سِحْر الكلمة

سهير آل ابراهيم

 كانت جودي آن في الثانية والعشرين من العمر عندما اصيبت بالتهاب في الدماغ غَيّر حياتها كلياً.

في صيف عام 2011، حضرت جودي مهرجاناً غنائياً، اشتركت فيه الفرق الغنائية المفضلة لديها. استمر المهرجان لمدة أسبوع، وقد استمتعت به كثيراً، وظنت انها لن تنسى ذلك الأسبوع طوال حياتها! ولكن، حصل في ذلك الأسبوع أمر غير حياتها، ربما الى الابد.

لسعت جودي حشرةٌ اثناء تواجدها في المنتزه الذي أقيم فيه المهرجان، ولم يكن لذلك اي أهمية في البداية، ولكن بعد عدة أيام من عودتها لمنزلها، مرضت مرضاً شديداً؛ حيث بدأت تعاني من آلام شديدة لم تكن قادرة على تحملها، ولم تجد الكلمات الكافية لوصف شدتها. كانت لسعة الحشرة تلك قد سببت لها التهاباً في الدماغ شكل خطراً على حياتها، وجعل صحتها في حالة حرجة جداً.

بعد رحلة علاج طويلة، كان على جودي أن تتعلم المشي والكتابة من جديد! ورغم زوال الخطر الا ان صحتها البدنية والنفسية لم تعد كما كانت عليه في السابق. لم تنتهِ نوبات الألم كلياً، مما كان يدفعها احيانا الى التفكير بالتخلص من ذلك الالم والى الأبد، كانت تفكر احياناً بإنهاء حياتها لانها كانت ترى في ذلك نهاية أكيدة لمعاناتها.

تتحدث جودي عن ما تسميه )لحظة الرصيف(، وتعبر عن اعتقادها بأن الكثيرين يمرون بتلك اللحظة؛ عندما يقف الإنسان على حافة رصيف شارع مزدحم بمختلف انواع المركبات، ويفكر بسهولة إنهاء كل آلامه ومعاناته؛ لا يتطلب الأمر سوى خطوة واحدة يخطوها فتضعه أمام سيل المركبات، وينتهي بعدها كل شيء! لا تبقى بعد تلك الخطوة آلام أو هموم، لا يبقى بعدها خوف! لكنها لم تخط تلك الخطوة.

تذكر انها جمعت أمامها كل عقاقيرها، وأحصتها فكان العدد ثلاثمائة حبة. استلقت على أرضية الحمام في منزلها وفكرت ان تلك العقاقير تحمل الخلاص؛ فهي التي تستطيع أن تنقلها بهدوء في رحلة أبدية خارج هذا العالم. ولكن مرّ بذهنها خاطر جعلها تفكر؛ »هل أُنهي حياتي الآن؟ ما هي المبررات المنطقية لذلك؟«

بينما كانت تلك الأسئلة تدور في ذهنها، طفا على سطح ذاكرتها خاطرٌ أضاء العتمة التي كانت تغلف روحها وتفكيرها، فقررت حينئذ انها تريد أن تقوم بعمل مفيد، عمل جيد، أحست إنها تريد أن تستخدم الزمن المتبقي لها في هذه الحياة أحسَن استخدام!

عندما كانت جودي في الخامسة من العمر توفيت جدتها التي كانت تحبها حباً شديداً. عانت الطفلة ألم الفقد وكذلك الحيرة، لأنها لم تستطع، وهي في عمرها الصغير ذاك، أن تُدرك معنى الموت، ولا أن تفهم ذلك الرحيل الأبدي لجدتها الحبيبة. ولأجل أن تساعدها أمها على التعايش مع كل ذلك، نصحتها أن تكتب رسالة جميلة ترسلها الى جدتها في الجنة!

تذكرت جودي تلك الرسالة التي ارسلتها الى جدتها )في الجنة(، بينما كانت تقف على حافة الحياة وبين يديها عقاقير الخلاص. تلك الذكرى جعلتها تستحضر سحر الكلمة، وتأثيرها في نفس مرسلها ومستلمها على حد سواء. أعادت تلك الفكرة رغبتها وتمسكها بالحياة، وخلال نصف ساعة أنشأت موقعاً إلكترونياً عنوانه )مليون رسالة جميلة(! كان هدفها من إنشاء ذلك الموقع هو مد حبال التواصل مع أناس يقفون على حافة الرصيف!

تعتقد جودي أن لا جدوى في الرسائل الالكترونية )الايميل(، لذلك كانت فكرتها الأساسية أن تتحاور مع الآخرين بطريقة الرسائل التقليدية، أو القديمة كما تسميها؛ فالمغلف الذي يوصله ساعي البريد، والذي يحمل طابعاً مع إسم الشخص مكتوباً بخط اليد، وبداخله رسالة مكتوبة بخط اليد كذلك، يُشعِر الإنسان إن تلك الرسالة موجهة له بشكل خاص، وأن هناك إنسانا آخر في هذا العالم يهتم لأمره ويسعى لإسعاده. الرسالة الورقية ليست كالرسالة الالكترونية التي يمكن أن تُكتب مرة واحدة ثم يعاد ارسالها مرات ومرات.

»لو تمكنت من إقناع شخص واحد بالإبتعاد عن حافة الرصيف، فذلك نجاح كبير بالنسبة لي.« هذا ما كانت تفكر فيه جودي عندما شرعت بتنفيذ فكرتها في إرسال رسائل لغرباء في محنة، فقد تساهم كلمة في إنقاذ حياتهم !

كتبت على واجهة ذلك الموقع رسالة تقول فيها: إذا كُنتَ، أو أي شخص تعرفه، بحاجة للتذكير بروعتك، فأنا سأقوم بذلك وأرسل لك رسالة.«!

ما حصل بعد ذلك فاق كل توقعاتها، فقد بدأت الرسائل الالكترونية تنهال عليها من مختلف أرجاء العالم؛ رسائل من أشخاص يعانون المرض أو الإحباط أو الوحدة، وغير ذلك الكثير من مشاكل الحياة المعاصرة. تقرأ جودي كل رسالة، وتجلس لتكتب رداً لمرسلها أو مرسلتها.

رسائلها بسيطة وجميلة. راسلها كاتب في صحيفة الديلي ميل، يقوم بالرد على رسائل القراء في زاوية مشاكل وحلول في تلك الصحيفة. كتب اليها أن تعامله المستمر مع مشاكل القراء يُشعره بالحزن أحياناً، وأحيان أخرى بالغضب أو الإحباط! يقول أن إجاباتها )الحلوة(، ويؤكد على كلمة )حلوة(، كشعاع ضوء في هذا العالم المعتم. يذكر من بين عباراتها تلك التي تشجع على محبة الآخرين وعدم التردد في فعل الخير.. فهي تحث على مساعدة الآخرين، وتقول إن كان الآخر لا يطلب المساعدة فذلك لا يعني انه ليس بحاجة اليها. تقول كن رحيماً ولو بأبسط طريقة ممكنة: إبتسم للغريب الذي يصادفك في الطريق، ساعد من تراه يواجه صعوبة في صعود السلم… وغير ذلك الكثير من المبادرات التي تساعد على نشر الخير والسعادة والمحبة بين الناس.

جمعت جودي بعضاً من رسائلها في كتاب يحمل نفس عنوان الموقع؛ مليون رسالة جميلة. وقد شاهدتُ قبل أسابيع قليلة برنامجاً وثائقياً عنها، ذكرت فيه انها نجحت بإرسال بضعة آلاف من الرسائل حول العالم، وسوف تستمر بذلك حتى وان بدت فكرة كتابة مليون رسالة شبه مستحيلة! في ذلك البرنامج تم التحدث مع بعض الاشخاص ممن استلموا رسائل من جودي، بعد ان كتبوا لها عن مشاكلهم عبر موقعها الالكتروني. أكد اولئك الأشخاص على التأثير الذي أحدثته في نفوسهم تلك الرسائل، ففي لحظات الضعف واليأس، منحتهم الكلمات الصادقة الحنونة في تلك الرسائل الكثير من البهجة والامل.

لا أعتقد أن الانسان يستطيع أن يشعر بالسعادة بمفرده، فنحن نستمد سعادتنا من سعادة الآخرين في أحيان كثيرة..

أسعِدْ الآخرين تُسعَد…