قراءة في ديوان سيرة لأبناء الورد لعمر شبانة

بيروت من ليندا نصار

قبل الولوج في ديوان »سيرة لأبناء الورد« الصّادر عن دار الأهليّة ذ عمّان 2017، للشاعر عمر شبانة،لا بدّ لنا من أن نبحث في معنى عنوان الدّيوان حيث نجد الشّاعر متمثّلا بعروة ابن الورد وهو شاعر أيضا عاش صعلوكا متشردا لا مأوى له، والذي كان على الرغم من تشرده، يساعد الضعفاء، والمحتاجين، ويظهر ذلك من خلال الإهداء مفتاح القصيدة:«إلى معشر أحفاد عروة بن الورد أبناء الحياة، الحرّيّة والحبّ والجمال«.

تتشكّل الكتابة الشعريّة لدى عمر شبانة وفق جماليّات خاصّة تعبّر عن تجربة استثنائيّة، ما يدفع بالمتلقّي نحو البحث شيئا فشيئا لفهم العمق الّذي بثّه الشّاعر ما وراء كلماته، إذ نلمح عنده ربطا كبيرا ما بين اللّحظة الآنيّة والتّاريخ، متطرّقا إلى مواضيع تلامس الإنسان والحياة والموت

قراءة في ديوان سيرة لأبناء الورد لعمر شبانة
قراءة في ديوان سيرة لأبناء الورد لعمر شبانة

والعادات والتّقاليد والوجود والطّبيعة…

يعبّر عمر شبانة في ديوانه عن قلقه المستمرّ تجاه قضيّة الخيارات الّتي يبدأ الإنسان باتّخاذها في حياته، فتتأرجح كلماته ما بين الحرّية والقيد. وقد يبدأ ذلك من خلال الطّفولة بحيث تفرض الأسماء على هذا الطّفل فلا يستطيع تغيير مصيره، وينطبّق ذلك على مسار حياته. إذا نحن في مغامرة مع الاسم الّذي يتحكّم بمصائرنا:

» باسمي الذي ربيته في غابة الأسماء/سنطير يوما ما معا/ وسنكتب الدنيا/كما شئنا معا.

أمشي وراء اسمي/أعلمه الكتابة والغناء وخلفه أمشي/يعلّمني الحياة.«

في »سيرة لأبناء الورد« يكتب الشاعر سيرةَ حياة شخص ما على نحو شعري، ولا يفصح عنه بطريقة مباشرة، فيعبّر عمّا هو عليه وعمّا يريده، تاركا للقارئ خيوطا شعريّة يستطيع فهم ما يمرّ من خلالها، عبر التّأمّل والتّعمّق بتعرّجات حياة الإنسان، وقد تبدّى لنا ذلك من خلال ذكر أهله، وعائلته، وأحفاده، وبرجه، وأجزاء متقطّعة من طفولته، والأرض والطّبيعة الّتي أثّرت به، والحروب والأوطان…

»عرفت الدرب نحو اسمي/عرفت الريح تحملني إليه/عرفت أشلاء المغنّي في دمي/ وعرفت أني سوف أجمعها/لأكتب سيرتي الأولى/وأجمع من شظاياها/حروف اسمي«

يقيم الشاعر في المسافة ما بين الواقع والحلم، فيخلق عالما من الحبّ والجمال، يناقض العالم الواقعيّ الذي أصبح يحكمه البغض والحقد. إنّه عالم بعيد عن الحروب والمعارك والدماء. إنّه عالم كثير الحرّيّة تتّسع فيه الرّؤية لتطلق كلمات عبر قصيدة لا تحدّها قضبان.

في ديوانه هذا يجسّد الشّاعر حقيقة الإنسان الريفي عبر استعارات معظمها من الطّبيعة مرادف الجمال، فتكثر المفردات التابعة للحقل المعجمي للقرية والريف: »ولدت بروح فلاح جسور«،

»ولدت بصوت راع«… وهنا تبدو لنا شخصيّة الشّاعر المرهف الّذي لا يتحكّم بعواطفه أحيانا، بحيث يترك شخصية النّاقد جانبا، ويبدأ الحديث عن طفولة الإنسان الذي يكوّن له اسمه نقطة انطلاقه في هذه الحياة، فتكاد رموز العالم لا تكفيه للتّعبير عن كلّ ما عايشه، لتكتمل الصّورة الشّعريّة في السيرة الشعرية الذّاتية.

»الحبّ، الجمال والطبيعة« كلمات اختصرت الدّيوان وجعلته أكثر انفتاحا على الإنسان والحياة وتحقيق الأحلام، بوساطة هذه الكلمات يرمّم الشّاعر ما دمّرته الأنانيّة والحقد والبغض… أوليس الشّعر تعبيرا عن الحبّ الحقيقيّ، من جهة، وإعادة خلق للواقع، من جهة ثانية ومنفذا للنّجاة من مضايق الأنا في مجتمع نموت فيه كثيرا ونحن على قيد الحياة؟ وهل ثمّة أكثر من الطبيعة احتضانا للإنسان الهارب من مأساة الحرب والدماء؟

وفي مكان آخر يظهر الشاعر وفاء للأجداد وللتراث وللأرض الإرث الكبير ولكنه ينشد الحرية في اتخاذ الخيارات المناسبة :« أنا الشاعرْ/ وشعري الحقلُ/قال لقمحه الفلاح/أحرث أرض أجدادي وأحفادي/وأبذر حنطتي/لا حنطة الأسلاف«.

يعمّم الشاعر إحساسه وفكره فتبدأ الأنا عنده بالتعبير عن الجماعة، فالاسم الذي يمثّل الإنسان بشكل عام، أصبح قادرا على احتمال كلّ الظروف:«على الحيطان كان اسمي/حروفا من غبار يعتريها الريح/في مدن الصفيح/وفي الخيام/وفي قطارات الغروب/وفي شتاءات بلا نار/وشمس دونما مأوى«.

تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الدّيوان يدعونا إلى التّوقّف عند القصيدة الّتي شكلت الافتتاحية: »اسمي الّذي يليق بي« فنجدها مرتبطة ارتباطا كبيرا بالقصيدة الأخيرة »حلم البدايات«، إذ نلمح خيط الأمل والولادة والبداية والحلم ما بين القصيدتين. ففي القصيدة الأولى انطلاق في تضاريس الحياة، وفي الأخيرة تعبير عن الحلم البداية التي تنقذ الإنسان من ضيقه. إنّه حاجة تطلبها روح الإنسان، وروح عمر تبغي الأغنية، الناي، الحلم، الحياة، الجمال، الطبيعة، الهدوء، السلام، وكلّ ما يؤسّس لصفاء ذهنيّ في فكر الإنسان:

» تتسلل الأحلام في روحي/فأبني قُبلة حينا/وحينا وردة/أو ثورة/ أبني من الأحلام/قبعة/وأغنية/وألف قصيدة للناي«

وفي مكان آخر يكتب الشاعر أملا يبقى مشتعلا: »ولدت الآن من حلم/كأن نجومه بيت هو الأمل«

في قصيدته »اسمي الّذي يليق بي« أيضا تبدو لنا الحرّية المنشودة في مضايق هذه الحياة. فالشاعر في مغامرة يحمل اسما ألقي عليه قبل أن تبلغ الأنا وعيها، ويكرّر الفعل »عرفت« أكثر من خمس مرّات فهذه المعرفة تأتّت من عمر بأكمله، وأراد توثيقها شعرا، وجمالا. يتحدّث الشّاعر في هذه القصيدة عن حبيبته، وعائلته، وحفيدته. عن الحياة الأولى، فيعتمد صيغة العرض لينتقل إلى صيغة الطّلب »أريد اسما«، بحيث يعمل على تناقضات اللّغة القائمة ما بين الحلم الّذي يريده، والواقع الذي يعيشه، ويلوم فيه التّاريخ والأسلاف والأجداد :« أنا اسم جرحته/أصابع الأبناء والأحفاد/نبشت خزائن التاريخ والآباء والأجداد«.

ثمّ ينتقل الشّاعر في ديوانه إلى موقع من نوع آخر، بحيث يتحسّر على البلاد التي فقدت ما كانت عليه من بهجة، وحرية، وحياة، وأثرت في نفسه، ما جعله يقصد العودة نحو الطفولة حيث:

»نهر الحياة:/نرى معا أشلاءنا/صورا على قيد الرحيل/نرى بلادا في كهوف الليل/نمشي في جنازتها ونبكي…«،

أو«سأرجع طفلا بلا أي حب ولا أي حرب«

تلفتنا في هذه الدّيوان عدة  رموز أسطوريّة منها: »عشتار«، وهي ركيزة ثقافية مهمة في الحضارة، كذلك يتطرّق إلى أسماء دينيّة مأخوذة من التوراة والإنجيل والقرآن: موسى وعيسى وأحمد… بالإضافة إلى ذكر أسماء بعض شعراء العرب القدامى: الفرزدق والحطيئة وامرؤ القيس… فقد وظّف الشّاعر هذه الأسماء في شعره فثقلت القصيدة وربطت ما بين الماضي والحاضر:

» كتبت اسمي/على الألواح: موسى/ثم في الإنجيل عيسى/ثمّ في القرآن أحمد/ومن طين/ومن ماء/ومن نور ونار«

»وولدت من دم من أحب/كأنني الفينيق/يا عشتار أولد كل ساعة«

في النهاية يمكننا القول إن هذا الديوان يعكس الحلم والأمل والحب والجمال، ويوثق سيرة شاعر، قلمه وردة مشتعلة بالحب اللامتناهي، وهي قد تكون سيرة جيل من »أبناء الورد«، وعلى الرّغم من خصوصيّة حرفه، إلا أنّه ارتأى أن يشارك القرّاء بها داعيا إياهم إلى وليمة محبة.