المهرجانات اللبنانية مطوقة بزنار من نار… لكنها تغني وترقص على هواها

بيروت – جاد الحاج

 لا يختلف اثنان ان المشهد اللبناني سوريالي الى حدّ بعيد. فالبلد مطوّق شرقاً، شمالاً، وجنوباً بنيران مشتعلة او جمر تحت الرماد. حكومته مكوك يغزل اجتماعات وجلسات ومآدب، ليعود فيكرّها بسرعة مذهلة، طرقاته تمسي وتصبح مآتم للمسرعين والمتسابقين والمسلحين والعالقين بين هؤلاء واولئك. مغتربوه في حيص بيص بين الحجزوالتروي وذووهم لا يجرؤون على تشجيعهم او شجبهم ففي افواههم ماء مُرّة عمّن اتوا من بلاد آمنة ووروا، بدل العودة اليها، ثرى وطنهم الغالي. والليرة ترتعد في مهب عاصفة الإجراءات الدولية، فيرتجف حاملوها وتتخلخل »صلابة« الصرح المصرفي الذي حماها قرابة ثلاثين سنة، فتمثل في المخيلة الجمعية هوة قاتمة بلا قرار. والغلاء فالت بلا حسيب ولا رقيب، والتلوّث يتربص بالآكلين والشاربين والمستحمين، والتضخم في اعداد النازحين السوريين يتفاقم وتستشري نتائجه السلبية، ولن يستقيل وزير واحد حفظاً لماء الوجه ولو تجاوز عدد النازحين نصف عدد اللبنانيين، او قضى الف مواطن مسمومين، او مقتولين على الطرق، او مهجرين الى حيثما استطاعوا لينضموا محظوظين الى الشتات اللبناني … لا، لن يدفع مسؤول واحد ثمناً لكل المآسي الواردة اعلاه، فالدولة في لبنان محصنة ضد كل انواع المحاسبة…

ومثلها مهرجانات الصيف العتيدة.

الثلاثي برجيت ياغي، رامي عياش، والين لحود
الثلاثي برجيت ياغي، رامي عياش، والين لحود

لا صوت يعلو فوق بالاحتفال بالحياة والسلام في مواجهة العنف واليأسا وما ذلك سوى تعبير تجميلي آخر لتصوير مهرجانات الصيف اللبناني خشبة خلاص متعددة المهمة، طليعتها تنشيط الحركة السياحية، تخفيف قحل الفنادق والمطاعم، دعم الدعاية المضادة للصورة السائدة والرائجة والراسخة عالمياً عن لبنان، ناهيك بتوسل الاشقاء ان يقتنعوا بالعودة الى »ديارهم« الثانية… آمنين ! هذا على السطح. الحقيقة ان المهرجانات المتكاثرة كبيض السمك، باتت عدوى مستجدة من فيروس التمظهرالعام، ومن ابرز اعراضه طلاء الواقع الهابط ببهرجات عابرة، سريعة الزوال، بل أقنعة تتلطى خلفها المجتمعات الفاقدة الشخصية، الواهية الاصالة، التائهة على هامش العصر، تستعير القشرة من بريق الغير فتصدق أن مساحيقها وجه يلتمع في الطليعة!

يحضر مهرجانات الصيف اللبناني سنوياً قرابة ثلاثمئة الف شخص، ثلثهم في اقل تعديل مداومون يتنقلون بين الجهات والمناطق، في سياراتهم او في الباصات الخاصة. وقد تبيّن في السنوات العشر الاخيرة ان أعمار اكثر من نصف جمهور المهرجانات تتراوح بين منتصف العشرينات ومنتصف الثلاثينات. ولذا رأينا تصاعد التجاوب مع اذواق الشبيبة المتغربنة، كونهم ضمانة لملء اكبر عدد من المقاعد. الا ان هذه النظرة التجارية البحت تتعارض في الجوهر مع رسالة المهرجانات الفنية الراقية التي تسلك طريق الاختصاص في نوع إبداعي محدد، كالمسرح او المسرح الغنائي او الرقص او الاوبرا وما شابه، او تصبو الى قطف أهم الظواهر الإبداعية من عواصم العالم، بعيداً من الطروحات الاستهلاكية مما نراه عادياً في المهرجانات اللبنانية اليوم. على سبيل المثل لا الحصر، نرى بيت الدين بمدمنا« على استضافة كاظم الساهر، لا لأن الساهر سيأتي بروائع جديدة كل سنة بل لأن جمهوره مضمون، جمهور مخلص لا يخيّب الآمال… انطلاقاً من هذه المقاربة تتضاءل القيمة المعنوية التي ارست قواعدها بواكير مهرجانات بعلبك في خمسينات القرن المنصرم، فاستضافت واجهة الفرق الفنية وقمم الموسيقى والغناء: أم كلثوم، فيروز، ايللا فزتجيرالد، بلاسيدو دومينغو… إضافة الى تشكيلات الباليه الاسترالية والبريطانية والالمانية والفرنسية، واوركسترات موسكو، وشتوتغارت ولندن، وبيتسبورغ، وباريس… ولكن، بالطبع، من دون إغفال جوني هاليداي، وستينغ، وجوان باييز، إنما ضمن حصة محدودة حفظاً للمثالية الثقافية التي جرى اسقاطها على وقع استفحال الرخص والهبوط والـبهرقةا التي نشهدها حالياً.

 بعلبك

احتفلت مهرجانات بعلبك الدولية بالعيد الستين بلليالي اللبنانية« مصدر انطلاق الأغاني والمسرحيات الغنائية التي طبعت تاريخ لبنان الموسيقي منذ 1957. وتضمن البرنامج استعادات من أعمال   فيروز والأخوين رحباني، زكي ناصيف وفيليمون وهبة وتوفيق الباشا ووليد غلمية وصباح ووديع الصافي ونصري شمس الدين وغيرهم ممن وقفوا في حمى الاعمدة الستة خلال نصف قرن مضى.  وجاء الختام تكريماً لروميو لحود الذي حضر الى القلعة للمرة الاولى منذ اكثر من حقبتين والقى كلمة مؤثرة تحية للجمهور واللجنة. أخرج المشهديات جيرار افيديسيان وصمم الرقص سامي خوري. اما المايسترو ايلي العليا فاعاد توزيع الموسيقى وقاد الاوركسترا.

مثّل الشباب في هذا العرض كل من رامي عياش، الين لحود، وبريجيت ياغي، فانشدوا لصباح ووديع الصافي وايلي شويري وآخرين بالإضافة الى خلطة من أغنيات الزمن الراهن. احيا الامسية ثلاثون راقصا وراقصة في عمل متكامل من انتاج لجنة مهرجانات بعلبك. وذلك بحد ذاته يمثل خطوة عزيزة في الاتجاه الصحيح على رغم الملاحظات النقدية فنياً وموضوعياً وتلك المتعلقة بعملية تنظيم التظاهرة:

للمرة الاولى نشهد إدخال اطفال رضّع حرم القلعة وفي اعداد ملحوظة.

للمرة الاولى تمرّ نصف ساعة على بدء الأمسية )اي بعد النشيد الوطني( ويستمرّ تدفق الجمهور حاجباً بكثافته نظر الجميع، ناهيك عن اندلاع الجدل والنقاشات المتعلقة بالمقاعد وارقامها… ومن قرصن هذا او ذاك المقعد! وقد جاءت هذه المفارقة المزعجة على خلفية تعزيز عديد موظفي الاستقبال وتزويد المداخل بثلة بنضرةا من شرطيات الامن العام لتفتيش السيدات.

من الناحية الفنية لاحظ بعض متابعي المهرجانات أننا »دخلنا في زخم متقدم عصر الكشكول« بحسب تعبير احدهم. ذلك اننا بدأنا في السنوات القليلة المنصرمة نلمس ميلاً واضحاً لدى منظمي المهرجانات الى جمع العصيّ من كل وادٍ وربطها في حزمة واحدة، وتزيينها بالزهر والزهو، وتتويجها بحروف ذهبية تفيض عواطف ملتهبة، الهدف منها بعث الزوغة في نفوس الجمهور: هيّا نجمع التالية اسماؤهم ونلبسهم زياء فضفاضة، براقة، حالمة. ولنجلب مهندس الصوت البارع وخبير بهلوانيات ضوئية يملأ الفضاء ولنعلن على الملأ كم نحن مهتمون بإحياء الذاكرة والمحافظة على الموروث، و… دعم الشباب!

لكن الحقيقة الجارحة ان تلك التدبيرة المنزلية ليست سوى شكل آخر من اشكال التلطي خلف اصابع الافلاس في الابتكار والفقر في الخلق والشح في المخيلة. فثمة فارق جوهري بين »الحفلة الموسيقية« التي تقام في اي مكان وزمان، وبين الانجاز الفني المرتبط برسالة المهرجانات خصوصاً بعلبك. فلو شاءت لجنة مهرجانات بعلبك بحق ان تولي الزرع الطالع من تربة الروّاد اهتمامها لكان اجدر بها ان تجمع ابرز المجلّين وتسهر على اقامة امسية لهم بأغانٍ جديدة يكتشفها الجمهور للمرة الاولى، تعكس ابرز الصفات والمواهب التي يتميز بها هؤلاء مما يشد عصبهم ويرفع معنوياتهم وينشط الترويج لأغانيهم. لكن شتان بين الاختيار بناء على رؤية تنطلق من صلب الاساس وبين الاستنساب بناء على ما تطاوله اليد وما توفره الظروف، فننتهي الى باقة من الاغاني المعروفة، اقواها وافضلها تلك القديمة التي لا تخلو منها ذاكرة وليست بحاجة الى تحميل الناس خمس ساعات سفر الى بعلبك ذهابا ايابا كي يستمعوا اليها للمرة الالف!

المشكلة هنا ليست في الفنانين، فبريجيت ياغي تتمتع بحنجرة واثقة، مدربة، متعددة القدرات، ولصوتها خامة تتألق في الشأو العالي. وألين لحود ذات صوت جسور، ودينامية متوقدة، وحس فكاهي محبب. ويتميزرامي عياش بحضور متين على المسرح حتى لو كان وحده تحت الاضواء ولمدة غير قصيرة، وصوته العالي قادر على استحضار الوديع الغائب الكبير. لكن، ومن دون محاباة، ليس بثلاثة من الجيل الصاعد يقدمون اغاني الكبار اللصيقة بالذهن العام، نحقق نقلة نوعية لواقع الاغنية اللبنانية، مما هو واجب المهرجانات الواعية لدورها، بعلبك او غيرها.

ـ