الإخوة عسّاف: النحت سجلّ الحضارات والانصهار نقطة قوّتنا

لارا ملاك – بيروت

محترف »عسّاف« في وادي البصّيل – الورهانيّة، مشهدٌ تتعاون فيه الطبيعة واليد البشريّة المبدعة لإنتاج جمالٍ هادئٍ وخلاب. منزلٌ ومشغلٌ معا يعيش فيه الإخوة الثلاثة عسّاف وعارف ومنصور عسّاف. مبدعون ثلاثة ينحتون كلّ يومٍ ويكدّون في صناعة وجوهٍ من حجر، يريدون للحجر هويّة أجمل، هويّة تشبه الإنسان. ولنعرف أكثر عنهم وعن عملهم، كان للحصاد هذا الحديث معهم.

بالحصاد«: متى بدأت فكرة تأسيس المحترف؟

_الإخوة عسّاف: هذا المحترف تراكمٌ لأعمالنا، بدأنا عام 1997 في مشغلنا بالنحت تلبية لطلبات الناس الّذين يرغبون باقتناء تماثيل من صنعنا. ابتعدنا عن المدينة وبدأنا العمل في مشغلنا في وادي البصّيل – الورهانيّة بعيدا من الأحياء السكنيّة، منعا لإزعاج الناس بالضجيج بسبب المعدّات الّتي نستخدمها. عام 2000 كان استقرارنا بشكلٍ نهائيٍّ هنا ليصير هذا المشغل منزلا لنا أيضا، وذلك زاد من إنتاجنا. يوميّا ننحت معا نحن الثلاثة، وأعمالنا وصلت إلى جميع المناطق اللبنانيّة، ونحتفظ هنا في المحترف بنسخةٍ عن كلّ منحوتةٍ أو تمثالٍ.

وبعد هذا التراكم بالأعمال، رتّبنا المكان بشكلٍ يليق بالزوّار الّذين يحبّون الاطّلاع على أعمالنا، لنخلق أيضا مكانا مجهّزا لاستقبال الناس في جلساتٍ ثقافيّة عن الفنّ والفكر والطبيعة والبيئة والأشجار. وقد كنّا حريصين عند بناء هذا المحترف على المحافظة على الأشجار والمساحات الخضراء حفاظا على جماليّة المكان. الشجرة تحمينا، ولكن علينا أوّلا أن نحميها ونحافظ عليها.

بالحصاد«: كيف يكون العمل منسجما عندما تنحتون جميعا قطعة واحدة؟asharqeye1.678897

_الإخوة عسّاف: نحن منصهرون ببعضنا إلى درجة التخلّي عن الذات، لنا التوجّهات نفسها في العمل، وهذا ما يزيد من نجاحنا.

بالحصاد«: الاستقرار في وادي البصيل بعيدا من ضجيج الناس ألم يغنكم عن المدينة؟

_ الإخوة عسّاف: نشعر هنا طبعا بالاستقرار أكثر وبالراحة في العمل، ولكن هذا لا يغنينا عن المدينة، بل نبقى بحاجةٍ إلى المدينة والمجتمع، فلا يمكن أن نفضّل العزلة الكاملة. لكن يبقى المكان الّذي نجد فيه الفنّ هو المزار لنا، وذلك يشبه منزل جبران الّذي تحوّل إلى مزار، ومنزل ميخائيل نعيمة أيضا… نحن نسعى إلى أن يكون منزلنا ومحترفنا مزارا أيضا لمن يقصد الفنّ ويقدّره.

بالحصاد«: هل الدراسة صقلت عملكم؟

_الإخوة عسّاف: لم نتعلّم من المعاهد، إنّما تعلّمنا من الواقع. من السهل أن نجد العلم في الطبيعة. وقد فعل ذلك من سبقنا، كالفراعنة الّذين نجد رسوماتٍ لهم مقسّمة ومدروسة من حيث المقاييس. كما دخلوا في الجانب السرياليّ من الرسم، فنجدهم رسموا شكل إنسانٍ برأس حصان أو ذئب وابن آوى. ومايكل أنجلو كان سرياليا أيضا. لم يكتفِ الإنسان بنقل الواقع كما هو.

بالحصاد«: من تعريفات النحت، هو إزالة أجزاءٍ من المادّة لخلق شكلٍ جديدٍ منها، أمّا النحت اللغويّ فهو إضافة كلمةٍ على أخرى لخلق كلمةٍ جديدة، بين الإزالة والإضافة والتركيب كيف ترون فنّ النحت؟ ماذا تزيلون من المادّة وماذا تعطونها عندما تنحتونها؟

_الإخوة عسّاف: عندما ننحت نزيل عن المادّة الزوائد لنكشف الحقيقة. داخل الصخرة هناك حقيقة، وحقيقة أيّ عملٍ نقوم بإخراجه نراها مسبقا، وعلى هذا الأساس نعمل. نبدأ بالتصميم، وبعدها ننتقل إلى الحفر. في مرحلة الحفر نزيل الزوائد، كي يبقى المضمون، وقد قال مايكل أنجلو »إنّ النحت هو كنس الغبار عن الصخر لتظهر حقيقته«. نعطي الصخرة هويّة ثانية لتصير شخصيّة أو وجها كوجه شوشو أو ميخائيل نعيمة. نرى عبر العصور كيف حوّلت الطبيعة الكائنات إلى صخور أو أشكالٍ متحجّرة، ولأنّ ذلك لا ينطبق على الإنسان نعمل عمل الطبيعة وننحت وجه الإنسان تخليدا له. دورنا هنا أن نؤرّخ شخصيّاتنا التاريخيّة، لبنان أرّخ لجميع الحضارات الّتي احتلّته ونريد الآن أن نؤرّخ لبنان وحضارته. الحجر سجلّ الحضارات، وله القدرة على مقاومة الزمن الّذي يزيد دائما من رونق المنحوتة. حين نبحث في تاريخ حضارةٍ ما يجب أن ننبش أحجارها أوّلا. من الحجارة عرفنا عن الفراعنة وعن الرومان والإغريق.

كما ننحت أيضا من البرونز، وهي مادّة مهمّة جدّا تتحمّل الصدمات أكثر من الحجر، ولكن الكثير من التماثيل البرونزيّة عبر التاريخ اختفت لأنّها أُذيبت بالنار وتحوّلت إلى أشكال أخرى، وهذا ما لا يمكن أن يصحّ في التماثيل المنحوتة على الحجر. مع العلم أنّ العمل بالحجر يحتاج جهدا ودقّة أكبر كما يتطلّب وقتا أكثر، ولا يمكن فيه معالجة أيّ خطأ قد يحصل.

بالحصاد«: ما هي الإضافة الّتي يقدّمها النحت إلى الفنون البصريّة الأخرى؟

الإخوة عسّاف: الإضافة هي الثلاثيّة في الأبعاد، النحّات هو أوّل من حوّل العمل من صورةٍ إلى عملٍ ثلاثيّ الأبعاد فأعطاها حقيقتها. لعبة الظلّ والنور هي الأساس، ويجب أن نعرف كيفيّة الإفادة من الظلّ لنعطي القطعة واقعيّتها وعندها ينجح العمل، وإلّا ظهر الخلل من حيث الشكل والنسب في المقاسات.

بالحصاد«: هل تتحدّث معكم المنحوتة؟ هل تقدّم لكم بعد أن قدّمتم لها وصنعتموها؟

الإخوة عسّاف: للمنحوتات لغةٌ هي الصمت، والصمت أقوى من الكلام. الصخر له لغة أبعد من الكلام. والكلمة لها حدودٌ ولكنّ الصمت لا حدود له. من هنا أهميّة التجريد، لأنّه يعبّر بهذه اللغة. ولكن التجريد لا يؤرّخ، وما زال الفنّ الكلاسيكيّ محافظا على حضوره، على الرغم من انحياز العدد الأكبر من الفنّانين نحو التجريد ولكن الناس يميلون إلى الكلاسيكيّ من الفنّ. فالواقعيّة هي الأساس وهي الأهمّ لأنّها تكتب التاريخ.

من هنا يستطيع النحّات أن يوفّق بين التجريد والتشخيص، والجماليّة في النحت أن يشعر النحّات بقدرته على نقل فكرته إلى الواقع كي يراها أمامه. من هنا الأهمّ هو الرابط بين اليد والعقل، كي تستطيع اليد تجسيد ما يراه العقل.

بالحصاد«: نرى كيف تسعى الحملات الدينيّة التكفيريّة إلى تحطيم المنحوتات والتماثيل، هل يتعارض الدين مع النحت؟

الإخوة عسّاف: لا، لا تعارض بينهما. الدين يلتقي مع الفنّ. الفنّان شخصٌ مؤمن، ولكنّ إيمانه مختلف. الفنّان يعتبر نفسه مكلّفا من خالقه لتجسيد صورة الإنسان الّتي وهبنا إيّاها الخالق. بينما يدّعي تكفيريٌّ أنّه ممثّل الله وأنّه وباسمه يجب أن يحطّم هذه المنحوتات. في هذا أنانيّة كبيرة، ورغبةٌ في تدمير كلّ ما هو جميل. النحت هو محاولةٌ للحفاظ على صورتنا وتأريخ حضاراتنا، وليس في ذلك ما يتعارض مع الدين، ولكن بعض الممارسات تحاول تشويه الدين. كما أّنّنا نحن لا نصنع تمثالا لنعبده، ومرحلة عبادة الأصنام قد ولّت منذ زمنٍ بعيد، وحتّى تماثيل القدّيسين مثلا ليس المقصود منها عبادة التمثال في ذاته، فالتمثال هنا رمزٌ دينيٌّ للخير ومن خلاله يتواصل المؤمن مع خالقه. نحن ننحت القدّيسين لنخلّدهم ولنذكرهم ونتمثّل بهم وبحسناتهم.

دائما في الدين هناك ما نخاف منه وهناك ما نحتمي فيه. هناك تناقضٌ بين العلم والدين، فالدين يبحث بالماورائيات ويقدّم صورة معيّنة نراها حقيقة. كلّ شيءٍ هو حقيقة، حتّى ما يبتكره خيالنا أيضا. كلّ حقيقة تبدأ فكرة وتتحقّق، وكلّ ما يتخيّله الإنسان يستطيع أن يحقّقه. العقل ينتج الحقيقة، وعقلنا جزءٌ من العقل الكونيّ، لذلك نحن نأخذ جزءا بسيطا من هذه النورانيّة. هذا العقل الكليّ نحاول أن نحصره ونضيّق وجوده لنجعله الله كما نراه، وهذا تصغيرٌ لدوره. هو من خلق المواد والعناصر الأقوى، وكلّ الكون ولد منه.

بالحصاد«: هل للفنّ دوره في تطوّر ورقيّ المجتمعات؟

الإخوة عسّاف: للفنّ دوره الكبير طبعا في هذا المجال، فهو الّذي يكتب تاريخ الحضارات كلّها، وله روحيّةٌ تجعله يساهم في بناء المجتمع. مثلا في أوروبا للفنّ حضورٌ مهمّ، وذلك دليل رقيّ وتطوّرٍ. وحين فصلوا الدين عن الدولة استطاعوا التطوّر لأنّهم تركوا مساحاتٍ وهوامش أكبر للتفكير والتغيير.

بالحصاد«: هذا المحترف لم يكتمل بعد لكن ما زالت الفكرة الحلم لتكملة هذا المشروع موجودة لديكم، هل من الممكن أن تتحقّق هذه الفكرة في ظلّ الظروف الصعبة على صعيد البلد برمّته؟

الإخوة عسّاف: الحلم أكبر من إمكانيّاتنا بسبب عدم قدرتنا على التمويل الكافي، ولكن الآن ستكون لنا شراكةٌ مع شركة البعيني القابضة الّتي ستموّل المشروع، وهذه الفكرة ستتحقّق بشكلٍ أسرع مع دعم الخيّرين الّذين يقدّرون الفنّ. ونعلم أنّ ما نمرّ به في بلدنا اليوم على مساوئه مرحلةٌ ستوصلنا إلى الأرقى، لم نصل بعد إلى مرحلة تخطّي الأنانيّة الفرديّة حفاظا على البلد، والتقسيم يؤدّي دوره السلبيّ في منع الكفاءات من التقدّم، ولكن الحضارات والشعوب في تطوّرٍ مستمرّ ومع الوقت ستتغيّر الأحوال.

بالحصاد«: في إطار استكمال هذا المشروع ما هي الإضافات الّتي ستتمّ؟

الإخوة: ستكون لدينا غرف منامةٍ ومضافاتٌ لاستقبال الفنّانين، كي يستطيع الفنّانون أن يستمتعوا بالحياة في الريف ويشعروا بالهدوء بين ربوع الطبيعة بعيدا من الضجيج والفوضى، وذلك سيسمح لنا أن نتعرّف بإنتاجه. والمشروع واسعٌ يتضمّن أيضا بناء مسرح وإنشاء مكتبة، كما نفكّر في إنشاء سوقٍ حرفيٍّ كي نفتح الباب للحرفيّين الّذين بدأنا نفقدهم ونفتقد عملهم، كمن يعمل بصناعة الفخّار والزجاج والحدادة العربيّة القديمة، وسنسعى إلى خلق فرص عملٍ جديدةٍ لهم كي نتعلّم منهم ونورث حرفهم.

بالحصاد«: العمل الّذي تقومون به عظيم، هل تخافون على عملكم من الزمن؟ هل لديكم هاجس الاستمراريّة؟

الإخوة عسّاف: لدينا هاجس الاستمراريّة، ولا نقصد استمراريّة العائلة والاسم إنّما استمراريّة الفكر والعمل وأيّ فكرةٍ قابلة للتطوّر من بعدنا. والتعليم يخدم الاستمراريّة، فالعمر سينتهي ولكن إن ورّثنا هذه المهنة إلى الأجيال اللاحقة، قد يقدّمون للفكرة ويطوّرونها، وبذلك نضمن الاستمراريّة. وقد سبق أن عملنا مع شبّانٍ وشابّات كي نعلّمهم المهنة. غير أنّ المشكلة تبقى في غياب الدعم الماديّ وعدم قدرة الكثيرين على التفرّغ لهذا الفنّ، لأنّه عملٌ يحتاج وقتا وجهدا كبيرين، والوظيفة تأخذ من طاقة الفرد الفنّان ولا مهرب من الوظيفة في هذه الأوضاع.

بالحصاد«: اختيار الشخصيّات الّتي تنحتونها هل له أسباب محدّدة؟

الإخوة عسّاف: نحاول أن نختار شخصيّاتٍ مهمّة ولكنّها منسيّة في ثقافة العصر، ومنهم شوشو ونصري شمس الدين، وزكي ناصيف، وفريد الأطرش، وسليم مراد العالم النوويّ الّذي سجّل أكثر من ثلاثةٍ وسبعين اختراعا في ألمانيا. نفكّر في الذين ساعدوا في تقدّمنا ونسعى إلى تخليد أسمائهم، لأنّ هذا واجبنا. حين ننحت تماثيل لهم نخلّد أسماءهم، ونترك بصمتنا في كلّ عملٍ نقوم به.

بالحصاد«: في الختام هل من فكرةٍ أو إضافةٍ ترغبون بذكرها؟

الإخوة عسّاف: نتمنّى من وسائل الإعلام أن تذكر اسم النحّات وتعطيه حقّه، فنرى على وسائل الإعلام الكثير من المنحوتات الّتي يُذكر اسم صاحبها. على سبيل المثال مؤخّرا تحدّثوا كثيرا عن تمثالٍ للقدّيس شربل، ولكن لم يُذكر اسم النحّات وهو نايف علوان.

وقد كانت للسيّد مازن البعيني رئيس مجلس الإدارة في شركة البعيني القابضة مداخلةٌ عن التعاون الّذي سيحصل بين الشركة والإخوة عسّاف، قال فيها:

 »مؤسّسو محترف »عسّاف« وهم منصور، وعارف، وعسّاف عسّاف، بدأوا بهذا المشروع منطلقين من أسسٍ وخطّة عملٍ واضحة وكاملة. المرحلة الأولى استُكملت، وهي كافيةٌ لاستقطاب الناس. أمّا الخطّة الآن فهي استكمال المراحل التالية من المشروع وإنشاء أبنيةٍ جديدةٍ لإنجاز ورش عمل، وكي يستطيع هذا المحترف أن يستقبل الفنّانين من رسّامين ونحّاتين من أنحاء لبنان والعالم. عند خلق مثل هذه المساحة للفنّانين لا بدّ من تأمين أمكنة للراحة والمنامة والضيافة، ولذلك ستُضاف أبنية مخصّصة لذلك. نحن كمنتدى تخليد اسم بطل الاستقلال أديب البعيني، لفَتَنا هذا المكان الّذي لا يدخله زائرٌ إلّا ويُدهش بروعته وسحره. وبما أنّنا نعمل في مجال البناء، قرّرنا الدخول كشركاء في هذا المشروع للنهضة به. هذا العمل الّذي نقوم به ليس تجاريّا وليس الهدف منه الربح، إنّما دعم الفنّ والمشاريع الثقافيّة، مع العلم بأنّ الإخوة عسّاف هم أساس المشروع وليسوا بحاجة إلى الدعم وقد شقّوا طريقهم ونجحوا من دون أيّ دعمٍ سابقا. ولكنّنا قرّرنا التعاون معهم وجمعنا من أجل ذلك أهمّ شركات الهندسة للبدء بالعمل على أن نحافظ على جماليّة المكان ونقدّم أفضل إنجازٍ ممكن في هذا المجال.

كثيرون في هذا البلد يريدون أن يدعموا الفنّ وأهله، ونحن منهم. رأينا هذا المكان وجماله وقرّرنا أن نشارك في إنجازه بعد أن أدركنا الجمال في رائحة التراب هنا، فقبل أن ألتزم بأيّ مشروع أزور الأرض لأشمّ رائحتها. والفنّانون الّذين سيزورون هذا المحترف سيشعرون بذلك أيضا، وسيشعرون بجماليّة هذه التربة.«