قراءة في ديوان – تأويل الهباء – العبّاس النابلسي

عندما يهِب الشعر المعنى ويهابه.

نسرين الرجب – لبنان

 ديوان »تأويل الهباء« للشاعر عباس النابلسي، والصادر عن دار باء، 2016، نصوص بلا عناوين، يفصلها عن بعضها الترقيم حتى الرقم )44(، وبعضها يشير إلى أن الشاعر خصّها لمهدى ما.

 يعبُر العنوان بنا نحو الدلالة الأولى التي تطرق باب المعنى ولا تدخله، وفيما إذا كان الشاعر صادق الرؤيا؛ قد يعطيك المفتاح، وما عليك سوى أن تديره في فُتحة القلب حتى ينفتح على مصراعية صاخبًا وخصبًا بدلالات قد تُشير إليك وتعنيك.264-30

 تأتي لفظة تأويل، في العنوان، بمعنى تفسير وبيان معنى الشيء، أو إعطاء معنى لشيء غير واضح، والهباء هو الغبار المتطاير، هو اللاشيء، هو اللاجدوى. فهل هذا الهباء هو العالم الفاني، أحاسيسه الزائلة، والحالات العرضيّة التي تُصيب المرء منّا، الحزن، الحب، الأحلام؟! قد تكون مهمة الشاعر هي اكتشاف المعنى، بل اختراعه حتى يخف العبء عن الروح المُثقلة بتعاسة هذا الكوكب.

 غياب العنونة في نصوص الديوان تفتتح أبواب التأويل على ما وراء المقول، فتداعي النصوص كتداعي الأفكار، حيث يحق للمتلقي ما لا ينتقص من حقوقيّة الشاعر، يحق له أن يدخل دوامة التأويل، وأن يضع افتراضات لا نهائيّة، أن يجسّ نبض الدلالة ويلهج بها، فالمعنى ليس واحدّا، المعنى حمّال أوجه، وطبعا هذا لا يعني أنّ العشوائيّة متاحة، لا يعني أن تُقوّل النص بما لا يحتمل قوله؛ » لا تجنح للتفسير وودّع لغة الصرف/ وانظر كيف الله يصرف آياته/ فالآن ستدرك أن لا معنى في النص سواك«.

 يوجّه الشاعر خطابه إلى غائب وقد يكون غائبة لا يرد لهما ذكر في أنحاء النص الشعري الممتد، هناك تعدد أصوات، لسان حال الشاعر الموسوم بـ«أنا«، ولسان غائب يتوجه إليه بالخطاب لعله غياب الشاعر عن نفسه، ولسان أنثى محجوبة لعلها سر الوصل وغاية الوِرد، فيقول: »اقرأيني/هذا أنا / ظل وجه/ يسبق الضوء حزنه بسنين«، يحيلنا هذا الخطاب إلى حالة تناص مع النص الديني حيث أمر الله،على لسان ملاكه المرسل نبيّه بالقراءة، على ما يحمله هذا الفعل في صيغته الآمرة من حنوٍ، وما توحي به من دعوة للمعرفة، فنتلقى بوح الشاعر، ونشرد في غياهب الفكر.

 في بداية نصّه الشعري الممتد يقول: »أنا وحدي«، وعلى مقربة من نهاية المنتصف، يقول: » أنا ثالث الاثنين..حسبي تردد/ أصير اليه/ أو يصير الي« وفي الختام يصل لخلاصة ما استنتجه: »هذا الكون نصف خيال ونصف هباء«، يجيد الشاعر صناعة العبارة الشعريّة، يستحضر خِطابات مُغايِرة، يبدل العلاقات اللغويّة، وينزاح بالكلام عن مقصوده المباشر، إنّه لا يدع مجالا للمباشريّة، وهنا تكمن صناعة الجمال اللغوي في الشعر، يُقطّع أوصال الكلام، يبعده عن مرجعيّته الحسيّة، ويحيله إلى أبعاد فلسفيَة وجوديّة، » الكون خلفك / وما تراه ليس أفقا../ لا ترجع البصر / في الحالتين كنت غيرك..« إن المفارقة التي تصنعها جملة شعريّة كهذه، تضرب بالمسلمات، تثير زوبعة الفكر، ولا تغادر قارئها، بل تضعه على طريق الكشف، تُصيبه بالوهم، فتخذله الأقاويل: » لا تخبرني عنّي،/ لست الذي أعطيه سرّك«.

 يبدو الرحيل سفرًا لا نهائيًّا، يبدو أنّه غاية كشف الذات،فالعالم سراب، وهم لا حقيقة فيه، فإلى أين الرحيل: »ارحل فلا وصل إليك إلّاك،/ ارحل مع الخريف أو مع المساء أو مع الفناء/ لا تفقد خطاك«، يظهر أنه الرحيل إلى الذات، المعرفة تبدأ من الداخل، الفلسفة تقول »اعرف نفسك بنفسك«، لذا فلا« وصل إليك إلّاك« العالم صورة غير حقيقيّة، هو ليس ما نراه عليه، هو انطباعاتنا الموروثة.

على القدر الذي تبتَعد فيه، يجذبك المعنى، يدعوك للدخول بلا حرج، » يساورني قرب/فأحيا على بعد« ويدعوك للتأمل في غرابة المقول: » أنت الغريق كما المراكب دون ماء/أو مدد«، الدهشة تتخذ مكانتها في البراعة اللغوية التي يحيك من خلالها الشاعر فرضياته، وهذيانه ايضًا، في تساؤلاته الوجوديّة قد يصل به الحزن مبلغًا فيتماهى معه، ويبالغ في تصويره »الحزن أنثى ظللت دمي/نامت على وسادتي/وكان صوتها كقرآن أخير..«، ، فيتعامل مع حالة الحزن كعنصر من عناصر الكينونة، كينونة القول الشعري: »الحزن مائي، نار أحلامي..«، فهو ليس بالشعور العابر، هو طريق الحكمة، ومن دون الحزن لن تولد القصيدة، »من يقتل الحزن سيقتل النشيد والمطر/ سيذبح الظلال والصلاة والشجر..«،و »لن يطلع الصبح بلا حزن« عندها يغدو الحزن حاجة، من دونه لا معنى للأشياء، هو حالة انسجام مع الكون، هو »المرآة، والمعراج: »الحزن مرآتي/ الحزن معراجي إلى سمائي العتيقة/ الحزن أنقى وردة في هذه الحديقة، أمشي به إلى عيون الناس…«، وهو صورة الأنا في وعيها الحاضر: »حزينة أنت / كما حزني أنا/ يا وردتي/ بدون ماء«

 يبتعد الشاعر عن البرهنة والإثبات، فالصورة عنده هي قوّة خصب يسعى من خلالها إلى هدم الواقع الحسّي المُدرَك، فهو يسعى للإبتكار، وهو الذي يعلق وعينا على محور الدهشة يدور ويدور كصوفي يعبث بالطقس، »يسكن في السر ولا يأبه بالحال ولا الأحوال«. يتمرد على السائد والبائد: » عشق الوصل وأفنى في الذات الذات«..

يحضر الحلم كتجربة المخاض »كلما اقتربت عيناك من الحلم احترقت وردة..«، فكيف يصير المعنى رمادا وبلا ضحكة!! وهذه عناصر الكون » الماء والنار والتراب غوايتي«، ويميتك هذا الهباء فضولا.

 في ديوان عباس النابلسي يتحرك النص وفق مبدأ العصْف، حيثُ تحاوطك رموز لا قِبَل لك بها، وتُقف على الندّ منك دلالات مُشبّعة بموضوعات الروح التأملُيّة في الكون والوجود؛ الوحدة، الحزن، الغربة، الرحيل؛ الظمأ لحالة العشق؛ التمرد وهو ابن الريح، تساؤلات الكينونة، والبحث عن المعنى، وهو الثقيل في معناه ، فلسفة اللاوعي وسحر التأويل: »أُقلب وجه مرآتي../ أسافر خلف حكايتي../ أحيا/ أموت/…/ يقابل ضدّه ضدّي/ كمن صاح في قفرٍ/ ولاذ به السكوت«.

هذا الهباء محاولة للهدم والتضليل، وسفر في عالم التأويل، لوما الخيال لأفجعنا نزف الشعراء في وحيهم المرسل.