تُركيا في التجرُبة الكماليّة

تحليل موثّق بالمعلومات والحجج

بيروت ـ نسرين الرجب

 يعرض لنا الدبلوماسي والسياسي الباحث فؤاد حمزة في كتابه المُعنون: »وصف تُركيا الكماليّة 1943 -1945«، الصادر عن دار الجديد في طبعته الفاخرة الأولى 2013، والذي حقّق ودقّق مخطوطته الدكتور محمد نور الدين أستاذ التاريخ واللّغة التركيّة في الجامعة اللبنانيّة والكاتب المُتخصّص في العلاقات العربيّة والتركيّة، بحثا توصيفيّا وتحليليّا موثّقا بالمعلومات والحُجج عن الموضوعات المُتصلة بالثورة وقيام الجمهوريّة الكماليّة في تُركيا، حتى تلك الفترة التي عمل فيها الباحث سفيرا للسعوديّة في تركيا، بين عامي 1943 -1945.

يقع الكتاب في 342 صفحة، ويتألف من اثني عشر فصلا، ومن مقدمتين، الأولى للدكتور عمر حمزة ابن المؤلف والذي أشار إلى مكان ولادة والده والعلوم التي تلقّاها وصولا إلى حيازته على شهادة الحقوق، والمناصب الإداريّة التي وصل إليها،  ثم انتقاله برفقة الرئيس شكري القوتلي إلى الجزيرة العربيّة حيث عمل مستشارا لدى الملك عبد العزيز حتى وفاته 1951، اتقانه عدة لغات أجنبيّة وقيامه بمهام خاصة منها انتقاله إلى فرنسا لتأسيس أوّل سفارة للمملكة، توجهه إلى أنقرة حيث عمل سفيرا في الفترة بين 1943-1945، وكتابته عدة مؤلفات عن الجزيرة العربية. وفي مقدمة الدكتور محمد نو الدين أشار إلى حيازة فؤاد حمزة على ثقة الملك السعودي، معايشته للتجربة التركيّة، حياديته، عودته إلى أمهات الكتب، وأخذ عليه عدم ذكره للمصادر، وعرض الحديث عن جذور الثورة وبُعدها العنصري.

انهيار السلطنة العثمانية، والتمهيد للثورة

لم تمنع الإصلاحات التي قامت بها الدولة العثمانية في أواخر أيّامها من الحد من تسرّب أفكار الثورة الفرنسيّة إلى شعوب السلطنة، عرض المؤلف بالأسماء والنتائج الدراسات التي قام بها الكثير من الباحثين في دراسة شؤون الأمم التركيّة من أوروبا، ودراسات الأتراك أنفسهم، دراسات قامت على تعيين أصول العرق الطوراني، واعتبار »أن الدولة العثمانية هي دولة عنصريَة قامت لدعم الإسلام على حساب العنصر التركي..وأن السلطة كانت تنظر إلى الأتراك نظرة احتقار«،  بدأت مشاعر العزّة القومية والفكرة الوطنيّة والعنصريّة في أواخر القرن التاسع عشر من حياة السلطنة، نشر الفكرة الطورانيّة عبر دراسة تاريخ الأتراك، والتعصُّب للنزعة التركيّة، وضع العديد من المُصطلحات والكلمات التركيّة الحديثة، والدعوة الى تجريد اللغة التركيّة من الكلمات والنفوذ العربي، قامت الحركة القوميّة بعد إعلان الحريّة في السلطنة العثمانية 1908، بُنيت الحركة الطورانية على مبادئ فكريّة قادها فلاسفة وعلماء اجتماع وضعوا الخطط لتنفيذ ما أرادوا تنفيذه.

أتاتورك وضيا كوك آلب

أحد مُنظري الكماليّة الفيلسوف ضيا كوك آلب، »فإذا ما ذكرت النهضة التركية الحديثة فإن اسم ضيا كوك آلب..مقرون بها من الوجهتين الفكريّة والإجتماعيّة، « وفيما »اقترن اسم مصطفى كمال أتاتورك بالفكرة الطورانيّة من وجهتها السياسيّة والعسكريّة فإن رضا كوك آلب كان زعيمها الفكري والروحي..« قام بوضع برنامج مُفصل يستهدف إعداد الشباب وتعويدهم على القواعد التي تقوم على التعصّب للتركيّة والافتخار، فعندما » حوكم أمام مجلس عسكري وسُئل عمّا إذا كان هو المسؤول عن تقتيل الأرمن وتهجيرهم فكان جوابه: نحن لم نذبح الأرمن ولكنهم طعنونا من الخلف حينما كُنا نُدافع عن بلادنا ضد عدو مخيف فأدّبناهم«

 تثير حياة مصطفى كمال أتاتورك، اهتمام أي باحث عن زعيم دولة وقائد مؤسِس،  تسلّم العديد من المناصب العسكريّة، وظلّ مُثابرا لتحقيق أهدافه، كان ذا شخصية حاسدة على كل نجاح لا يشمله. طموحاته في تأسيس دولة قوميّة، إرادته وعظمته كزعيم فعلي » أراد وضع مذهب جديد لقومه..دستور سياسي واجتماعي يقوم على ستة أركان يطلق عليها الكماليّة..«

لم يتّبع الباحث مبدأ التزلّف على اعتباره سفيرا ودبلوماسيّا بل جابه الحقائق وعرض لها بكُل تجرّد وموضوعيّة، واتّبع منهجيّة علميّة قامت على الوصف والتدقيق في المعلومات، وتوضيح بعض المُصطلحات السياسيّة والتاريخيّة، فعلى الرغم من إعجابه بالتجربة الكماليّة وقُوّتها إلا أنه رأى تعصّبها واستبداديتها، وأنّ القرارات الآمرة الناهيَة فيها كانت بيد الحزب الحاكم، يقول:« ومع أن تركيا تتبع في المظاهر الشكليّة أساليب الدولة الديمقراطيّة، إلا أن نظام تصنيف الحكم فيها..كما هي الحال في البلاد الدكتاتوريّة مثل روسيا وإيطاليا..الحكومة هي الحزب«، و كان »أتاتورك هو المؤسس الأوّل للحزب فهو الذي يأمر وعلى حزب الشعب الجمهوري التركي أن ينفذ ويطبّق أوامره ورغباته«، عمل الحزب على تنظيم الحياة العامة وفق المبادئ الستة الكماليّة وكان له عدة أهداف منها الإعداد والتجهيز المادي والعسكري، تنظيم المقررات الدراسيّة في المدارس والجامعات، السياسة الداخلية وتحقيق الأمن الوطني، إصلاح السجون والقوانين العدلية، وتنسيق عمل الجمعيات، إدارة الأزمات.

العصبيّة العرقيّة واللغويّة و بناء الجمهورية الكماليّة

أُلغيت السَلطنة في تركيا في العام 1922 وتم إلغاء كل ما له صلة بالدين عبر مجموعة من القرارات وإقامة دولة مدنية تميل إلى تقليد الغرب، ودعت خُطب أتاتورك إلى قطع الصلة بكل ما هو عربي، والانسلاخ عن التقاليد والمبادئ الإسلاميّة.

فالكمالية هي: » حركة سياسية ثقافية واجتماعية جعلت هدفها تكوين دولة تركيّة قائمة على مبدأ قومي عنصري طبقا للأسس الستة: مبدأ الجمهورية، القوميّة التركية…، الشعبيّة..إزالة الفوارق بين الطبقات،  اللادينيّة بمعنى فصل الدين عن السياسة ومُحاربة البدع والخرافات، الحكومة، الثورة..مُباشرة الأمور ومجابهتها دون التقيّد بالماضي«،  أُدخلت لاحقا تعديلات طالت فكرة اللادينية والعلمانية وهي »..عدم إدخال المسائل الدينية في حياة الدولة السياسيّة«.

كانت القرارات تصدر عن حزب الشعب عبر المؤتمرات التي كانت تُقام لوضع دستور الدولة ومنها مؤتمر حزب الشعب السادس، والذي من قراراته العنصريّة فرض الضريبة بهدف القضاء على العناصر غير التركيّة، قامت العصبيّة الجنسيّة والقوميّة التركيّة على إبادة الأقليّات خشية تآمُرها على الفكرة القوميّة، وتنشيط عمليّة التتريك وتأسيس الجمهوريّة، سحق الماضي وايجاد دولة فتيّة ذات مبادئ ثوريّة متطرفة، و التعامل الحذر مع الحلفاء كالألمان والروس »إن الأتراك يخافون الألمان.. ولكن خوفهم العظيم..هو الخطر الروسي..«.

ما لبثت الكماليّة تقطع صلتها بكُل ما هو عربي، عبر الدراسات والأبحاث، حتى وصلت بها المُبالغات الطريفة أن جعلت أصول الإسلام تُركيّة،  فأحد كبار أساتذة التاريخ في جامعة اسطنبول اسماعيل حقي أزميريلي، نشر بحثا تاريخيّا حاول بالاستناد على أقوال ووثائق تاريخيّة اثبات علاقة الترك بالاسلام، و أن النبي محمد من أصول تركيّة..وأن الأتراك أقبلوا على الدخول في الاسلام عندما تولى أبناء عرقهم الحكم فيهم بدلا من العرب.

اليقظة اللغويّة كانت عملية حكوميّة ومبرمجة، استندت على التخلي عن الحرف العربي واستبداله بالحرف اللاتيني، وعلّق الباحث بقوله أنّ »الحروف العربيّة كانت قاصرة عن الوفاء بحاجة اللّغة التركيّة«، وقد جرى تجميع الألفاظ والمصطلحات التركيّة الشعبيّة من الأغاني الشعبيّة، وضع المترادفات، وضع المُصطلحات العلميّة، وضع القاموس التركي، ومن المُفارقات اللطيفة قيام نظريّة اللّغة الشمسيّة حيث اعتبرت أن التركيّة هي أساس اللغات، وهي الصوت الإنساني الأوّل الذي يتلفظ به البشر بشكل واضح هو »آغ«، فالأتراك بصفتهم أقدم أُمم العصر هم

غلاف كتاب فؤاد حمزة عن اتاتورك
غلاف كتاب فؤاد حمزة عن اتاتورك

الذين سمّوا الشمس وهي الطوطم الرئيسي لهم بالصوت اللساني..«آغ«.

يعرض المؤلف لمسألة ازدياد أعداد السكان الراجع لعدّة اسباب تناولها في بحثه مع ذكر أن الحكومة التركية كان يهمُها ازدياد عدد المواليد ومُحاربة الأمراض، وسنّت قانونا خاصا للاعتراف بشرعيّة المواليد غير القانونيين. وتناول بالتعريف أبرز الجمعيات والنوادي الوطنية منها: جمعيّة الهلال الأحمر التركي، جمعيّة الطيران التركي، جمعيّة المعارف التركية، وقد نظّمت الحكومة عمل وإيرادات هذه الجمعيّات بما يتوافق مع المصلحة الوطنية.

خصّص الفصل الحادي عشر للحديث عن الجيش التركي وفيما إذا كان يُشكل قوّة حقيقيّة أو دعائيّة، وأورد بالتفصيل ميزانيته ومصادر قُوته ثم القوانين التي تتناول الخدمة الاجباريّة فيه، والاصطلاحات والتعابير العسكرية، أقسامه وتشكيلاته القيادة العليا فيه وكل ما يتعلق به رئاسة هيئة أركان الحرب، المدارس، الانفاق على الأسلحة، تجهيزاته ومدى صلاحيتها، أورد الباحث »إن الوقوف على عدد أفراد الجيش التركي الموجود تحت السلاح والاطلاع على توزيعاته…صعب بطبيعة الحال أيام الحرب لأن جميع هذه المعلومات تعد من الأسرار الحربية..ولكني أسعى جهدي لدرس ذلك الموضوع…أكتفي بذكر أمور عامة عنه كما سمعتها ورأيتها منذ وصولي إلى هنا«.

 عرض لتحكُم الحكومة بوسائل النشر والإذاعة، إقامة الاحتفالات بهدف إبعاد الشعب عن القضايا السياسيّة، وفق مبدأ سلام في الداخل سلام مع الخارج، ثُم تناول في الفصل الأخير موضوع الثروة الوطنيّة والاقتصاد الوطني، الاصلاحات الماليّة، الموازنة، الديون العموميّة، البنوك الوطنيّة، تصفية الشركات الأجنبيّة، وشبكة الخطوط الحديديّة والسكك البنى التحتيّة، التحسين الزراعي، مع الأرقام والوثائق.

الكتاب على الرغم من أنّه تاريخي ويسرد وقائع تاريخيّة وسياسيّة واقتصاديّة إلا أن أسلوب الباحث المرن وعمق فكرته تصل الأذهان بلطافة حتى على غير المُلم بالشأن السياسي والتاريخي للأمم، فقد أبدى المؤلّف حِنكة وقُدرة عاليّة على التحليل، فهو حيادي وغير مُتعصب لفكرة، يوجز رأيه بعيدا عن المغالطات التي قد تنال من موضوعيته، وعلى الرغم من عدم وجود مصادر إلّا أنّه أورد الكثير من الخُطب على لسان قائليها،  والمُحادثات التي كانت تجمعه ببعض الساسة في ما يتعلق بالموضوع الذي يطرحه، وفي حديثه عن أتاتورك قال: »جميع المصادر التي نستقي منها المعلومات لم تقرر ولم تُنقّح على كثرتها«، فهو واسع الإطّلاع وموثّق بارع، لا يستخف بعقل المُتلقي ولا يُثقل عليه بالمعلومات، يدفع لفهم أصول الثورة التركيّة والتجربة الكماليّة، وهو بداية نابهة لفهم ما آلت إليه أحوال السياسة التركيّة في الزمن الحالي على الرغم مما مرّت به من تحوُلات وتبدُلات، وقد أشار في أكثر من موضع أن العصبيّة والمبالغة في محو تاريخ تركيا القديم ليس في مصلحة تُركيا، مما يدل على بُعد نظره وعمق رؤيته.