مقام يحيي ذكرى دوروثي سلهب كاظمي في اول معرض استعادي لأعمالها

بيروت جاد الحاج

في مطلع شهر حزيران الماضي افتتح متحف الفن الحديث والمعاصر مقامش معرضاً استعادياً لمجموعة مختارة من اعمال دوروثي سلهب كاظمي: أكواب، وأطباق، ومزهريات، وأوعية ومنمنمات بلغ عددها 71 قطعة اضافة الى 16 منحوتة تجريدية جاءت كلها تقدمة من المتحف الدائم الذي اقامته اسرة دوروثي في بلدتها رومية. لقي المعرض الذي استمرّ حتى السادس عشر من الشهر نفسه اقبالاً واسعاً واختتمت اعماله بتوزيع جوائز »عصر الخزف« على فنانين من مختلف الاعمار شاركوا في المسابقة. وتجدر الاشارة هنا الى ان مقامش بدأ منذ تأسيسه عام 2013 باقامة معرض استعادي لأحد الرواد تمهيداً لتشجيع الفنانين اللبنانيين والمقيمين في لبنان على المشاركة في موضوع المعرض، فكان عصر الخشب، والحديد، وتدويرالنفايات في السنوات الفائتة من الانشطة الاكثر لفتاً للانظار من حيث القيمة الفنية والمستوى الابداعي.

ليس في التاريخ مرحلة نستطيع نعتها بـ عصر الخزفش مثلما هي الحال مع الخشب والحجر والحديد، لكن المؤرخين يردون علاقة الانسان بالطين على انواعه الى عصور مبكرة سبقت التحول الجذري الذي نقله من مادة داعمة للبناء والربط الى إناء لاحتواء السوائل والحبوب وغيرها، فالى الإبداع الفني، مع نموّ المدنيات البكر حول العالم. ولذا عثروا على الادوات الفخارية كالجرار والاباريق والأطباق ناهيك عن المنحوتات الحرفية في القارات الخمس وعبر حقب مختلفة. وقد تعزز دور الطين في بناء المساكن مع تطور الهندسة المعمارية حتى باتت بعض المدن متاحف حية ما زالت مسكونة حتى يومنا هذا خصوصاً في اليمن وفي موانىء الخليج واريافه كما في المغرب وتونس والجزائر.

في شرق البحر الابيض المتوسط الواح دهرية من الآجر عثر عليها الجيولوجيون وترجم العارفون باللغات القديمة حروفها ملاحم ما لبث الباحثون في اصول ديانات المنطقة ان ربطوا بينها وبين النصوص السماويةش الحاضرة. لكن الكنعانيين والفينيقيين والفرس والسومريين تركوا خزفيات من مختلف الاحجام كشفت عن تقدم مذهل في الصناعة البدائية خصوصاً بالنسبة الى تقنية الشواء على حرارة مرتفعة.

أخذ الخزافون العرب المعاصرون حرفتهم الى فضاء الفن التشكيلي على غرار فناني الخزف في اليابان واوروبا. وبرع منهم كثر كاليمني الراحل عبده ناجي الذي اختارته الغارديان احد اهمّ عشرة خزافين في المملكة المتحدة. اما في لبنان فنلحظ اتجاهاً نسوياً بارزاً نحو السيراميك والفخار : غريتا نوفل، مي عبود، مي حداد، وسمر مغربل التي تتلمذت على ايدي دوروثي سلهب كاظمي، وتسلمت محترف الجامعة اللبنانية الاميركية لتدريس فن السيراميك من بعدها.

ودوروثي كاظمي التي رحلت سنة 1990 عن اقل من خمسين سنة هي اول خزافة عربية تنقل حرفة الطين من الفخار الى الحجر عبر رفعها درجة حرارة الشواء الفرني من 800 الى 1200 درجة مئوية. وذلك انجاز مهني على قدر كبير من الاهمية. فالطين، بحسب وصف الناقد والمؤرخ سيزار نمور، مادة فنية ظاهرها بسيط، لكنها اكثر المواد تعقيداً، لأن سياق العمل فيها يتضمن عوائق واشكالات امام الابداع لا مثيل لها في الحرف الفنية الاخرى. بل يمكن القول بوجود مرحلة قدريةش في سياق انجاز العمل، خصوصاً بعد الفراغ من البناء الاولي أو اكتمال جنينش القطعة الفنية، تمهيداً لتلوينها وشوائها وتبريدها، حيث تتم مواجهات المخاض الصعب مع ردات الفعل ومؤثرات الصُدف على انواعها.

من الضروريش قالت دوروثي ان نحس الادوات التي تؤثث عالمنا. اما الادوات المصنعة في المعامل فهي غالباً خالية من الروح، ميتة، والعيش معها يشوش العلاقة البشرية بالمحيط الحيّ.ش من هنا جاء اصرارها على التخلي عن رفاهية العجلة الكهربائية في صنع ادواتها، والعودة الى العجلة القدمية القديمة إمعاناً في التواصل الحسي مع مادة ابداعها. رأت دوروثي ان العجلة الكهربائية تلغي حميمية الوصال بين يد الفنان وبين الطين المتكوّن باللمس المرهف والذائقة الخلاقة. واضافت: اتبع سليقتي، ولا اهتم للمؤثرات التشكيلية الرائجة، بل افكر دائما انني ابحث عن اللقاء بالطبيعة، وذلك البحث هو الاكثر حضوراً اثناء عملي.ش

في المحصلة النهائية إنها اكواب صغيرة تشبه نبات الفطر الكبير، بينها اطراف واعضاء وجماجم مخلوقات خشبية كأنها تحطمت منذ دهر وتلملمت في انبعاث جديد، تحيط بها ازهار ساكنة، مسكونة بالتامل والرقة، ذات ملامح هيولية محيرة. انها الطبيعة متقمصة في اصداء تذكرنا بالشجر واليناع والمرأة. ليست زخرفية، بل تنضح بجمال خالص، ملؤه الوجدانيات والاحلام. وتعتقد دوروثي ان افضل الاعمال الفنية هي التي تعيش مع الناس في الفة حميمة، كالسجاد، والصحون، والمزاهر، حتى السلالم المصنوعة بأيد حريصة تشي برفاقية طيبة تجاه العين.

 وتقول التشكيلية المخضرمة واستاذة الرسم في الجامعة الاميركية في بيروت عفاف زريق : »ان شغف دوروثي بالاشكال الملموسة يتخطى الاهتمام الفني المعهود، لأنها وجدت الهاماً في كل جانب من جوانب الطبيعة حتى في أدق البذور والحصى. روحانيتها العميقة مقترنة بحب حقيقي للأرض، مما جعل أعمالها فريدة من نوعها بحق«.

بعد حصولها على بكالوريوس الفنون الجميلة في لبنان تابعت دوروثي دراساتها في الدانمرك، المعروفة بطليعيتها في مجال التصميم المبتكر والسيراميك، هناك درست على يد الفنان الرائد جوت )1918-2008(. ترك أريكسن أثرا عميقاً على نهج دوروثي في التعبير الشخصي عبر انتاج أواني الاستخدام اليومي كالأباريق، والأكواب والمزهريات التي أصبحت أساس عملها. بعد ذلك سافرت دوروثي إلى اسكتلندا حيث درست الخزف في كورنويل مع الخزاف العالمي برنارد ليتش )1887-1979( رائد السيراميك الحديث الذي جمع صفات الخزف الياباني مع الرؤية الغربية. وصهرت كاظمي المنحى الحديث في الخزف مع روحية الفن الإسلامي وفنون الشرق الأقصى، فضلا عن كلفها بـالكائناتش الصغيرة ذات الهوية الملتبسة.

عادت إلى بيروت بعد تدريس الخزف سنتين في غلاسكو/اسكتلندا )1968-1970( لتصبح أول استاذة للسيراميك في لبنان. زاولت التعليم في الجامعة اللبنانية الأميركية من 1971 إلى 1982 وعملت في مواقع حفريات »ميادين رحبة« في سوريا.