ديوان أربعون أغنية لحفيدتي صوفيا للشاعر ناجي بيضون يشبه الطفولة ويشبه صوفيا

لارا ملاك – بيروت

 قبل أن تبدأ بقراءة هذا الكتاب تستوقفك في الغلاف عينا طفلةٍ جميلة، تنظر إلى العنوان فتعلم بأن هاتين العينين كانتا حافزا لولادة كل فكرةٍ، كما تعلم بأنه كتاب أغنيات، أي كتابٌ من موسيقى وصوت. وأن تكتب لعيني طفل أي أن تناجي لب الكلمة، لأنها تبلغ معناها الأصدق والأتم. يبدو إذا أن الكتابة هنا هي صوتٌ ومعنى، جماليةٌ تقرع الأذن وتناجي الشعور.

وقبل أن تهم في قراءة كل نص ومتابعة تفاصيله، تعلم مسبقا بأن هناك طرحا جديدا، لأن الحب المعبر عنه هو للحفيدة مما يطرح العلاقة التي تربط الجد بأحفاده بكل صخبها وبراءتها ولهوها وتشويقها.

يستهل الشاعر ناجي بيضون كتابه بنصٍ لابنه يحمله معاني الغياب، والمعنى الأكثر طرحا لهذه الفكرة وتعبيرا عنها، الرغبة الجلية في اجتياز المسافات لدحر الغياب والشفاء من الحنين. وقد وضع الشاعر هذا النص كما جاء في المقدمة، حين كان مسافرا في الطائرة متوجها إلى دبي تاركا ابنه الذي بكى كثيرا في وداعه. واللافت هنا أن الشاعر الأب يقول لابنه »سأسافر في عينيك«، وفي هذا دلالتان لا يمكن الإغفال عنهما، الأولى التمني لو تكون هذه الرحلة بلا طائرة، رحلة في عيني طفله، أي في المسافة الأنقى التي ترتسم في الوجه، هكذا إذا تبقى الرحلة طويلة ومثيرة لا تفتقد المدى والآفاق ولكنها رحلة محبة واكتشاف للآخر الملتصق بالروح. والثانية التي تشكل المفارقة اللغوية عدم اختيار تعبير »سأسافر إليك« مثلا. ومع أن الأب يعود دوما إلى ابنه أي أن العودة حتميةٌ، لكن العودة الأهم هي بالعاطفة وليس بالجسد فقط. الغياب مكانيٌ هنا، والحضور قائمٌ أبدا. كأن لا سفر في هذه القصيدة، بل تأكيد على الملازمة الروحية.

بعدها تتتابع الأغنيات وجميعها إلى صوفيا. في الأولى منها تشابكٌ بالمعنى، ففي نصٍ بعنوان »دعوة للرقص مع حفيدتي صوفيا« الجد يغني حفيدته بدلا من أن يغني لها. يغنيها حين يرعاها ويحبها، إنها الغناء بحناجر القلب، ومن ثم يغني لها فترقص. ويصير الجد بذلك طفلا، فكلما علا الغناء استيقظت الروح وتجددت.

وصوفيا في دلالاتٍ لغويةٍ أخرى للصوت، تغني خطوتها الأولى. والجد هو من يغني هنا، صوفيا تمشي فرحة لكن الجد ينجرف في فرحه بهذا الإنجاز الذي حققته الصغيرة حتى يراها بقلبه تغني بقدمها، ويعود ويُطرب لغنائها الذي يندفع منه بالدرجة الأولى.

الجسد وأطرافه والحواس والأصوات تجتمع لتعطي المشهد حالته الروحية، ولتعطي التفاعل الإنساني العظيم الذي يكبر بين هذين الشخصين صورته الصحيحة الصادقة في السياق. والتفاعل هنا عظيمٌ لأن الشاعر لا يفصل شعوره عن شعور صوفيا، فالمحبة محاولة فهمٍ لما يدور في خاطرها وما تحس به. الفرح في خطواتها الأولى يقابله تعثرٌ ومشقةٌ في الكلمات الأولى لها. فهي بحسب قوله تصول وتجول في إشارةٍ إلى محاولاتها المتكررة للكلام، وهي تعربش فوق جدار اللغات. والجد ليس متفرجا هنا أيضا، بل يدخل المشهد ويقلد صوفيا فيصول ويجول أيضا ويعربش على جدار اللغات، إنها حتما الرغبة بالعودة طفلا تتجلى.

ويظهر تناغمٌ في مشاهد أخرى بينهما، هي بأشهُرها العشرين وهو بسنواته السبعين، يلتقيان بضحكٍ يجعل العمرين متعادلين، تضحك صوفي، تضحك الماء، ويضحك الجد، لا فرق الآن بينهما يندمجان في الحالة الروحية حتى التعادل والتشابه.

 كل التفاصيل تصنعها صوفيا بحركتها، لا تفاعل يخرج عن نطاق ضحكتها وصوتها وتصرفاتها. وفي قصائد كثيرةٍ هما معا، هو وهي فقط وكأنه يأخذ الدفق العاطفي الذي تعطيه هذه الطفلة ويحس به هو وحده بالكامل. الحالة العاطفية الأعم هي حالة الاندماج الواضح بين قلبين، ليصير متلقي العاطفة يصنعها نفسها في اللحظة عينها.

يرتقي حب الأطفال إلى مرتبة العبادة، فالله تجسد فوق الأرض طفلا في إشارةٍ إلى الطفل يسوع، ومن يحب الأطفال كمن يحب الله تماما. لا عجب أن تصير المحبة قداسة، وهذه القداسة نابعةٌ من الحاجة إلى السلام، وهذه الحاجة لا تشبعها إلا الطفولة النقية. في مملكة الأطفال والألعاب الجنود لا يخافون الناس ولا يخيفونهم، بل يغنون فقط أو يستمعون لغناء الأطفال.

ويخشى الجد أن تكبر صوفيا، وخوفه هذا مشروعٌ وصادق، فمتى كبرت كبر هو أيضا، والطفولة غدٌ يحتاجه. ويربط بعدها بين صورة الحفيدة وصورة الأم، فعند المرض تواسيه الأولى كأنها بعطف الثانية، هنا يقلب الأدوار ويعود طفلا. ويعود ويكرر هذا التمني ليس رغبة بالأمان هذه المرة، بل بالحرية. يريد أن يتحرر من خوفه وأوهامه، وكأن الصغار أقرب إلى الحقيقة ولهذا هم الأقل قلقا.

يسلط الشاعر الضوء على تأثير العمر في الإنسان، فهو يفقده الطمأنينة والنضرة، ويقارن بين الأعمار، عمر الإنسان وعمر الأشياء والنباتات، كما يتحدث عن السلام الذي يمنحه الأطفال للعالم ويعجز عنه الزعماء. كما لا تغيب سمة العصر الأبرز عن النصوص، فيشير إلى التكنولوجيا التي تألفها صوفيا شيئا فشيئا كلما كبرت، ولذلك يخاف أن تصير حفيدته رقما من أرقام الحاسوب، وهذا يشكل قضية مهمة مقلقة حول مستقبل أطفالنا.

 لعلها قضايا وإشكاليات طرحها شعراء كثيرون من قبل، لكن هذه النصوص تأتي من وجه طفلةٍ صغيرة، لذلك نراها سهلة وبسيطة، هذا الكتاب بكل أبعاده يشبه صوفيا حتما.