في شواطي الريح والغبار

لارا ملاك – بيروت

يبدأ لؤي زيتوني عمله الروائيّ »في شواطي الريح والغبار« بمقدّمةٍ يشرح فيها باختصار تشكّل العمل السرديّ وانبثاقه من الواقع، ليراه طريقة جماليّة لفهم هذا العالم. إنّه نوعٌ من إدراكٍ أفضل للواقع ومن وعيٍ معرفيٍّ يتشكّل أوّلا في ذهن الراوي لينتقل بعدها إلى ذهن القارئ. هكذا يكون الأدب الروائيّ إذا وسيلة للتغيير في ظلّ التحدّيات الحضاريّة وغربة الإنسان عن نفسه أوّلا وأخيرا. وهكذا تعرف ماذا يريد منكَ، يريد أن يُكسبكَ وعيا أفضل ورؤية أوضح تجيد نقل المشهد إليك كما هو من دون تشويش.

إذا بدأنا بملاحقة الدلالات المنتشرة في هذا العمل توقّفنا حتما عند العنوان، والعنوان غالبا هو إشارةٌ غامضةٌ نوعا ما تكون للقارئ حولها توقّعاته، ممّا يعطيه دوره في عمليّة إنتاج الدلالة، هنا يكون التأويل العقليّ الّذي يبحث عن دلالاتٍ عامّةٍ تتجاوز المعاني الحرفيّة للألفاظ، مثل أن تتكشّف له بعد ذلك علاقة العنوان بمتن العمل الروائيّ وتفاصيله، من هنا يكون العنوان الأكثر كثافة من حيث الدلالة. وتوقّعات القارئ في قراءة تعبير »في شواطي الريح والغبار« تحيله إلى المكان ليتساءل: ماذا يحدث في هذه الشواطئ؟ وما هي رمزيّة الشاطئ هنا؟ وما رمزيّة كلٍّ من الريح والغبار أيضا؟

بعدها ومن عوالم الرمزيّة المغلّفة بنوعٍ من الغموض تحطّ في عالم الرواية، وكما يقول لؤي زيتوني في مقدّمة عمله »أن يتشكّل العمل السرديّ، يعني حضور عالمٍ منفصلٍ مستقلٍّ، وإن كان ينبثق عن العالم الواقعيّ«؛ تدخل إذا عالما قائما في ذاته وتشاهد حواسك الباطنة الأحداث الحاصلة. تتبدّى لك الصورة بسرعة، إنّه صراع الإنسان في ما يسمّى الربيع العربيّ. يقصّ علينا يوميّات الأستاذ نظام وهو كما نفهم من خلال الوصف والسياق، في إحدى الدول العربيّة الخليجيّة، وهو لبنانيٌّ يمارس مهنة التعليم. هذا الأستاذ الطامح إلى المثاليّة في مجتمعٍ يتخبّط في الطائفيّة والفساد، يعاني الكثير من الضغوطات بسبب الانقسام الّذي يتمدّد كالمرض بين الناس ليصيب أيضا طلّابه في المدرسة.

وقد يكون لهذا العمل وظيفةٌ مرجعيّةٌ تاريخيّةٌ في نقل ملامح البيئة في زمانٍ ومكانٍ محدّدين، مع الإقرار بأنّ أيّ نصٍّ أدبيٍّ هو وثيقةٌ تاريخيّةٌ شاهدةٌ على عصرها، ولكنّ السؤال الأكبر الّذي تطرحه هذه الرواية هو الإنسان في زمن الربيع العربيّ بما يحمله هذا الربيع من معنى الحروب والنزاعات الفكريّة والمسلّحة واستفحال التزمّت الدينيّ والعصبيّات.

الأحقّ في الطرح من وجهة نظر المؤلّف على ما يبدو، إمكانيّة تفاعل الفرد العصاميّ المؤمن بالقيم الإنسانيّة مع هذه البيئة من دون أن يقع ضحيّة ما حوله. من هنا لا يكون الإنسان عربيّا فقط، بل يصير عالميّا أي نموذجا للإنسان بالإجمال وتفاعلاته مع كلّ طارئٍ اجتماعيّ، ويصير هذا البلد نموذجا للمجتمع الإنسانيّ العام الّذي يتحرّك دائما بفعل عوامل كثيرةٍ منها السياسة والمصالح الدوليّة والاقتصاد…

الأزمة المطروحة هي الأزمة الأخلاقيّة، ولا ينحاز الكاتب إلى طرفٍ سياسيٍّ ضدّ آخر، بل ينحاز إلى الالتزام بالقيم الفاضلة ضدّ كلّ أشكال الانحلال والانقسام والعنف.

والمفارقة هنا تكمن في الصّوت السرديّ، ولا نسمع في الرواية صوت الفاعل اللغويّ الحقيقيّ بشكلٍ مباشر، بيد أنّه يتخفّى وراء شخصيّتين. يكون الصّوت مرّة ذكوريّا فتدور الأحداث على لسان الشخصيّة المحوريّة »الأستاذ نظام«، ويكون مرّة أنثويّا لتتحدّث الطالبة »ياسمين« وتروي تجربتها. يتداخل صوتان سرديّان عايشا الواقع نفسه، ليشكّلا تجربتين متباينتين، وادراكين مختلفين للأحداث نفسها. وهنا الاختلاف طبيعيٌّ بحسب اختلاف درجات الوعي واختلاف الانتماء، ويكون تفاعل كلٍّ منهما متوقّعا وإن كان كلٌّ منهما في جهةٍ معاكسةٍ تماما. هذه الثنائيّة في السرد تعطي وصفا دقيقا للتفاعل القائم في المجتمع، كما تحترم التعدديّة وتباين المواقف على الرغم من احتدام الأزمة السياسيّة في عالم الرواية.

اختار لؤي زيتوني المدرسة مسرحا للأحداث ليلفت إلى تأثير الصراعات السياسيّة سلبا في قطاع التعليم، وأغلب الظنّ أنّ هذا الاختيار متعمّدٌ لأنّ المؤسّسات الّتي من شأنها أن تحافظ على الجيل الجديد وعلى الشباب العربيّ تساهم في عرقلة التربية، وبهذه الطريقة تقوم الإمبراطوريّات العربيّة المتهالكة وتستمرّ على حساب الضمير الإنسانيّ. فتفقد التربية والإعلام دورهما في تحفيز العقول على التحرّر والارتقاء. مثلا مقابل الأستاذ نظام المنفتح على كلّ الآراء والانتماءات مدرّسون يتملّقون السلطة والإدارة وينحازون لفئةٍ معيّنةٍ، ممّا يؤثّر سلبا في أدائهم الوظيفيّ وينقل الانقسام السياسيّ والدينيّ إلى داخل الصفّ ليعيق ذلك العمليّة التربويّة ويدفع ثمن ذلك الطلّاب والوطن بعامّة.

ليس ما يحصل لدى العرب قدرا أو تدخّلا خارجيّا أو سياساتٍ مسقَطة، بل للفرد دوره في عمليّة الانحدار الاجتماعيّ. تظهر الشخصيّات في الواقع داخل الرواية ولكلّ فردٍ دوره الفعّال في كلّ ما حدث، وهنا لا بدّ أن يتحرّك على الأقلّ جزءٌ من وعي القارئ لدوره في النزاعات الذائرة في محيطه. أدوات النزاع الأولى الأفراد، وهكذا يختلط الفرديّ بالجماعيّ ويكون صلاح الثاني من صلاح الأوّل.

ولا تغيب العاطفة عن الرواية، بل يحضر التفاعل الشعوريّ بين الشخصيّات وذلك من دون الغلوّ في الدفق العاطفيّ، ولهذا وظيفته في جذب اهتمام القارئ من دون الابتعاد عن القضيّة المركزيّة.

كلّ ذلك ويبتعد المؤلّف عن الوعظ المباشر، غير أنّه يدفعك للانحياز لمبادئ الحقّ. بهذا الأسلوب يُبقي على جماليّة السرد البسيط غير المتكلّف، فليست اللغة المستخدمة شعريّة وليست أيضا تقريريّة، بل تعرض بطريقة المونولوج الداخليّ ما علق في ذاكرة الشخصيّتين الأساسيّتين من أحداثٍ وصورٍ وانفعالات.

الشواطئ في هذا العمل هي شواطئ الغربة حين يشعر العربيّ في دول العالم العربيّ بالغربة، هي الشواطئ المفتوحة جغرافيّا والمنكمشة عقائديّا وفكريّا. أمّا الريح فهي الحركة القادمة من كلّ حدبٍ وصوبٍ لتغيّر معالم الغبار ولتعيد نبش الصحراء حتّى ترهقها وتخيفها. الدول العربيّة صجراءٌ كبرى يزداد جفافها يوما بعد يوم، وفي شواطي الريح والغبار صراعٌ لا ربيع فيه ولكن فيه سجونٌ كثيرةٌ ولنا نحن أن نرضى بدخولها مستسلمين خانعين ولنا أيضا أن نكسر قضبانها.

ـ غلاف رواية د. لؤي زيتوني

ـ د. لؤي زيتوني… الشواطيء هي شواطيء غربة العربي في البلاد العربية