الوزير. لو قلتَ إنك تريد  لبنان وطن المسيح، لربما فهم الناس قولك وقدّروه، واعتبروه جميلاً، لكنه أبعد ما يكون عن ذلك، لأنه يبقي على الوطن قبائل دينية، لا علاقة بالإيمان الصادق، ولا بالمسيح القائل: »ليس كل من يقول يا رب يدخل ملكوت السموات، بل الذي يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات«. لا أخالك تفهم رسالة »المسيح« هذه، ولا »مشيئة الآب الذي في السموات«، كما فهمها سميّك جبران خليل جبران، وكتب عنها أجمل الفصول. هي رسالة لا يدركها المتدينون، والمتاجرون بالأديان وحقوق الطوائف، ولا القاسية قلوبهم من أهل السياسة والدين، بل من فهم الجوهر، وصفت روحه من أدران الأرض.

تقول إنك ترفض التمديد لهذا المجلس النيابي. نحن أيضاً نرفض التمديد لهذا المجلس. لكن أي عاقل يشتمّ من كلامك مآرب أخرى، ويرى فيه ما يمدد لحالة طائفية، كانت ولا تزال وبالاً على الوطن. أنت تمارس خلطة الدين بالسياسة، كما يفعل الداعشيون، وأصحاب العصبيات المذهبية. لو أردت رسالة المسيح حقاً، لسعيت إلى دولة أثبتت التجارب أنها دولة »الله« الوحيدة على الأرض، عنيت بها الدولة المدنية التي تحفظ القوانين والشرائع، وترعى حقوق الناس، وتقضي على العصبيات الطائفية والقبلية، وتوجد الأمة الحرة المتجانسة في روحها وهويتها وشخصيتها الاجتماعية. أعرف، وأنت تعرف، والكل صار يعرف، أن الدولة المدنية ليست في بالك، هي لا تليق بك ولا تليق بغيرك من »المسؤولين« على أي حال، ولو كانت موجودة لما كنت أنت في منصبك، ولا كان نظراؤك من »المسؤولين« في مناصبهم، وأولهم بالطبع، لوردات الحروب الملطخة آياديهم بدماء الناس، الذين حولوا البلد مزرعة، وجيروه للعرب والفرس والترك والأجانب، وجعلوه بقرة حلوباً، يستدرون، هم وأبناؤهم، لبنها وخيراتها!

 إن خانك الفهم وأنستك السلطة »رسالة المسيح« يا »معالي« الوزير، فسأذكّرك بها، وأقول لك ما عليك أن تفعل بوحي من تلك الرسالة: لا تجاهر بما تؤمن. لا تقل عن نفسك إنك »مسيحي« بعد الآن، وإنك حريص على حقوق »المسيحيين«، وإذا أردت أن تكون صادق الإيمان، فليكن إيمانك وديعة بينك وبين نفسك، وسراً من أسرار السماء، وإن نويت الصلاة »فادخل مخدعك واغلق بابك وصل في الخفاء«، ولا تكن كالمرائين الذين يصلّون في الساحات والمجامع، لكي يظهروا للناس! »هؤلاء استوفوا أجرهم«، على قول »نبي الجليل«، وأنت أيها  »العتيد« بين الوزراء، قد استوفيت أجرك، وأمراء الطوائف، ولوردات الحروب، وحيتان المال، قد استوفوا أجرهم أيضاً، استوفوه زيادة، ومن لحم هذا الوطن ودمه! أما أجرُنا نحن، كمواطنين أحرار طامحين إلى دولة حرة، فلم نستوفه بعد. هذا ما نريد، وهذا جل ما نطمح إليه يا »معالي« الوزير.

في الختام، لا أجد كلاماً أقوله لك ولخراف لبنان الضالة، أفضل من قول جومو كينياتا، الرئيس الأول لجمهورية كينيا المستقلة. قال: »عندما وصل المبشّرون، كنا نحن الأفارقة، نملك الأرض والمبشّرون يحملون الإنجيل. ثم علمونا كيف نصلي وأعيننا مغمّضة، وعندما فتحناها، وجدناهم قد امتلكوا الأرض، ونحن نحمل الإنجيل«!