قبول الآخر

سهير آل ابراهيم

عندما كانت ابنتي الصغرى رناد في الصف الثالث الإبتدائي، قبل سنوات عديدة، قالت لي ذات مساء انها تود أن ترتدي الحجاب! إستغربت من طلبها حينذاك، فأنا لم أكن محجبة، ولا أزال كذلك، كما لم يكن في صفها أو في مدرستها في ذلك الوقت طالبات محجبات، فلم أعرف الدافع لرغبتها تلك، ولكني طبعا لم أرفض طلبها، بل دعوتها لاختيار واحدة من ربطات العنق خاصتي، لترتديها على رأسها في اليوم التالي، على أن تكون بلون يتلاءم مع زيها المدرسي.

و في الصباح كان لرناد ما أرادت، قمت بمساعدتها على ارتداء غطاء الرأس، وعملت على ربطه بشكل جيد، كي لا يسقط أو يعيقها أثناء الدرس أو اللعب. لكني كنت قلقة عليها بعض الشىء؛ قلقة من أن تتعرض لمضايقات من الأطفال الآخرين، عندما تظهر بينهم بمظهر مختلف. والمصادفة انها كانت مدعوة في ذلك اليوم للذهاب مع صديقتها بعد انتهاء اليوم الدراسي.

كانت صديقة رناد، مادلين، تمتلك حصاناً تحتفظ به العائلة في مزرعتهم التي تقع على أطراف مدينتنا هذه. فكانت الطفلة تذهب الى هناك كل يوم، بعد نهاية اليوم المدرسي، مع أمها كي تعتني بالحصان وتتمرن على ركوبه، وكانت بين الحين والآخر تدعو ابنتي للذهاب معها، حيث كانتا تمضيان وقتا ممتعا في اللعب والمرح وركوب الخيل.

كنت انتظر عودة ابنتي في مساء ذلك اليوم بفارغ الصبر، كنت اترقب الاستماع لها وهي تحدثني عن تجربة يومها الأول في ارتداءالحجاب. وعندما عادت كان حديثها كله يدور حول الحصان! سألتها عن ردود أفعال الآخرين اتجاه مظهرها الجديد، فأثارت المزيد من الاستغراب لدي عندما قالت: لا شيء! قلت لها ألم يعلق أي شخص على حجابك؟ ماذا قالت المعلمة؟ ماذا قال الأطفال في صفك؟ فكررت نفس الإجابة؛ لا شيء! سألتها إن كانت قد خلعت الحجاب كي ترتدي الخوذة عندما ركبت الحصان. قالت لا، لأن أم مادلين ألبستها الخوذة بحذر، كي لا تُفسد ترتيب غطاء رأسها!

رغم أن ابنتي اكتفت من تجربة الحجاب لذلك اليوم، ولم ترغب بارتدائه بعد ذلك، ولكن تلك التجربة تركت أثرا طيبا في نفسي، إذ ادركت وبشكل عملي إن الإنسان هنا ينشأ، ومنذ طفولته المبكرة على تقبل الإختلاف وقبول الآخر.

عملت لسنوات طويلة مترجمة في مجال التعليم، فكنت أرافق القادمين الجدد من الطلبة العرب خلال دروسهم، لمساعدتهم على فهم الدرس، كما كنت اعمل على تطوير لغتهم الإنكليزية، مع الاحتفاظ باللغة العربية وتقويتها. وقد عملت مع الكثير من الطلبة والطالبات العرب عبر السنوات، ولكني أذكر من بينهم تلك الفتاة التي كانت في المرحلة المتوسطة، كانت في الخامسة عشر من العمر، وكانت ترتدي النقاب.

عندما أحضر والد الفتاة ابنته لتسجيلها في المدرسة، طلب مني مدير المدرسة أن أبين لهم أن نظام المدرسة يمنع غطاء الوجه، ولكن لا بأس من ارتداء غطاء الرأس، على أن يكون بلون محدد يتماشى مع زي المدرسة الموحد. لم يعترض الوالد ولا ابنته على ذلك، بل وأذكر أنه قال: النظام نظام! وعندما باشرت تلك الفتاة بالدوام في المدرسة، كانت تزيح الغطاء عن وجهها في الصباح، عند بوابة المدرسة، فتدخلها سافرة الوجه، وتعيده كما كان عندما تغادرها في نهاية اليوم الدراسي، كانت بوابة المدرسة بالنسبة لها الحد الفاصل بين عالمين. وقد اكتسبت بذلك اعجابي واحترامي، مثلما حازت على إعجاب واحترام مدرسيها، لان تلك الفتاة اثبتت احترامها لانظمة المدرسة، ومعرفتها الحد الفاصل بين حياتها الخاصة النابعة من ثقافة مجتمع معين، وحياتها المدرسية التي ترتكز في معظم جوانبها على ثقافة مجتمع آخر، يختلف بشكل كبير عن مجتمعها وعاداته وعقائده. ولم تكن تتعرض للسخرية أو العنف اللفظي من الآخرين، فالمجتمع هنا يخضع لقوانين تحترم حقوق الانسان وتضمن حرياته.

أقرأ أحياناً على صفحات التواصل الاجتماعي العربية آراء بعض النساء والرجال المعارضة للحجاب والنقاب، فأجد بعض تلك الآراء قاسية، يعبر عنها أصحابها بعبارات مؤلمة جارحة. منهم من يقول أن النساء المحجبات أو المنقبات مغلوبات على أمرهن، ولا يرتدين تلك الأزياء بإرادتهن. قد يكون الأمر كذلك بالنسبة للبعض منهن، ولكني لا أفهم دور تلك العبارات الجارحة في مساعدة أولئك النساء المقهورات. ولان اللون الأسود هو الغالب على أزياء الحجاب، فقد قرأت وفي أكثر من مكان، عبارات تُشبّه المنقبات بالتحديد بأكياس القمامة، ونعوت أخرى مغمسة بالكراهية، لا ينضح منها سوى البغضاء والضغينة! والغريب في الامر أن أصحاب وصاحبات تلك الاّراء يعتبرون من ترتدي ذلك الزِّي ضحية، ولا ادري كيف تتم مساعدة الضحية عن طريق مهاجمتها! وكأن ذلك الزِّي لا يضم بداخله إنسانة لها حس وشعور وكرامة وقيمة إنسانية!

أرجو أن لا يُعتبر مقالي هذا دعوة للحجاب أو النقاب، فأنا، وكما ترونني، لا أرتديهما، ولكني لا أجد مشكلة في ارتداء نساء أخريات لهما. لا أشعر بالنصر عندما تُعلن بعض الدول أو المؤسسات منع ارتداء الحجاب أو النقاب، لأني لا أعتبر من ترتدي ذلك الزِّي عدوة لي، لست معها في ساحة قتال.. لست معها في موقف الغالب والمغلوب. وان كان الامر يتعلق بالنساء المقهورات، فما أكثرهن في بلادنا، ولسن جميعا محجبات أو منقبات، فالقهر والإكراه يأتي بأشكال مختلفة، قد تعيها المرأة أو قد لا تعيها. اما بالنسبة لمن يجد في الامر مشكلة، فأعتقد ان تلك المشكلة يجب أن تُطرح بشكل موضوعي، تُعرض تفاصيلها وتُقدم مقترحات لحلها، لأن الإضطهاد والعنف اللفظي لا يقدم الحل لأي مشكلة كانت. لا يمكن معالجة القهر بالقهر.

لدينا في مجتمعنا مشكلة تكاد تكون ظاهرة عامة؛ وهي مشكلة رفض الاختلاف ومحاربته. مشكلة في تقبل الآخر المختلف! تلك مشكلة يفرزها الجهل وضيق الأفق والمستوى المتدني من الوعي. بلا شك هنالك نساء مُكرهات على ارتداء الحجاب أو النقاب، وهناك أخريات يرتدينه باختيارهن، يرتدينه عن قناعة. ولي منهن صديقات مقربات أعتز بهن وأكن لهن كل الإحترام والتقدير، لأنهن خرجن عن الاطر التقليدية المرسومة للمرأة في مجتمعنا، وحياتهن لا تدور فقط حول انتاج ألذ الاطباق واللحاق بآخر صيحات الموضة ومكملات الجمال، بل انهن يُحلّقن في فضاءات أوسع من ذلك بكثير؛ فضاءات العلم والمعرفة والثقافة والأدب، والعمل على تقديم ما يعود بالنفع على المجتمع والانسانية.

يعاني مجتمعنا من مشاكل كثيرة، ولكني اعتقد ان ثقافة التعايش السلمي وقبول الآخر المختلف تفتح الأبواب وتعبد الطريق نحو مجتمع اكثر تحضراً، مجتمع انساني يسوده السلام والمحبة والأمان.