دفى حيث العطاء لا يفرّق بين محتاج وآخر

رؤوف قبيسي

فاعلو الخير في بلادنا كثيرون، لكن قلائل من يفعلونه على الوجه الأكمل. هناك من يفعل »الخير« وفي ظنه أنه يخدم البلاد والعباد، في حين أنه لا يخدم إلا شخصه في المقام الأول. مرات يكون الفعل لشريحة من المجتمع دون غيرها، أو لهوية واحدة في بلد متعدد الهويات، فيكون عنصرياً، وإن ارتدى مسوح الخير، أو يكون سياسياً لا وطنياً، يرمي فاعله إلى الشهرة، أو إلى التقرب من هذا الزعيم أو ذاك، أو من هذه الطائفة أو تلك، أو إلى تحقيق مآرب سياسية وإجتماعية، أو غرض شخصي لا يعرفه إلا هو.

هناك من يمنح مؤسسة تربوية أو جامعة، مبلغاً كبيراً من المال، فتخلع الجامعة اسمه على إحدى قاعاتها بحرف كبير، وما أكثر ما نجد هذه الظاهرة في جامعات لبنان. لست أدري ما إذا كانت الجامعات تتحقق من مصادر الأموال التي يقدمها المتمولون، وتنظر في سيرهم الذاتية، لتتأكد من براءة ذمتهم، وما إذا كانوا قد دفعوا الضرائب المستحقة عليهم بموجب القوانين، وإلا فإن »خيرهم« يكون في غير محله، ومالاً مسروقاً من مال الشعب! هناك من يقدم المال لبناء دور للعبادة، وفي ظنه أنه يفعل الخير، وكأن بلادنا تفتقر إلى المزيد من المعابد، وهناك الذيUntitled-1 copy يمنح المال للمؤسسات الدينية، وفي اعتقاده أنه يتقرب من أبواب السماء، من دون أن يدري أو يقدّر، مدى ما تحدثه هذه المؤسسات من كوارث في حياة الناس، وفي أرواحهم! في الدول الراقية لا تقبل الجامعات معونة متمول، إلا بعد أن تتحقق من أنه حسن السيرة، حسن الأحدوثة، ولم يجمع ماله بطرق مشبوهة. لا بأس من النرجسية، لو أحب متمول أن يرى اسمه على الحيطان أو على المداخل، ما دام في الأمر فائدة لجامعة أو لمستشفى، لكن على أن يكون الظهور معقولاً ومتواضعاً، لا كإعلان لصاحبه، وبأحرف كبيرة، تكون في بعض الحالات أكبر من اسم المستشفى نفسه، واسم الجامعة نفسها!

في فصل العطاء من كتاب النبي لجبران خليل جبران، يقول المصطفى لسامعيه من أهل أورفليس:

»من الناس من يعطون قليلاً من الكثير عندهم. يعطونه لأجل الشهرة، لكن رغبتهم الخفية في الشهرة الباطلة، تّضيع الفائدة من عطاياهم.

ومنهم من يملكون قليلاً ويعطونه كله.

ومنهم المؤمنون بالحياة، وبسخاء الحياة. هؤلاء لا تفرغ صناديقهم، وخزائنهم ممتلئة أبداً.

ومن الناس من يعطون بفرح، وفرحهم مكافأة.

وهنالك الذين يعطون ولا يعرفون معنى الألم في عطائهم. لا يتطلبون فرحاً، ولا يرغبون في إذاعة فضائلهم. هؤلاء يعطون مما عندهم، كما ينثر الريحان عبيره العطر في الوادي.

جميل أن تعطي من يسألك ما هو في حاجة إليه،، لكن أجمل من ذلك أن تعطي من لا يسألك، وأنت تعرف حاجته«.

لماذا هذه المقدمة عن فعل العطاء؟

الحق أن ما يدفعني إلى الكتابة، هو ما شاهدته يوم جلست في يوم صافي الأديم، في مقهى في وسط بيروت، مع مجموعة من لبنانيين ناشطين في عمل الخير، يقدمون المعونة إلى من يحتاجها في لبنان، من دون أن يكون عطاؤهم وقفاً على طبقة سياسية، أو اجتماعية، أودينية معينة. يعملون باسم جمعية تدعى »دفى«، تشرف عليها الإعلامية المعروفة بولا يعقوبيان.لا يمكن من يتابع نشاط هذه الجمعية، إلا أن يبدي إعجابه بهذه السيدة الفتية، والعاملين معها من عشرات الشباب والصبايا، يفتتحون كل سنة سوقاَ مجانياَ للخير في »ساحة الشهداء« في بيروت، توزع فيه العطايا على الفقراء والمحتاجين. ظاهرة تشعرك بأن أهل الخير في لبنان ما زالوا أحياء، وأن في البلد نيات طيبة كثيرة وخيراً وفيراً. من العاملين مع بولا وكانوا معها في تلك الجلسة: طارق أبو صالح، هالة جان عبيد، أمل عبيد، ياسمين زعتري، وآخرون، لم يتواجدو في تلك الجلسة، مثل الناشطة الاجتماعية ردينة عرب.

لا تقبل »دفى« العطايا النقدية، بل الأمتعة والملابس، والأدوية والمواد الغذائية، وأشياء مادية أخرى يحتاجها الفقراء، تقدمها إلى كل محتاج، بغض النظر عن هويته، وجنسيته، وعقيدته. كم يتمنى المرء لو أن هذه الظاهرة تشيع في بلاد العرب كلها، فلا يبقى هناك سائل ولا محروم. أحسنت بولا يعقوبيان في اختيار اسم »دفى« لهذه الحركة الجريئة، وحين نقرأ عن فساد أهل السلطة وحيتان المال في لبنان، والجرائم المتواصلة التي يرتكبونها، نشعر أن العاملين هنا رسل حقيقيون، وما يفعلون من خير، يفوق العطاء الذي يظهره الآخرون من أصحاب الثروات. شباب وصبايا يعملون بوحي من الحكمة القائلة: »إذا أعطت يمينك يجب أن لا تعرف يسراك ما أعطت يمينك«. لا شيء من التباهي في ضمائرهم. متطوعون لعمل الخير حقاُ، لا أحد منهم يقول »فعلت كذا وصنعت كذا« وهذا من الظواهر الجميلة في مجتمع مادي إلى أبعد الحدود، منكوب بحكام لم يفعلوا شيئاً غير نشر الفساد، وإشعال الحروب، وقتل البشر وهدم الحجر.

»الزمن دولاب« كما تقول الأمثال، وما أكثر ما تقسو الحياة علينا، نتيجة الأزمات والحروب، فتحول بعضنا إلى فقراء ومعذبين، ومحتاجين ومحرومين. هل كان أحد منا على سبيل المثل، يتوقع أن تشتعل في سوريا حروب بهذه الضراوة، ويتشرد الملايين من أهل البلاد؟ في لبنان الصغير، مئات الألوف من هؤلاء المشردين الذين خلعتهم الحرب من منازلهم، وشردتهم في الأصقاع؛ فوق الجبال وفي الأودية وعلى السهول، في البلدات والقرى والدساكر، وفي شوارع المدينة.

يحتاج المرء وهو يعاين هذه الظواهر إلى التفكير ملياً، وإنعام النظر في حال المحتاجين، وإلى التساؤل: كيف حصل هذا الذي حصل، وكيف وصلت ألامور إلى هذا الحد الذي لم يعد يطاق؟ من المسؤول عن ذلك كله؟ لقد تجاوز شبح الفقر حياة اللاجئين السوريين والفلسطينيين، وأصبح يخّيم على حياة عدد كبير من اللبنانيين أيضاً، فيما العالم غير آبه لا يفعل شيئاً، لا في لبنان، ولا في سوريا، ولا في فلسطين، وممثلو دوله يتنقلون في القاعات وتحت الأضواء، لكن لا ضوء في النفق، وحدها الدماء ما زالت ترسم اللوحة، ومن ألوانها تفوح رائحة البارود.

وسط هذا الذهول، وهذه الصور الأليمة من التقاعس وتراجع الضمائر، تتضاعف الحاجة إلى المزيد من هذا الحراك الذي تقوم به جمعية »دفى« في لبنان. نعرف من الاسم »يعقوبيان«، أن صاحبته من أصول أرمنية، فندرك قوة الدفع التي تحركها، ونكاد نتخيل الصور الحزينة التي سكنت خيالها الطري كطفلة وشابة وأم لولد، عن أهل لها وفدوا إلى لبنان كلاجئين أثناء الحرب العالمية الأولى، فراراً من المذابح والظلم والقهر والبؤس، وموجات الصقيع التي أودت بحياة مئات الألوف من البشر.

شكراً لك بولا يعقوبيان على كل ما تقومين به في حقل العطاء، والشكر معطوف على كل من يسندك في هذا السعي الطيب. إن جهودك رائعة وجميلة في حد ذاتها، وأجمل ما فيها أنها تكشف عن بشاعة نظامنا اللبناني العنصري، وصلف المتربعين على كراسي الحكم، لوردات الحروب، وشيوخ القبائل وأمراء الطوائف، الذين أثبتت العهود أنهم أشبه بمومياءات خارجة من المتاحف، لا علاقة لهم بالعصر ولا بالحياة، ولا حل منهم يُرتجى بعد ولا رحمة.