مئوية صليبا الدويهي

 جاد الحاج

الدين لم يجمعنا لكن جمعنا الفنش قال التشكيلي اللبناني العالمي صليبا الدويهي ذات يوم، من دون حسرة أو أسى، فقد كان من الذين يرون الأمور كما هي لا كما ينبغي ان تكون، وعلى رغم رهافة حسه الابداعي لم يكن يشبه الصورة النمطية للفنان، بل بقي قروياً جهوري الصوت، عالي النبرة، ميالاً الى حسم الامور كما بضربة رفش أو خطفة منجل.

الشهر الماضي احتفلت زغرتا، مسقط رأسه، بمئويته، واعاد الاحتفال الى الاذهان سيرة رجل وفنان عاش واقعه الريفي ورسمه، ثم انتقل الى الفضاء الأرحب ونقل ريشته والوانه الى عواصم العالم على مدى نصف قرن من الزمن. يخطىء مؤرخو الفن المعاصر إذ يعتبرونه من الرعيل الثاني، بعد قيصر الجميّل، وعمر انسي، ومصطفى فرّوخ، مؤسسي الحركة التشكيلية الحديثة في لبنان، الا ان تميّزه عنهم بالسفر الى الخارج واللحاق بتطورات الفن المعاصر، لا يلغي ريادته بشهادة لوحاته البكر التي لا تفرق في الشكل والمضمون عن لوحات الفرسان الثلاثة. نعم، لقد حلّق الدويهي بعيداً فيما ثابروا هم على اساليبهم الكلاسيكية حتى النهاية، لكن الفارق الزمني بينه وبينهم لم يغيّر في حقيقة وجوده على خط الريادة الاولى.

 عندما عاد قيصر الجميّل من باريس هاجم المدرسة التكعيبية على أنها مناقضة للفن الصحيح. وكتب مصطفى فروخ : »بيكاسو، دوفي وماتيس دجالو الفن الذين مسخوا الفن والأخلاق.«.كذلك يوسف الحويك الذي وصف بيكاسو بأنه لا يحسن الرسم. وحتى صليبا الدويهي نفسه بقي بعد عودته الاولى من باريس الى لبنان أسير إرشادات معلمه حبيب سرور )1860-1938( ولم يتمكن من فك قيودها إلا بعد أن ألقى على عالم الفن نظرة ثانية أكثر عمقا وأوسع آفاقا وأكثر نضجا خلال إقامته في الولايات المتحدة الأميركية )إبتداءً من 1950( حيث انفتح على التحولات الكبرى التي جرفت العالم الجديد من التجريد التعبيري الى أسلوبي الطرف الحاد وحقل اللون… و إختفى الإنسان من لوحة الدويهي كما إختفت الطبيعة وجاءت أعماله إنعكاسا للرؤية المستجدة القائلة : على الفنان أن يضع طبيعته في الصورة وليس الطبيعة التي يشاهدها.

هكذا تحول المنظر الطبيعي الى فسحة واسعة من اللون تحتل أغلب مساحة لوحته. وتحولت لوحته من نقل المنظر الطبيعي باسلوب إنطباعي وملامح تعبيرية الى الإيجاز الأقصى.

 عندما جاء صليبا الى بيروت عام 1928 وشاهد الترامواي للمرة الاولى ظنه منزلاً يمشي! ولم تفارقه تلك الدهشة حيال كل جديد. اراد والده أن يزوجه من فتاة لم يشاهدها من قبل. إبنة صاحب بستان زيتون محاذية لأرض له. وكان طموح الوالد أن يجمع العقارين فيصبحا أرضاً واسعة : لو صليبا أخذ البنت بصير عندنا 36 فلاحة، بمثل مساحتها يمكن أن يعمل الإنسان نائب بالبرلمان!ش وعلى هذا الاساس هاجر صليبا الى الولايات المتحدة: »لما رجعت الى الضيعة كان كل همهم أن يعرفوا حجم ثروتي. لم يسألني أحد عن عملي سوى خليل الجر…«

اشتهر الدويهي بابداعاته الزجاجية. سليل عائلة بطاركة ومطارنة  وكهنة كان يأمل أن يرسم في كنيسة مار الياس في انطلياس خطوطا سريانية وكوفية : »من تراثنا الإسلامي العربي اللبناني الماروني«، ليشعر كل من يدخل الى الكنيسة كأنه دخل الى متحف« بحسب قوله. لكن حتى كنيسة القديس شربل التي زيّن جدرانها بزجاجياته الرائعة تعرّضت للتخريب خلال »حرب الاخوة« سنة 1980 ومثلما حصل لمعظم المبدعين المهجريين الذين سبقوه لم ينتبه »لبنان« لهم ولعطائهم الا بعد موتهم بسنوات…