ضاحية واحدة مدن كثيرة ليوسف بزّي

تأمل طبيعة الوعي الذي يصدر عن الواقع العربي

بيروت من ليندا نصار

ينطلق الكاتب يوسف بزّي في رحلته تجاه »ضاحية واحدة مدن كثيرة« من بيروت، وفي المدينة نفسها يصدر كتاب الرحلة عن دار رياض الرّيّس في ثلاثمائة وواحد وخمسين صفحة، حيث يجعل من الصحفي عابرا بين ضفاف عديدة لا تقف عند الدول العربية بل تتجاوزها نحو عديد من المدن العالمية، متجولا فيها وراصدا لهوامشها في اتصال وثيق بين الذات وما تخلفه الجولات من أثر لا يزول إلا بواسطة بلاغة المقارنة التي منحت للقارئ إمكانات لا نهائية من الإقامة في الذاكرة التي ترشح منها صور إنسانية مفعمة بالدهشة التي تترجمها الرحلة إلى مشاهد سينمائية جسدت بالملموس قوة سؤال الكتابة في النص من جهة، ومن جهة أخرى إرباك القارئ على مستوى تجنيسه، لتغدو الذاكرة في هذا العمل نصا مفتوحا على كل الاحتمالات بما فيها الرحلة نفسها التي تتخذ شكلا دائريا يجعل من بيروت نقطة البداية والنهاية لما لها من ثقل على الذاكرة وتخييلها.

يحمل الكتاب عناوين كبرى تليها عناوين صغرى، وهو أشبه بذاكرة مفتوحة تفتح كوة عميقة، وهي تعبر بنا، وتقحمنا عن طواعية في رحلة حول العالم، ومن سماتها قوة الطرح على مستوى استكشاف حقيقة الإنسان وعلاقته بالتفاصيل، وتدوين واقعيتها بجرأة عن طريق سرد الحدثي، ورصد الصور المختلة والمتوازنة فيها. إنّنا أمام كتاب مفتوح لاستكشاف الحضارات، والثقافات التي يحفل بها سواء أتلك التي ارتبطت بأسماء المثقفين والفنانين والسياسيين العرب والعجم أم بالدّول والأماكن السّياحيّة الّتي تميّز كلّ بلد، فضلا عن مواصفات المطارات والأوتوسترادات والمحطّات والفنادق والشّعوب وغيرها…. حيث لا يكتفي بعرضها، بل يحيل إلى تاريخها وحضارتها والحكّام الّذين تولّوها في حقبات معيّنة من التّاريخ…

 يوسف بزي... كتابه بوابة حلم للاقامة في الذاكرة
يوسف بزي… كتابه بوابة حلم للاقامة في الذاكرة

يتضّمن الكتاب مقدّمة وثمانية عشرة فصلًا مضيفًا إليه فهرسة الأعلام والأماكن وكأنّه يقوم ببحث أكاديميّ قصير. أمّا العناوين الكبرى للكتاب فهي: بين المدينة والضّاحية، بين الطّهارة والنّجاسة- ألا فلتبتلعني باريس ذ الإسكندرية بعد خسارتها صالات السّينما والجاليات الأجنبيّة وترعة المحموديّة ذ روما… أو العالم خارج الشّرق الأوسط ذ غزّة2009: الدّخول إلى غزّة التّاريخيّة ذ لوديف الفرنسيّة )1( تجمّع شعراء المتوسط صيفًا ذ لوديف الفرنسيّة )2( »فيف لو ليبان ليبير« هتفت السّيّدة الفرنسيّة ذ لوديف الفرنسيّة )3( المتوسّطيّة: قهوة إيطاليّة، جيران جزائريّون، أقرباء إسبان، طبيب لبنانيّ ذ الزائر في كنف الفرنسيّين وشهداء استعمارهم ذ برلين لايبزغ أو ألمانيا الأوروبيّة الكثيرة العمران والكتب- قاهرة الثّورة والعنف والسّياسة ذ »غوا«: الرّجل البريطانيّ أتى إلى مستعمرته القديمة ليفهم العالم ذ أكراد ديار بكر يسابقون تركيا إلى الأوربة ذ بغداد »الكونكريت« و»الحواس« والأقفال السّبعة ذ أيّام اسطنبوليّة ذ إربيل المسرعة إلى أعمارها في عراق مسرع إلى خرابه ذ قبل الوصول إلى لوبيليانا ذ ثلاثة أجيال في أطياف مدن متفرّقة.

يترجم الكتاب وعيا عميقا بأسئلة الكتابة التي تتمثل من خلال جمالياتها في سرد الحدثي المتصل بالإقامة في الأمكنة، وتجربة السفر، وبثّ تصوّرات الكاتب العامّة في أثناء تصوير المشاهدات، وتميز مواقفه التي تعبّر عن الأفق الاجتماعيّ والسّياسيّ، إضافة إلى مقارناته الضمنية بين طبيعة حياة المدينة والفرد المدينيّ وقبوله بالتّغيير والتّحوّل الّذي أصاب المنطقة بسبب الظّروف والأوضاع السّياسيّة والمصالح الشّخصيّة، وطبيعة الأنا التي تمثلها ثقافة الأنا الرافضة للآخر ومنطق »التقليد الأعور«، والانسياق نحو الحداثة الزائفة.

حداثات مؤجلة

تحضر الحداثة في نص الرحلة عبر تعالقاتها بالمظاهر الاجتماعيّة بوصفها تغييرا وإعادة تفكير، وقبولا بصيرورة الأشياء، ومن الإشكالّات المطروحة: صعوبة تبني الحداثة في الثّقافة العربيّة وفق التّغييرات …

يرقب الكاتب تحوّلات الأمكنة والأشخاص؛ ليقيم تفكيره في حيواتهم المختلفة المبنيّة على عدم الاستقرار النّاتج عن الحرب وعمليّات التّهجير، وفي الوقت نفسه يسخر من الواقع المعاش، ويبثّ هذه الشّحنات الدّلاليّة للتّعبير عن الأفق الحياتيّ والاجتماعيّ؛ حيث يقوم بدراسة المثاقفة وآليّات التفكير الحديثة وأفقها المنفتح رغبة في تحقق رؤيا استشرافية تهم أساسا التّغيير المطلوب. وعلى الرّغم من ميول العرب إلى الحداثة إلا أنها ما تزال مرفوضة على المستوى الثقافي من جهة، وتمثلها كقشرة في المظاهر الاجتماعيّة.

  يسعى الكاتب في النص الرحلي إلى تفكيك إشكاليّة الهويّة العربيّة ورصد تمثيلاتها، وتصوير رفضها للغرب عن طريق إظهار صراعها القديم على الرّغم من تقليدها له، أو يسميّه الكاتب بـ»التّقليد الأعور«؛ إذ يرى أن بيروت في مرآة الجماعة؛ فيعمد إلى التطرق إلى حياة المدينة وأنماط عيش أهلها؛ وكأنّه يعدّ هذه الحداثة زائفة أو ناقصة؛ لأن العرب يتمسّكون بتقاليدهم؛ حيث يتكوّن الفرد داخل هذا المجتمع المدنيّ في التّغيير المفروض عليه حسب طبيعة البيئة بوصفه تغييرا أو تحوّلا جزئيّا؛ فهو كمن يأخذ طرفًا من التّطوّر؛ وهذا التصور يحضر بعده تصورا مغايرا لموقف الكاتب يوسف بزّي الّذي اكتسب وعيًا بأسئلة الكتابة وقدرتها على هدم الحدود، ومنطقها الرافض للتصورات الجاهزة، وهو ما يترجمه نصه الذي يبرز مدى تمكن الكاتب من إمكانات التصوير المتوازنة؛ فأصبح قادرًا على التّعبير عن علاقته بالأشياء والعالم وتقبّله للاختلاف الّذي رفضه معظم الّذين يدّعون هذه الحداثة أو يعيشون في ظلّ خيمة من شعاراتها.

جماليات العبور

يُظهر الكاتب ولعا شديدا بشخصيّة الشّاعر الكاشف والمتطلع لبناء رؤى جمالية مختلفة تمنح من التجربة الذاتية الحياتية، ومواقفه التي بناها انطلاقا من تأثره واحتكاكه بظروف الحياة السّياسيّة والاجتماعيّة، والتّهجير الّذي عاينه في مرحلة الوعي الطّفوليّ، فيمثّل دور الرّقيب الّذي يعبّر عن انطباعاته، وما تلتقطه عينه من مشاهد قاسية قد تصل إلى حدّ الألم وسطوته على الذاكرة.

يتأمل يوسف بزّي في طبيعة التحولات وأسئلتها المربكة عبر تقمص دور المحلّل السّياسي والاجتماعيّ الذي لا يستكين إلى زاوية أحادية ثابتة، بل ينظر إلى الأشياء من وجهات نظر متعددة غير نهائية؛ فتحضر بيروت بوصفها الوطن الأم، والدّول الّتي يرغب في استكشافها في أثناء تجربة التنقل والارتحال بواسطة عمله الصّحفيّ وجولاته حول العالم؛ ليغدو القلم أداة لرصد بنيات التّضادّ في أساليب العيش ونمط الحياة، ليقدم إلينا في هذا الكتاب الممتع عينا لاقطة لما هو محدود وغير محدود في الآن نفسه، وكذا الاستقرار واللا استقرار، بين الإقامة في بيروت والسّفر…محاولًا البحث عن شبيه لما رآه في الدّول الأوروبيّة مستحضرا الحرب اللّبنانيّة التي يستعيدها في الكتابة بشكل يجعل الجرح يتكرر مرتين في الذاكرة وحاضرها على الرغم من انّ الجرح يكاد يكون جميلا في كتابة الألم التي نجح الكاتب في تصويره بقساوة سخريته اللافتة التي يدسها بحساسيته الإبداعية في التخييل؛ حيث تصبح شخصيّة الشّاعر واعية حتى وهي تصطدم مع واقعية الواقع بعد جملة من الصفعات التي يتلقّاها من الأحداث الرّاهنة.

إن كتابة يوسف بزّي تتميز بمجموعة من الخصائص الجمالية سواء على مستوى التصوير الذي يعتمد التناوب من أجل إبراز طبيعة تشكل الصور المختلة والمتوانة في عملية المثاقفة، وجماليات المقارنة التي لا تتخذ مظهرا تقريريا صرفا بقدر ما تعمد إلى بسطها بواسطة السرد والذاكرة والسخرية؛ ففي خلال رحلته لم يتوقّف عن تذكّر صور بيروت، وكان يتمنّاها كما الدّول الأوروبّيّة بأنظمتها وانفتاحا واهتمامها بالثّقافة وخصوصًا الشّعر.

وتتبدّى دهشة الكاتب في محطة العبور إلى عاصمة الأنوار باريس أمام معالمها الحديثة والغريبة؛ فيقف متأمّلًا متحف اللّوفر، والعمران، والشّوارع، ومطار شارل ديغول، وتمثال موليير. ليعود بتفكيره تحت هاجس المقارنة إلى بيروت وما عايشه. واصفا ليلته الأولى فيقول: »لا نشرات أخبار عربيّة لبنانيّة ولا برامج توك شو تسمّ الأبدان فقط انفتاح مغامرة للماء والهواء البارد المنعش«. إن طبيعة الرؤى تجعل الرحالة يدرك الفروقات والتمايزات التي يمرر عبرها رفضه لبعض المظاهر الثقافية التي تسم وطنه الأم، فالصور وأشكال التحضر لا ترتبط فقط بما هو خارجي بقدر ما تتصل بالإنسان على مستوى التهذيب، والانضباط. إن عقارب الزمن تبدو متباينة في عدّ إيقاع الحياة بين العاصمتين.

يتحدّث يوسف بزي عن الجيل الجديد من الفرنسيّين بوصفهم يتقاسمون بعض الخاصيات مع شباب بيروت، ملمحا إلى العناية الخاصة التي يوليها الفرنسيّون إلى الكتب والمكتبات فجادة سان ميشال مليئة بالكتب إلى درجة أن الكاتب يصفهم بـ»شعب القراءة«، وميلهم نحو الفنّ عامة.

كما يدمج الكاتب في سرد أحداث رحلته أسماء غربيّة للأمكنة والأشخاص تعبّر عن ثقافة الكاتب الذي يقدم إلينا لمحة تاريخيّة عنها، ويأخذنا بعدها إلى الاسكندريّة، ويغوص بنا في حضارتها مقارنًا بين الماضي والحاضر، ومتأسّفًا على الاسكندريّة القديمة ومعالمها كما هو الأمر بالنسبة إلى المرفأ، والعمران، وحركة التّجارة مستحضرا أزمنتها المتعددة حتّى أيّام المماليك والاسكندر المقدوني؛ وكأنّه يصف خسارة الاسكندريّة وتشوّهاتها الحديثة؛ هذه التّحوّلات الّتي يرصدها الكاتب بدأت من مدينة بيروت لتغدو سمة مميزة للمدينة العربية في صيرورة هذا التّحوّل الذي قوّض كثيرا من الملامح التي كانت تجعل من عتاقتها شكلا من أشكال الحداثة التي تخترق الأزمنة.

كما يتميز كتاب الرحلة هذا بقدرة الكاتب الفائقة على تصوير جولته داخل روما بعمرانها الرومانيّ القديم ومنحوتاتها، كما ينتقل بنا أيضا إلى عقد مقارنة جميلة بين غزة التي شكلها متخيله، وغزة الواقع راصدا اختلافا عميقا بين واقع بيروت وواقع الغزّاويّين بوصفهم شعبا يصر على التّفوّق على الفقر، وتعلّقهم بمستوى لائق من الحياة. فعلى الرّغم من نكبتهم إلا أنّهم حافظوا على مظاهر الوفرة، فيمرّ بصورة سريعة على الشّوارع، والطّبابة، والمستشفيات، وعصريّة أهلها، ومنافستهم العدوّ الإسرائيليّ انطلاقًا من محبّتهم للحياة. ولا ينسى مستشفى الشّفاء أشهر مستشفى في العالم، ومركز كاميراته الّذي يجسّد الألم والجرح الفلسطينيّ، ويختصر أحداث القضيّة الفلسطينيّة فهو وثيقة تاريخية لما حدث. كذلك يكتب عن صراع فتح وحماس.

كما يعقد مقارنة بين ألمانيا وبيروت؛ وكأنّ الكاتب يتأرجح بين عالمين داخل بيروت عالم الواقع وعالم الحلم؛ ففي ألمانيا ثمة خرائط تفصيليّة بالمناطق لتحديد الموقع وهذا الأمر ما زال بدائيًّا في لبنان. ويمرّ بنا على الجزائر ليجعلنا نكتشف أنّ الثورة تمسّ اللّغة والفكر والأدب.

يتقدّم بزّي في الكتاب عبر الزّمن فيصل إلى القاهرة وميدان التّحرير 2012 والشّغب في الشّوارع ويمثّل الكاتب دور المحلّل السّياسيّ والصّحافيّ الّذي يكشف عن حقيقة الأحداث. ثمّ يقارن بين مطار بيروت وفراغه ومطار الشّارقة وازدحام الناس تعبيرًا عن عولمة السّفر الّتي تفوق مطار بيروت. ويتطرّق إلى المهرجانات الثّقافيّة في تركيا حيث تجتمع اللّغات والثّقافات…ليعود بنا في النهاية إلى تمزقات بيروت وتحوّلها إلى مدن صغيرة، ويبقى العيش المدنيّ في راس بيروت والحمرا. ليتذكّر هنا الكاتب طفولته ونمط حياته مع والديه ليسلّم المهمّة إلى ابنه الّذي ستكون له حياة أفضل في بيروت. ليختم كتابه بهذه العبارة: »كيف يمكن أن نجعل الحجر يتنفّس؟ ذاك ما هو ملقى على عاتق ابني وجيله، كي لا تبقى بيروت كما عشناها فكرة افتراضيّة مستحيلة«.

إن كتاب يوسف بزي هو بوابة نحو حلم يقيم في حدين: حلم بالإقامة في الذاكرة بوصفها أداة لرؤية الحاضر واستشراف المستقبل، وحد الخوف من تهديم حداثات تظل مؤجلة، وفي المضايق أيضا، حيث يبدو أن الرحلة هنا تقدم إلينا رؤى جمالية بين وعي الأثر المرتبط بالثقافة والفنون بوصفها شكلا من أشكال التحضر، وزيفها في واقع المدن العربية التي تخلصت من كل مظاهر الحداثة التي لم تعد ماثلة لا في المعمار ولا في الإنسان. إن الكتاب يدفعنا إلى تأمل طبيعة الوعي الذي يصدر عن واقعنا العربي غير أن الكاتب نجح في تقديم صورة متوازنة عن حضارتنا، والأمل الذي ينشده الكاتب في الجيل الجديد الذي يحمله الابن، ويسلم إليه في صورة إنسانية تترجم الرؤيات الجمالية التي هي بأمس الجاجة إليها من أجل حوار فعال بين الأجيال بعيدا عن منطق الوصايا القاتلة لكل إبداع متجدد يمكن أن يحصن الأفق الذي يمكن أن يسهم في بناء حداثات لا تبقى في مستوى التنظير بقدر ما يمكن تلمس جمالياتها في الحياة.