انجيليك كيدجو تقدح شرارة القارة السوداء وباتي اوستن تحيي إللا فيتزجيرالد

مهرجانات

بيروت- جاد الحاج

في السادس عشر من تموز)يوليو( سنة 1975 كان مفروضا ان تغني ميريام ماكيبا في مهرجانات بعلبك. ما زال الملصق الداعي إلى حفلتها موجودا ولا تزال الخيبة من عجزها على تلبية الدعوة مرتبطة بالاحباط الذي رافق إلغاء المهرجان بسبب الظروف الامنية التي انتجت حربا أهلية دامت 16 سنة. عُرفت ماكيبا بلقب »ماما افريكا« انطلاقا من مواقفها الباسلة حيال النظام العنصري في جنوب افريقيا ومناصرتها حركات التحرر الوطني حول العالم خصوصا حركة »الفهود السود« في الولايات المتحدة الاميركية. إلى ذلك لعبت ماكيبا دور الملهمة الثورية نسبة إلى مئات الفنانين والفنانات السود في افريقيا والاميركتين. وقد جاءت دعوتها إلى مهرجانات بعلبك من ضمن وعي اللجنة آنذاك لما يحصل في العالم على مختلف الجبهات. وها هي مهرجانات بعلبك ترد إلى القلعة بعضا من ألقها الاصيل عبر دعوة أنجليك كيدجو، في التاريخ نفسه، اي بعد إثنتين واربعين سنة على الموعد المهدور مع ماكيبا.

 تعتبر كيدجو الوريثة المميزة لماما افريكا. امرأة ذ قنبلة ارعدت حجارة باخوس وارسلت الرعشة تلو الرعشة في ابدان اكثر من الفي مشاهد لم يتسنَّ لهم الجلوس في مقاعدهم الا قليلا. منذ البداية تحدثت كيدجو إلى الجمهور بعفوية وطرافة وشرحت اسباب تخصيصها هذه الأمسية لثلاث مغنيات تركن اثرا عميقا في نشوئها وتطورها: ميريام ماكيبا، نينا سيمون، وسيليا كروز الكوبية التي تحولت إلى بملكةا الموسيقية الشعبية في اميركا اللاتينة. كفاح ماكيبا واصرارها على لعب دور الفنان الكوني بلا حدود، صراع نينا مع مرضها النفسي وانتصارها الفني على الرغم منه، وتشبث سيليا كروز باستقلاليتها السياسية في وجه العداء القائم بين ضفتي هافانا وفلوريدا… توفيت سيليا في تموز سنة 2003 عن 77 سنة. ومنعت هافانا دفنها في مسقط رأسها. سنة 2000 حصلت على اول جائزة »غرامي« وقبل وفاتها بأشهر قليلة حازت الثانية. وسنة 1994 منحها الرئيس كلينتون الميدالية الوطنية للفنون، ومنحتها جامعة ييل دوكتورا فخرية سنة1989 .

قالت كيدجو لجمهور بعلبك انها سعيدة بوجودها للمرة الاولى في لبنان إلى حد انها لم تتوقف عن الاكل في الايام القليلة الفائتة… وتحدثت عن طفولتها والمؤثرات الموسيقية والثقافية والسياسية التي شكلت مسيرتها كمغنية وناشطة متعاونة مع منظمة العفوالدولية. ثم اعتذرت عن غياب لغتها العربية وانشدت من اغاني فيروز بكانوا يا حبيبيا ذات اللحن الروسي المعدل رحبانيا، ما اشعل الأكف تصفيقا. بعد ذلك وبعدما تأكدت من التعاون غير المشروط من الجمهور الذي اصبح معظمه واقفا يرقص ويصفق، نزلت كيدجو عن المسرح وتوغلت في صفوف الحاضرين الذين اجتمعوا حولها وتضافروا في رفع وتيرة الحماسة، ثم طلبت كيدجو مساهمة اوركسترالية يلعب فيها الجمهور دور الكورس، فدعت الذين يحبون الرقص إلى الحلبة وانبرى العشرات من كل الاعمار تلبية للدعوة، مما لم تشهد له ادراج باخوس مثيلا.

بپاتا پاتا مايّاما مايّاما« اشهر اغاني ميريام ماكيبا، و»ملايكاا في لغة السواحيلي التي توازي الدلعونة في تنوعاتها المتعددة، وباقة من الاغاني اللاتينية والاميركية فاذا بالمناخ يتحول من هادىء في الليل الصيفي الرائق إلى دغل هادر جيّاش.

ولدت انجليك سنة 1960 واطلقت عليها مجلة بتايما لقب بنجمة افريقيا الاولىا. وبعد حصولها على جوائز »غرامي« ثلا ث مرات ناهيك عن عدد كبير من الاوسمة والتقديرات الاكاديمية حول العالم. ضمتها بي.بي.سي. إلى خمسين اسما ايقونيا من القارة الافريقية ووضعتها الغارديان في عداد اهم مئة امرأة في عالم اليوم.

 باتي أوستن

باتي أوستن مغنية جاز مخضرمة نشأت على هامش المرحلة الماسية للتنوع المختلط بين موسيقيي نيو اورلينز وهارلم ومعظمهم سود، )او من باتوا معروفين بـ أفرو- اميركيين( وبين موسيقيي كاليفورنيا الخلاسيين، بيضا وسودا وهسبانيين. الا ان كوكب حياتها مذ كانت طفلة يبقى إللّا فيتزجيرالد التي اصبحت احدى اشهر اصوات العالم أثناء حياتها وبعد وفاتها )1917- 1996 ( فكأن ما انجزته نبع لا يعرف الشح او الجفاف.

 تألقت باتي على خشبة مهرجانات جبيل لجمهور جلّه اليف مع عالمها، ما جعلها تنطلق على سجيتها وتروي خلفيات الاغاني التي جاء معظمها من موروث فيتزجيرالد مصحوبا بحكايات بعضها شخصي عاطفي وبعضها الاخر تاريخي يلقي ضوءا على عالم الجاز الاميركي ما كنا لنعرفه عبر التأريخ الكلاسيكي المتوافر لدينا. مرّ الوقت خفيفا على ايقاع الحكاية تلو الاغنية فلم ننتبه إلى مرور تسعين دقيقة لم تغب خلالها باتي لحظة عن المسرح. روح الدعابة، والسليقة المنفتحة، وبراعة الأداء، وغياب التكلّف، عناصر حضور من شأنه تقريب الفنان إلى الجمهور إلى حدّ دافىء حميم، قابلته الاكف بالتصفيق والصفير )الايجابي( ولعل أكثر ما اثار الهمس والتساؤل في البداية هو غياب السكسوفون اللصيق بمشهد الجاز عموما، واختصار الفرقة الموسيقية في ثلاثة عازفين على البيانو وبالبايسا والآلات الإيقاعية. لكن براعة هؤلاء سرعان ما انستنا كل ما يتعلق بآلات النفخ النحاسية. ومع أن الفرقة لم تكثر من العزف دون الغناء، فإن طريقة أدائها ظلت موحية ومعبرة طوال الوقت، وبخاصة في الختام بعد أن غنت باتي أوستن نشيدها الجديد الخاص بإللا فيتزجيرالد بناء على إلحاح الجمهور.

في بداية الأمر ايضاُ خشينا قلة الحضور، وظننا أن المدرج سوف يبقى شبه خالٍ، وأن العديد القليل لن يحسن التفاعل مع أمسية جازية تتطلب الكثير من الحماسة والتفاعل، لكن الجمهور ازداد بسرعة في الدقيقتين السابقتين لبداية الحفلة. وظهرت أوستن )66 عاما حسب تصريحها ( في أناقة بسيطة وحضور آسر وصوت قوي هادر. وغنت فأنصت الحضور ولم تكن لتسمع مع غنائها سوى هدير الأمواج تتكسر على الشاطئ تحت المدرج .

بعد انتهاء أغنيتها الأولى ادركت باتي أنها ستتحدث إلى جمهور عاشق للجاز، لكنها افترضت أيضا أن قلة يعرفون تفاصيل دقيقة عن فيتزجيرالد ووعدتنا بأن نخرج من الحفلة خبراء في مساهمات بسيدة الاغنية الاميركيةا:

 في الخامسة عشرة من عمرها كانت فيتزجيرالد مشردة بعد وفاة والديها، عاطلة من العمل، حالمة بأن تصبح راقصة استعراضية، لكنها تقرر فجأة أن تنقلب مغنية، ولم يقتصر غناؤها على ألحان الجاز، بل صدحت حنجرتها بعدد غير قليل من الأغاني الأميركية الشعبية أو الريفية، أو ما قد نسميه فولكلور الولايات المتحدة. وسارعت باتي إلى إسماعنا واحدة من تلك الأغاني. حينها غيرت الفرقة الموسيقية اسلوب عزفها، وشعرنا أننا ننصت إلى موسيقى ذات طابع مختلف، لطيف أكثر عذوبة ورقة.

من أجمل ما حاولت أوستن تقديمه للجمهور تعريفها بالغناء المقلوب لألحان الجاز، فاستعرضت أكثر من نموذج إن كلاما وإن غناء. وقلدت بعض الآلات الموسيقية . كان ذلك مدهشا، لأنه انطوى على قدرات استعراضية مثيرة تستحق الإشادة التي لا شك أن أوستن نالتها غير مرة من الجمهور والنقاد على حد سواء. وحاولت باتي في أثناء حديثها بين الأغاني أن تختبر مدى تجاوب الجمهور وتكتشف حسن تفاعله . فكانت تحكي بطريقة طريفة أحيانا، أو تطلب أن نردد معها نوطة أو نوطتين. ثم تلقي طرفة. يضحك الجمهور. تكمل كلامها. فإذا ارتاحت إلى حسن التجاوب، تثني على ذلك حينا، وتتجاوزه حينا آخر.

 قالت إنها اكتشفت في وقت مبكر ان النساء والرجال العاملين في الاستعراض الموسيقي يصعب عليهم إقامة علاقات زوجية ناجحة. مما دفعها إلى أن تصرف فكرة الزواج منذ أن بدأت رحلتها مع الغناء . حدثت الجمهور بصراحة تنطوي أساسا على الكثير من التصوير المتعمد لوقائع حياتها ومسيرتها الشخصية. لم يزعجها أن تخبرنا أنها شعرت بالوحدة والكآبة بعد بلوغها الخمسين من العمر وأحست ببعض الندم لأنها لم تتزوج ولم تقم أسرة. فاكتأبت وغرقت في موجة من الأكل بنهم… لكنها بعد وقت وبعد استشارة إحدى صديقاتها المتزوجات، عادت وتصالحت مع واقعها.

 فلسفتها : الكل يعتبرأجمل الأيام يوم الزفاف حين تكون العروس محط الأنظار وتلقى المقدار الأكبر من الاستحسان والتهليل والتصفيق. لذلك تكثر المجلات المتخصصة بشؤون العرائس والأعراس. لكن، هل من مجلات تعنى بشؤون الزواج ولا سيما الناجح؟ ام ان معظم المجلات الاجتماعية غارقة في نشر أخبار الزيجات الفاشلة وحالات الطلاق؟ وقالت إنها كمغنية ناشطة في الاستعراض الغنائي تظهر ثلاث مرات أسبوعيا على المسرح كأنها عروس محط الأنظار والتصفيق والاستحسان فهل من عروس تحت الشمس تحصل على ذلك!؟