في كتاب »رحلة في ذاكرتي« لعدنان حسن قباني

رؤوف قبيسي:

 بين يدي كتاب عنوانه »رحلة في ذاكرتي« لرجل ليس بأديب، ولا بسياسي، ولا بمؤرخ، هو عدنان حسن قباني. لم أسمع من قبل باسم هذا الرجل الذي جاوز الخامسة والثمانين، ولا أظنك سمعت أنت به أيضاً أيها القارىء الكريم. عذرنا مقبول على أي حال، لأن لا أحد منا قرأ اسمه يوماً في الصحف. هو أبعد ما يكون عن حرفة الأدب، ومهنة المتاعب، لأنه أمضى جل حياته في أعمال المحاسبة والصيرفة، والمطابع لا تعرف كتابأ آخر من تأليفه، أما كتابه هذا الذي أحدثك عنه الآن، فليس للبيع، ولم يصدرعن دار نشر، فقد طبعه صاحبه على نفقته الخاصة، ليهديه إلى المقربين منه، من أهل وأقارب وأصدقاء.

قد تستغرب أيها القارىء عنوان الكتاب، وتقول: من يكون عدنان حسن قباني هذا لأقرأ سيرة حياته؟ هو ليس من المشاهير، وليس من الذين كتبوا، أو ناضلوا، أو مثلوا، أو ولجوا حقل السياسة، النظيف منها والموبوء. تساؤلك في محله، لكن لا تستغرب إذا قلت لك، إني لم أقرأ في السنوات الأخيرة كتاباً أجمل وأمتع من هذا الكتاب. لا أعني هنا السمة الأدبية التي نجدها في اللغة العالية، أو لغة »المدارس العليا«، كما يسميها الفقهاء وأصحاب البلاغة، لكن هل في لبنان وبلاد العرب من يكتب هذه الأيام بلغة هذه المدارس؟! هي لغة جميلة على أي حال، صافية لا موحلة، لا شيء فيها من التكلف والزخرفة، بسيطة كبساطة روح صاحبها.

 شاءت المصادفة أن أقرأ في صحيفة اللواء اللبنانية سطوراً عن هذا الكتاب، بقلم صديقنا الكاتب عبد الفتاح خطاب. قرأت أن قباني يتحدث عن بيروت القديمة، وعن عادات أهلها وتقاليدهم، وأنه انتمى في صباه إلى حزب النجادة، ثم إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، وأنه دون جزءاً غير يسير من ذكرياته عن بيروت الأربعينات والخمسينات: بيوتها والساحات، أزقتها والدروب، أسواقها افراحها وأعيادها، وما اكتنف ذلك كله من مظاهر وصور وأحداث.

راقني ما قرأت. اتصلت بالصديق خطاب، طالباً إليه رقم عدنان قباني. هاتفت الرجل، واجتمعنا لساعات في أحد مقاهي الشطر الغربي من بيروت. وجدت نفسي أمام رجل عجنه الدهر وصقلته التجارب. أهداني كتابه، وحين ودعته وطفقت أنظر في الكتاب، شعرت كما لو أنني أشاهد فيلماً سينمائياً مشوقاً، وقدرت أن الكتاب ليس سيرة رجل بمفرده، بل سيرة كل بيروتي، وجزء من السيرة الجماعية لكل اللبنانيين، وأنه كنز من المعلومات الهامة، لا بد أن يدونها مؤرخو الأحداث، ويعرفها المواطنون على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم، وهو إلى جانب ذلك كله، رحلة عبر السنين عن حكايات كثيرة عاينها المؤلف في بيروت القرن العشرين، ومشاهدات اختبرها في الشرق والغرب؛ في القطب الشمالي وأفغانسان، في الهند وأوستراليا، في كوريا والفيليبين، وفي غيرها من الدول، كل ذلك بسرد طريف يجعلك تشعر كأنك تعيش المشاهد أمام عينيك.

لا تسمح المساحة المفروضة في هذه الصفحة بأن أنقل مواضيع هذا الكتاب وكلها شائق، خصوصاً ما يتصل منها بعمليات تهريب الذهب من لبنان إلى كثير من بلدان العالم، إذ كان اللبنانيون في الخمسينات والستينات، عباقرة هذه التجارة العالمية المخالفة للقوانين، وأسيادها من دون منازع، وكان المؤلف شاهداً لها عن قرب، وكانت تتم في زمن لم تكن المطارات حول العالم مزودة بأجهزة الرصد والكشف المتوافرة في هذه الأيام. روايات طريفة أشبه بقصص القراصنة، عن رجال أقوياء ينطلقون من مطار بيروت، وفي معاطفهم وحقائبهم اليدوية، كميات كبيرة من الذهب، منهم من ينجح فيصيب جزءاً من الثروة ضئيلا، فيما الحصة الكبرى تذهب إلى التاجر الجشع في بيروت، ومنهم من تبوء رحلته بالفشل، فيدفع الغرامة العالية، أو يُسجن. في الكتاب قصص كثيرة مثيرة عن مهربين، منها واحدة عن مهرب لبناني قبض عليه في كوريا وسجن، ثم تمكن النائب ادمون رزق من الإفراج عنه أثناء زيارته تلك البلاد.

 أذهب إلى ما هو أهم في قصص الفساد، فتصدمني الفضائح! أكتشف أن لهذا الفساد المعشش في لبنان اليوم جذوراً في الماضي. أفتح الصفحة 53، واقرأ أن بعض العائلات السياسية في الخمسينات، استولوا على مساحات واسعة من المنطقة الثرية المعروفة اليوم بالرملة البيضاء. سجلوها بأسمائهم وأسماء اقرباء لهم! يقول المؤلف إنه وثق معلوماته حول هذه السرقات. اتصل بمهندسين في بلدية بيروت، فأكدوا له صحتها، كما اجتمع بصديق له اسمه موفق تسابحجي، فأفاده هذا الأخير، أنه، هو وأخواه، محمد ووحيد تسابحجي، اشتروا سنة 1965 فندق »بياريتس« من الشيخ بيار الجميل، وكان هذا الفندق قائماً على أرض مساحتها 3600 متر مربع، بالقرب من مقر رئيس مجلس النواب الحالي بمنطقة عين التينة. يقول قباني عطفاً على ذلك، إنه اجتمع ذات يوم إلى رجل من سكان منطقة مار الياس في بيروت اسمه إيلي عيسى، فأكد له هذا الأخير صحة ما لديه من معلومات، وأخبره عن سياسي من خارج بيروت » كان واجهة، وشريكاً لهذه الطبقة من السياسيين في قضم أراضي الرملة البيضاء، واسمه الدكتور م. ي«!

تساءلت: من يكون إيلي عيسى هذا يا ترى؟ أيكون »إيليا عيسى«، معلم اللغة السريانية الذي قابلته قبل سنوات في منزله بحي مار الياس، وكتبت عنه مقالاً في »النهار« ؟ أفتح هاتفي على الاسم والرقم وأتصل، فيصلني صوت »إيلي عيسى« على أنه »إيليا عيسى« ذاته. يا لها من مصادفات! مرت دقائق تبادلت فيها حديث الود مع »أبو سرجون«، »أخذته« بعدها إلى بيروت الخمسينات، لأتأكد من صحة ما جاء في كتاب عدنان قباني. لم يتذكر »أبو سرجون« الذي جاوز الثمانين رجلاً اسمه عدنان حسن قباني، لكنه أكد لي صحة ما قرأت عن »قضم« بعض العائلات السياسية أراضي الرملة البيضاء، وقال: » نعم، أخذوها وما كان بمقدور أحد ردهم. أخذوها ببلاش، منهم من سجلها باسمه، ومنهم الذي سجلها باسم أولاده أو أحفاده، ومنهم من أخذها بسعر زهيد، ليضفي على العملية صفة قانونية«! أكد لي المعلم عيسى أيضاً أن آل الجميل كانوا هم بالفعل مالكي فندق »بياريتس«، وأنهم باعوه سنة 1965.

يفتح الموضوع شهيتي، يأخذني إلى زمن مضى. أتذكر أنه كان لي من بين عشرائي في لندن، صديق بيروتي من عائلة تسابحجي اسمه جمال. أحاول البحث عن رقمه عند بعض الأصدقاء، فتسعفني المحاولة. أتصل بجمال، بعد أن فرقتنا الأعوام الطوال. أجده قد عاد إلى بيروت، ويدير من وسطها التجاري شركة عقارية. أسأله بعد قراءة السلام، ما إذا كانت له صلة بالأخوة موفق ومحمد ووحيد تسابحجي. أكتشف أنه ابن وحيد، وأن والده وأعمامه )موفق ومحمد(، وقد رحلوا جميعهم عن الدنيا، كانوا هم من اشتروا الفندق في العام 1965. إشتروه من الشيخ بيار الجميل، الذي كان في حاجة إلى مزيد من المال ليمول حزب الكتائب وفق قوله. أخبرني جمال أيضاً أن في حوزته صوراً قديمة لوالده مع الشيخ بيار، وأخرى كثيرة عن الفندق.

بدا في صوته شيء من حسرة، وهو يحدثني عن المبنى الجميل الذي كانه الفندق، وقد بني في ثلاثينات القرن الماضي، على نسق فندق »بياريتس« في باريس، لكنه تهدّم في العام 1988 نتيجة حرب الجنون، التي شوهته وشوهت الكثير من المعالم التي كانت تميز بيروت عن مدن الشرق كله. أردف قائلا: »منذ رحيل الفرنسيين عن لبنان، والفساد عندنا يزداد شراسة. لن أبيّض صفحة أحد، لكن فساد الأمس ليس شيئاً قياساً إلى فساد اليوم، وأبالسة الأمس من السياسيين كانوا ملائكة، قياساً إلى سياسيي هذه الأيام«!